في عددها لشهر شوّال 1384هـ (فبراير 1965م)، نشرت “القافلة” استطلاعاً مصوّراً بقلم محمد عبدالمنعم خفاجــي حــول مدينة شَحات الأثرية في ليبيا. وفيما يأتي بعض ما جاء في هذا الاستطلاع:
على سفح الجبل الأخضر، وبين البيضاء ودرنة وسوسة، تقع شحـات المدينـة الحالمـة التي خلَّدها التاريخ.
عمر شحات اليوم هو 2500 عام فحسب. فقد أنشئت نحو عام 631 ق.م، باسم “قورينة”. قريبة من شاطئ البحر المتوسط، وفي موقع فريد، على ربوة عالية، وبجوار عين ماء جارية. ومنظر شاطئ لا يبعد عنها أكثر من 18 كلم، منظر فريد بالغ غاية الروعة.
كانت “قورينة” (شحات) أولى المدن الإغريقية التي شيّدها الإغريق في إفريقية قبل الميلاد بقرون. ولا تزال آثارها باقية شاهقة، تدل على عظمة هذه المدينة وعلى حضارتها القديمة.
ففي القرن السابع قبل الميلاد، كان الإغريق يعيشون في ظلال تنافس شديد، وكان هذا التنافس عاملاً رئيساً في نشوب الحرب بين بعضها والبعض الآخر من جانب، وسبباً كذلك في ازدهار الحضارة الإغريقية من جانب آخر. لأن كل مدينة كانت تنافس أختها في تشجيع العلوم والفنون والآداب. وفي عام 631 ق.م. هاجرت جماعات من جزيرة يثرا اليونانية (سانتورين حالياً)، بقيادة مغامر منهم اسمه “باتوس”، قاصدين ليبيا، ونزلوا في إقليم برقة، فرحَّب بهم الليبيون، وتخيروا لهم في بلادهم موقعاً فريداً نزلوا فيه، وشيدوا عليه أول مدينة إغريقية في الشمال الإفريقي، سموها قورينة (شحات). وفي هذه المدينة بدأ الإغريق حياتهم الجديدة في ليبيا بقيادة زعيمهم باتوس الذي اختاروه ملكاً لمدينتهم…
بذل الإغريق كل جهودهم لرفعة شأن قورينة وإعلاء مكانتها، فصارت مركزاً خطيراً من مراكز الثقافة الإغريقية على شواطئ البحر المتوسط، وازدهرت فيها العلوم والفنون والآداب. وظهر من أبنائها عدد كبير من الفلاسفة والأدباء والشعراء الذين ذاع صيتهم في كل مكان.
فمن أشهر فلاسفتها “أرستيبوس، الذي أسَّس مدرسة فلسفية كبيرة فيها. ومن أشهر شعرائها “كاليماخوس” الذي كان من أساتذة الأدب وسدنته في عصره، وكان عالماً كبيراً من علماء اللغة والنحو، واختاره بطليموس الثاني ملك مصر أميناً عاماً لمكتبة الإسكندرية. ومن علماء قورينة المشهورين “أراستيونيتس” الذي خلف أستاذه كاليماخوس في منصب أمين مكتبة الإسكندرية، وهو من أعظم الجغرافيين القدامى، وقد نجح في قياس محيط الكرة الأرضية قياساً لم يختلف كثيراً عن القياس العلمي الذي توصل إليه العلماء بعد ذلك.
وشيّد الإغريق فيها مسرحاً لعرض التمثيليات عليه، وآثاره باقية فيها حتى اليوم، كما شيّدوا أسواقاً عامة ونادياً رياضياً للشباب، وعدداً كبيراً من الإدارات الحكومية، ولا تزال مقبرة الملك باتوس وكثير من المقابر الإغريقية باقية حتى اليوم. ومن آثار شحات التي يراها الزائر لها: الينابيع، والساحة، والمجمع، وهياكل بعض المعابد، وغير ذلك من الآثار النفيسة.
وبعد حكم البطالسة بسط الرومان سلطانهم على إقليم طرابلس، ثم على إقليم برقة ابتداءً من عام 96 ق.م. وهاجر كثير من الرومانيين إلى قورينة، وأثروا ثراءً كبيراً، وأقاموا المباني الفخمة والمنشآت الضخمة كالحمامات الكبرى والمسارح المدرجة والملاعب وأقواس النصر.. واقتبسوا كثيراً من ألوان الحضارتين الفينيقية والإغريقية.
ولما انقسمت الإمبراطورية الرومانية عام 395م إلى شرقية وغربية، وضعفت الغربية ثم سقطت عام 476م، خضعت قورينة للحكم البيزنطي منذ عهد جستنيان عام 533م، وظلت تحت الحكم البيزنطي إلى أن فتحها عقبة بن نافع عام 642م. فدخلت قورينة تحت الحكم الإسلامي.