منذ أن راح بناؤه يعلو في سماء الظهران، أدرك كل من شاهده ولو من بعيد أنه أمام منجز فريد من نوعه. إنه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، هدية أرامكو السعودية إلى المجتمع، الذي دشَّنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، يحفظه الله، في مطلع ديسمبر الماضي. فمن المهمة التي حدَّدتها له أرامكو السعودية، إلى أدق تفاصيل مكوّناته وبرامجه، مروراً بمبناه المدهش في تصميمه الطليعي على مستوى العالم، يمثل هذا المركز نقلة عملاقة وغير مسبوقة في العمل على نشر الثقافة والمعارف في المملكة. وليس من المبالغة القــــول بألا مثيل له في العالم، فهو متفرد شكلاً ومضموناً. في هذا الملف يصطحب فريق التحرير القارئ في إطلالة بانورامية على هذا الصرح الثقافي، لمعرفة بعض خصائصه ومكوّناته، وما يكشف عنه من تطور طرأ على العمل الثقافي وحتى على مفهوم الثقافــة في عصرنا.
إنه الصرح الثقافي الوحيد الذي تُجاورُ فيه معارض الفن المعاصر والفنون القديمة معرضاً مخصصاً لشؤون الطاقة وتقنياتها وآخر للصور التاريخية، كما تُجاورُ مكتبته الضخمة مسرحاً للعروض الفنية وآخر متعدِّد الوسائط، وورش العمل التي لاحصر لها تجاور موقعاً إلكترونياً للتعلُّم، كما تجاور قاعة للعروض المستقدمة من أرجاء العالم مختبر الأفكار وبرامجه الداعمة للمبتكرين..وصولاً إلى متحف الطفل بأقسامه وفروعه العديدة. وعندما نضيف إلى ذلك مجموعة ضخمة من البرامج التربوية والتعليمية والمنشورات المتنوِّعة نصبح أمام صورة، تكاد تكون متكاملة عن ماهية مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي.
أرامكو السعودية؟ لماذا؟
سكان المنطقة الشرقية وعموم المواطنين في المملكة يعرفون الجواب. ولكن، قد يكون من حق القارئ البعيد أن يتساءل: ما الذي يدفع عملاق صناعة الزيت والغاز إلى إنشاء صرح ثقافي على هذا المستوى من الضخامة والتطور؟. والجواب هو: إنه الدافع نفسه الذي حمل الشركة في الماضي على إنشاء أول محطة تلفزيونية في منطقة الخليج العربي، وبناء المدارس في أواسط القرن الماضي، وإصدار المجلات الثقافية بالعربية والإنجليزيَّة، وإطلاق برامج التدريب والابتعاث الجامعي، ومسابقة وطنية لرسوم الأطفال، ومهرجان ثقافي سنوي وغير ذلك كثير.. فمنذ تأسيسها وحتى اليوم، التزمت أرامكو السعودية قيمة “المواطنة”، التي تعني المساهمة والعمل على الارتقاء بمحيطها على كافة المستويات الممكنة، وفي مقدمتها نشر المعارف والتعليم. وقد كانت برامجها وتقديماتها في هذا المجال تتبدَّل وتتطوَّر لتواكب الحاجات المستجدة والإمكانات المتوفرة. إلى أن كان القرار بإنشاء هذا المركز الذي يمثِّل الحلقة الأكبر والأوسع من سلسلة مبادراتها في مجال تنمية المعارف.
فخلال احتفال الشركة بمرور 75 سنة على تأسيسها، أعلنت عن مبادرتها الوطنية الطموحة إنشاء مركز ثقافي يتماشى مع الاستراتيجية الوطنية للتحوُّل إلى مجتمع معرفي، وأطلقت عليه اسم الملك عبدالعزيز يرحمه الله، التزاماً وامتناناً لدوره القيادي في نهضة المملكة. وارتأت بناء هذا المركز بالقرب من بئر الخير في الظهران، الأولى التي تدفق منها الزيت بكميات تجارية، لما في ذلك من دلالات. فبئر الزيت تلك كانت أول مصدر للثروة الاقتصادية، ويسعى هذا المركز الثقافي إلى أن يطوِّر مصدر ثروة أكبر يتمثل في بناء الإنسان وتطوير الطاقات الخلَّاقة الكامنة في المجتمع.
وظيفته والغاية من إنشائه
حدَّد المسؤولون في أرامكو السعودية مهمة المركز انطلاقاً مما طرأ على مفهوم المعرفة ودورها الاجتماعي والاقتصادي من مستجدات خلال العقود القليلة الماضية. فقد تعاظم دور الابتكار في تشكيل فرص اقتصادية جديدة ومجزية، تنعكس إيجاباً على الأفراد والمجتمعات على نحو غير مسبوق، خاصة بعد تطور التكنولوجيا الحديثة. وظهر مصطلح جديد هو ” الاقتصاد المعرفي” الذي يشير إلى الاقتصاد القائم أساساً على الإبداع، حيث تلعب المعرفة دوراً أهم من أدوار رأس المال واليد العاملة والموارد الطبيعية كما هو الحال في الاقتصادات التقليدية. وتشير مصادر الأمم المتحدة إلى أن اقتصاد المعرفة بات يشكِّل نحو %7 من إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي، وهو ينمو حالياً بمعدل %10 سنوياً، وفي بعض الدول المتقدِّمة مثل الدول الإسكندنافية، قارب حجم الاقتصاد المعرفي نصف حجم الناتج المحلي العام منذ عام 2005 حسب مصادر البنك الدولي.
ولأن المملكة وضعت استراتيجية للتحوُّل بالمجتمع السعودي إلى مجتمع معرفي يسهم في تنويع مصادر الدخل الوطني، ناهيك بما لذلك من آثار إيجابية على توفير فرص العمل وحياة الفرد والمجتمع، تقرر أن تكون مهمة المركز إحداث تأثير إيجابي في أفراد المجتمع من خلال الاستثمار في ميلهم الفطري إلى الاستطلاع والاكتشاف، وذلك بتغذية الشغـف بالمعرفــة والإبـداع وتعزيـز التواصـل الحضــاري مع العالم.
ولأن الصناعات التي تقع في صميم الاقتصاد المعرفي هي تلك التي تتقاطع فيها الفنون والعلوم والثقافة وإدارة الأعمال والتكنولوجيا، تقرَّر أن يكون هذا المركز جسراً بين الفنون والعلوم، التي يفصل التعليم التقليدي ما بينهما، يعمل على إثارة الفضول وإتاحة الفرص وتحدي العقول من خلال الموارد التقليدية وغير التقليدية على حدٍّ سواء. وانطلاقاً من هذه الرؤية، تحدّدت مكوّناته وعناصره الرئيسة، وطبيعة برامجه وأنشطته، التي تُختزل الغاية منها في الشعار الذي يرفعه المركز، ألا وهو “إثراء الفكر وإلهام الخيال”.
فمن خلال توفير بيئة تفاعلية تلهم كل من يزوره، سيتيح المركز بجاذبيته واحتضانه الجميع، فرصاً غيرَ مسبوقة لزواره من طلاب وباحثين وفنانين وعلماء وأسر وشباب وأطفال وكبار، بصفته عاملاً مساعداً على تشكيل شخصياتهم أفراداً ومجتمعاً، وعلى استكشاف طاقاتهم الفكرية والإبداعية. فمهما كان هدف الزائر، فإن المركز مصمم من حيث العمارة والبرامج على نحو يضمن له الحصول على المعرفة في الفنون والعلوم والمعارف الإنسانية.
والمركز ليس محدوداً بالمنطقة الشرقية من المملكة، بل لديه مجموعة واسعة من البرامج التعليمية تطال كافة أرجائها، مثل مبادرة إثراء الشباب وبرامجها المتعدِّدة، وبرنامج إثراء المعرفة، كما يوفر فيضاً من المواد على موقعه الإلكتروني، تشمل تشكيلة كبيرة من الموضوعات التي تتيح للشباب أن يخوضوا تجارب ثقافية افتراضية، فيها كثير من المتعة والمواد المثيرة للفضول.
المكوّنات الرئيسة للمركز
تعطي المكوّنات الرئيسة للمركز فكرة عامة عن حجمه، وتنوُّع مجالات المعرفة التي يسعى إلى تغذيتها، وتشمل هذه المكونات ما يلي:
المكتبة
من لوازم أي مركز ثقافي، ولكن مكتبة هذا المركز هي أكثر من مجرد سلسلة طويلة من الرفوف المليئة بالكتب. إذ ينصبّ الاهتمام فيها على التعلّم التفاعلي، مع وجود طاقم من المتخصصين لمساعدة الزوار في الحصول على المعلومات والكتب التي يريدونها. وهذه المكتبة التي تبلغ طاقتها الاستيعابية نصف مليون كتاب تضم اليوم أكثر من 220,000 كتاب بالعربية والإنجليزية، ودوريات ودراسات في المحفوظات الرقمية. كما تتضمَّن أيضاً مرافق مخصصة للعمل البحثي في مجالات أكاديمية متخصصة. وهي المكان الذي يحتضن المبادرات الثقافية ذات الصلة بالكتابة والقراءة كمسابقة القراءة الوطنية “أقرأ”، ومحاضرات وندوات الكتاب والمثقفين. وستستمر مقتنيات المكتبة بالتطور والتجديد بما ينعكس إيجاباً على خدمة الجمهور على أفضل وجه، استناداً إلى النتائج التي توصلت إليها دراسة شاملة لأنماط القراءة عند السعوديين، أجراها فريق المكتبة، واستطلع خلالها الاهتمامات والعادات القرائية لنحو 18,000 شخص من جميع أنحاء المملكة.
خادم الحرمين الشريفين يبارك انطلاقة المركز
ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها تدشين مشاريع صناعة الطاقة وصرح ثقافي عالمي في يوم واحد. فقد رعى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود في الثاني من ربيع الأول 1438ه، (1 ديسمبر 2016)، إطلاق مجموعة من المشاريع العملاقة في منيفة وواسط وخريص والشيبة، وختمها بمشروع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي بالقرب من بئر الخير التي فاضت أولى بشائرها في العام 1938م وانتقلت معها حياة المواطن السعودي إلى مرحلة تنموية جديدة.
وخلال الافتتاح قدّمت الطفلتان راما الخالدي وريم الحربي “حجر الإبداع” للملك ليضعه في مجسم المركز إيذاناً بتدشينه. ثم تسلّم خادم الحرمين الشريفين هدية تذكارية، وهي عبارة عن قطعة فنية منحوتة من صخور أحفورية مستخرجة من بئر الخير، ترتكز على قاعدة مكسوة بأحجار المالاكيت، وتُمثّل مجسماً لمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي قدَّمها كلٌّ من معالي وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية المهندس خالد ابن عبدالعزيز الفالح ورئيس أرامكو السعودية كبير إدارييها التنفيذيين المهندس أمين الناصر.
وكان الإبهار البصري والجو البهيج حاضرين بجلاء في كل لحظة من لحظات حفل التدشين الذي اختُتم بعزف السلام الملكي، ليغادر خادم الحرمين الشريفين إثر ذلك مودعاً بمثل ما استُقبل به من حفاوة وترحيب، بعد أن سطّر فصلاً جديداً من فصول التنمية الاقتصادية والمعرفية في تاريخ المملكة.
برج المعرفة
يقدِّم برج المعرفة آخر ما توصَّل إليه العالم في مجالات المعرفة والفكر. فهو يحتوي من القاعات المخصصة ما يكفي لعقد 2000 ورشة عمل سنوياً في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات أو ما يعرف اختصاًرا بالــ(STEM) إضافة إلى الفنون والوسائط المتعدِّدة وبرامج بناء المهارات. ويجري تطوير المحتوى المقدم في هذه الورش بالشراكة مع أفضل المؤسسات التعليمية العالمية التي تعمل جنباً إلى جنب مع المؤسسات المحلية المتخصصة. ورغم أن ورش العمل هذه تستهدف الشباب على وجه الخصوص، إلا أنها تقدّم برامج لكافة الأعمار ومختلف المجالات. وستصل هذه البرامج إلى 80 ألف متعلِّم ومتعلِّمة سنوياً من خلال تقديم نصف مليون ساعة تعليمية تنمي الشغف وتشبع الفضول المعرفي. ويدار التعلَّم وتبادل المعارف بشكل يحترم التنوع ويحتفي به، ويعزِّز ثقافة التطوع، ويغذِّي الفضول وحب المعرفة. ولا يقف المركز عند ما يقدِّمه في العالم الواقعي، بل إن حضوره يمتد إلكترونياً من خلال صفحاته ومدوناته بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تمكّن من هم خارج المنطقة الشرقية من التفاعل مع المركز والاستفادة من أنشطته الثقافية.
وسيسهم المركز في تنمية المحتوى الرقمي العربي، وتوفير مصادر ذات جودة عالية للشباب عن طريق الألعاب التفاعلية والأفلام المتحركة المصممة لتلائم مختلف الفئات العمرية والاهتمامات.
مختبر الافكار
هذا المختبر هو مساحة للإبداع وخلق الأفكار الجديدة، والهدف منه رعاية وتنمية الاقتصاد المبني على الابتكار، ويتكوَّن من معرض للتصميم يحتوي على 60 عملاً إبداعياً يحكي قصة الإبداع والابتكار، يقدّم بطريقة جذّابة لتشجيع الزوار الشغوفين على أن يصبحوا من المبتكرين في مجال التصميم. ويحتوي مختبر الأفكار كذلك على مكتبة تعرض 1600 مادة مُصَنَّعة ذات مزايا ابتكارية، تشجِّع وتسهم في إيجاد حلول للتحديات التي يواجهها المبتكرون أثناء التصميم، وهذه هي المرة الأولى في العالم التي تقدّم فيها هذه المكتبة خارج النطاق الصناعي. وتعقد في المختبر 300 ورشة عمل سنوياً لنشر الوعي لدى المهتمين في مجال الابتكار والتصميم، وذلك من خلال المنتجات المتاحة في المعرض لدراستها واستخدامها كمرجع في توليد أفكارهم الخاصة ومشاريعهم الإبداعية.
متحف الطفل
يُعد متحف الطفل أول متحف من نوعه في المملكة العربية السعودية مخصص للأطفال إلى سن الثانية عشرة، ويهدف إلى تنمية قدرات أبنائنا الذهنية منذ بداية طفولتهم من خلال المعارض والأنشطة التفاعلية والترفيهية التي سينظمها المتحف، ولا يقتصر هدفه على بناء عقول الأطفال وتنمية معارفهم فحسب، بل يهدف أيضاً لمساعدتهم على اكتشاف ذواتهم وبناء ثقتهم وشخصياتهم من خلال الأنشطة التي يمكنهم أن يشتركوا فيها جنباً إلى جنب مع ذويهم.
ولدى متحف الطفل أساليب متنوعة لتعريف الأطفال بالثقافات الأخرى من خلال أقسامه التي تضم:
– كهف القصص: يتيح للأطفال أن يتعرَّفوا إلى شعوب مختلفة من خلال الدراما.
– معرض عالمنا: يقدِّم قصصاً عن يوميات مجموعة من الأطفال من أنحاء العالم.
– معرض البيئة والحياة البحرية: يحتوي على باقة منوعة من الحيوانات الحية والنباتات.
الفالح: المركز لكافة مناطق المملكة
والبداية برامج معرفية للمناطق الجنوبية
أكد معالي وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية خالد بن عبدالعزيز الفالح أن دور المركز لن يقتصر على المنطقة الشرقية بل سيمتد إلى كافة مناطق المملكة، وأن باكورة برامجه المعرفية بعد تدشينه ستتوجه إلى مناطق الحد الجنوبي عربون تقدير لصمودها الوطني. جاء ذلك في الكلمة التي توجَّه بها معاليه إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز خلال حفل التدشين.
وقال الوزير الفالح: “إنّ رؤيتكم المباركة تُؤكّدُ على ريادة المملكة في العلوم والثقافة والبحث العلميّ، لتحقيق قفزة تنموية معرفية كُبرى؛ محورُها المواطنُ السعوديُّ المبدع، الذي يتواصل مع الثقافات الأخرى بمسؤولية ووعْي وإيجابية، متمسكاً بعقيدته السمحة ومعتزّاً بهويته.
لن يكون الدور الريادي والتنموي لهذا المركز مقصوراً على المنطقة الشرقية التي تفخر باحتضانه، وإنما ستمتد برامجه الطموحة، بإذن الله، إلى كافّة أنحاء المملكة”.
وأضاف: “واليوم يا سيدي، وأنظارُنا جميعاً تتجه إلى مناطق المملكة على الحدّ الجنوبي، لنقف مع أهلنا الذين يضربون أروع الأمثلة في الصمود، ومع رجال الوطن الأبطال الذين يذودون عن حياضه، نسعدُ اليوم بحضور عدد منهم هذه المناسبة الوطنية، وأدعوهم للوقوف لتحية مقامكم الكريم! بينما نحيّهم جميعاً.
وبهذه المناسبة يشرّف أرامكو السعودية، أن تعلن وبكل الفخر، عن أنّ أوّل مبادرة ستنطلق، بإذن الله، من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، بعد تفضلكم، حفظكم الله، بتدشينه اليوم، ستكون إقامة برامج للتنمية المعرفية في مناطق الحد الجنوبي، يستفيد منها أبناؤنا وبناتنا الأعزاء في تلك الأجزاء الغالية على قلوبنا”.
المتحف
يتكوّن متحف المركز من أربعة معارض دائمة، يركِّز كل منها على نطاق معيّن ويمنح إطلالة على أفكار وأشكال جديدة من التعبير والفهم الثقافي. ولكل معرض برامجه ومحاضراته وورش عمله وجولات مع مرشدين لاستكشاف مواضيع العرض المقسمة زمنياً من المعاصر إلى القديم. إذ ينطلق الزائر في رحلة تاريخية بدءاً من الفن السعودي المعاصر، ثم الهوية والتراث السعودي، مروراً بالفن والتراث الإسلامي، وانتهاءً بالتاريخ الطبيعي للجزيرة العربية. إنها رحلة ممتدة عبر الزمن لآلاف السنين، يكتشف فيها الزائر في كل مرة شيئاً جديداً.
القاعة الكبرى
قاعة ذات تصميم فريد، تقع بالقرب من مدخل المركز، وتستضيف المهرجانات والمعارض الزائرة من حول العالم، والمؤتمرات، والاحتفالات والمنتديات السنوية.
وتؤكد هذ القاعة صفة التنوّع في المركز. فهي تتيح للزوار فرصة مشاهدة ما تقدّمه الثقافات الأخرى، وتشجّعهم على التوق الذهني إلى أفكار خلاقة.
المسرح
يتسع لتسعمئة شخص، يعرض أعمالاً سعودية، إضافة إلى عروض فرق عالمية تكون معززة للقيم الثقافية والاجتماعية السعودية، وتوفر تدريباً لأصحاب المواهب المسرحية وصانعي الأفلام والكتاب الروائيين والمهتمين بالفنون المختلفة. ويمكن للمسرح أن يُستخدَم لعروض ومحاضرات متنوِّعة.
قاعة العروض الإبداعية
تتسع هذه القاعة لثلاثمئة شخص، وتقدِّم العروض المتعددة الوسائط. وغرضها الأول هو تقديم أعمال مبتكرة على الشاشة من إنتاج الموهوبين السعوديين، وكذلك عرض الأفلام الوثائقية الثقافية والعلمية من مختلف أنحاء العالم.
معرض الأرشيف
يقدم معرض الأرشيف جهود أرامكو السعودية في الإسهام في تنمية مجالات الصحة والتعليم وتطوير الموارد البشرية التي تُعد رافداً أساساً للنهضة في المملكة، ويروي المعرض هذه القصة بأسلوب شيِّق باستخدام أحدث التقنيات التفاعلية.
معرض الطاقة
صمم معرض الطاقة باستخدام التقنيات الحديثة والوسائط المتعددة لجذب مختلف الفئات العمرية، إذ يتناول موضوعات النفط والعلوم والطاقة والتكنولوجيا، وسيتمكن الزوار من الاستمتاع برحلة تأخذهم عبر بدايات البترول وتكونات الصخور تحت الأرض وعمليات الحفر في الصحراء، مروراً بمصانع التكرير وحلول الطاقة البديلة للمملكة.
مبناه الطليعي
صورة عمّا يصبو إليه محتواه
عندما وقف أمام مبنى المركز معماري درس الهندسة في باريس، روى أن أحد زملائه أيام الدراسة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، قدّم تصميماً لمشروع بناء مؤلَّف من شكل بيضاوي حر وغير متناسق، يشبه جزءاً صغيراً من مبنى المركز، فرفضته اللجنة الفاحصة آنذاك بحجة “إنه غير قابل للتنفيذ”. وتمتم مضيفاً: “لا أكاد أصدق حجم التطور الذي حصل”.
فمن على الطريق السريع الذي يخترق الظهران، لا بد للعابر من أن يسمّر نظره على المبنى الذي يرتفع هناك تسعين متراً في الفضاء، بملمح لا مثيل له، لا في الجوار ولا في صور مجلات الهندسة التي تتفنن في عرض درر العمارة الطليعية على مستوى العالم.
هدير عمله مسموع منذ فترة
يشكِّل الافتتاح الرسمي لمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي محطة مفصلية في تاريخه، ولكنه ليس إعلاناً عن بدء العمل من الصفر، كما أنه على الأرجح ليس إعلاناً بوصول نشاطه إلى الذروة المرتقبة.
فغداة إقرار مشروع هذا المركز، وبموازاة الشروع في بنائه، بدأت أرامكو السعودية بتشكيل الجهاز البشري اللازم لإدارته وتشغيله. وبسبب توفر الكفاءات، تشكّل هذا الجهاز في وقت قصير نسبياً، واستقر في مكاتب مؤقتة بجوار ورشة المبنى. ومن باب تطوير الطاقات اللازمة لتشغيله بعد الافتتاح وتأهيلها، ولأن بعض الأنشطة المخطط لها غير مرتبطة بمبناه المنتظر، بدأ المركز نشاطه بالفعل منذ ذلك الوقت.
وفي مرحلة الولادة هذه استطاع المركز أن ينفذ مجموعة أنشطة، بعضها كان موجهاً إلى جمهور محدّد، وبعضها كان مفتوحاً أمام الجميع. في عام 2012م أطلقت الشركة مبادرتها لإثراء الشباب، بهدف الوصول إلى مليوني شاب وفتاة بحلول العام 2020م، فانطلق عديد من البرامج مثل “أتألق” و”أكتشف” العلمي، ومسابقة القراءة الوطنية “أقرأ”، و”جائزة إثراء للإعلام الجديد”، و”ملتقى إثراء الشباب”. وبموازاة المنتديات المتخصصة التي عقدها المركز واستضاف فيها عشرات الشخصيات المرموقة محلياً وعالمياً، أطلق عدداً من البرامج مثل “فاب لاب الظهران”، و”برنامج إثراء للعروض الأدائية والمسرحية”، وصار هو من يتولَّى تقديم برنامج “إثراء المعرفة”، وهوالمهرجان الثقافي الصيفي الذي عودتنا أرامكو السعودية على إقامته في صيف كل عام ويعرفه ويقصده مئات الآلاف من مختلف فئات المجتمع.
إلى ذلك، أطلق المركز موقعه الإلكتروني وصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأ فعلاً بإصدار منشوراته الخاصة التي تتراوح في عناوينها ما بين “إمارة جازان” و “كلمات من علماء نوبل”، و “العربية في اللغات العالمية” وغيرها كثير..
فمنذ أن قرر المسؤولون في أرامكو السعودية البدء بتنفيذ مشروع بناء هذا المركز، حرصوا على أن يكون تصميم مقره معبِّراً عن الطموحات الكامنة في جوهره ومهمته، وأن يكون مستقبلياً بالمعنى الدقيق للكلمة، ليعكس صورة وظيفته في الإعداد لمستقبل أفضل ومختلف. ولهذه الغاية، أطلقوا مسابقة عالمية، كان الفوز فيها من نصيب مكتب “سنوهيتا” النرويجي، الذي عرف ما كان يدور في خلد العميل، فوضع تصميماً يتضمَّن توليفة فريدة من الشاعرية والتكنولوجيا الفائقة التطور، أوليس الجمع ما بين العلوم الإنسانية بفنونها والتكنولوجيا والعلوم الدقيقة في صميم شخصية المركز؟
استوحى المصممون في “سنوهيتا” الملمح العام لمبنى المركز من الحصى الصحراوية التي خضعت لعوامل التعرية الطبيعية، فاستدارت حوافها، وتحوَّلت إلى أشكال شبه بيضاوية غير متناسقة. فصمموا المركز على شكل تجمع خمسة أبنية شبه منفصلة ظاهرياً عن بعضها بعضاً. ثلاثة منها على مستوى السطح، ورابع يرتفع كالبرج في وسطها، وخامس شبه عالق عالياً ما بين البرج ومبنى آخر.
وفي توزيع مكوّنات المركز على هذه الفضاءات، ارتأى المصممون صيغة رمزية تسمح بترتيب هذه المكوّنات الكثيرة والمختلفة جداً عن بعضها بعضاً، وتقضي بتخصيص الأدوار التي تقع تحت سطح الأرض للماضي والمعارف التي سبق اكتسابها، أي للمتاحف والتراث والتاريخ. والأدوار التي تقع عند مستوى سطح الأرض للحاضر بما فيه من تقنيات واهتمامات مثل التفاعل والحوار والتبادل الثقافي. والأدوار العليا للمستقبل، وهذا يشمل التربية والتعليم والاستكشاف والآفاق الجديدة ومجالات الاستثمار.
تحديات تقنية لا مثيل لها
واجهت أعمال بناء هذا المركز من التعقيدات والتحديات التقنية ما لم يواجهه أي مشروع بناء نعرفه أو سمعنا به. فأحدث التقنيات التي كانت متوافرة في العالم عند الشروع ببنائه في عام 2008، لم تكن كافية لإنجازه بالصورة التي أنجز بها. غير أنه استفاد في بعض الجوانب من تطورات تقنية حصلت في العالم خلال مواصلة أعمال البناء، وتطلب استنباط وسائل جديدة غير معروفة سابقاً لتنفيذ جوانب أخرى. وإن كان يستحيل هنا تعداد هذه التحديات التي شغلت ألمع العقول لسنوات، فلا بأس في التوقف على سبيل المثال أمام واحدة منها تتمثل في كسوته الخارجية بالأنابيب الفولاذية.فكأن إنشاء الهياكل الخرسانية وفق ملامح شبه بيضاوية حرة، وما يتطلبه ذلك من حسابات لا يكفي لإرهاق المهندسين المنفِّذين، جاء تصميم الكسوة الخارجية للمبنى على سبيل المثال ليرفع التعقيدات والتحديات إلى مستويات غير مسبوقة، تبرر الشك في قابليتها للتنفيذ.
فقد اقترح المصممون كسوة كل واجهات المبنى بأنبوب من الفولاذ يلفها بالكامل، استوحوه من أهمية أنابيب الزيت التي تشبه شرايين الحياة الاقتصادية في المملكة. وبشيء من الحسابات، تبيَّن لهم أن هذه الكسوة تتطلَّب نحو 400 كيلومتر من الأنابيب، أي ما يوازي المسافة ما بين الظهران والرياض.
ولأن هذا الأنبوب الذي يبلغ قطره 76ملم سيتألف من أجزاء تتراوح أطوالها ما بين 6 و 12 متراً يصار إلى وصلها ببعضها فوق مسطحات منحنية ومتقوسة بأشكال غير متناسقة، فهذا يعني أن كل جزء منها يتطلَّب الطي بدرجة معيَّنة ومختلفة عن الجزء الذي يتصل به والمطوي بدرجة مختلفة. بعبارة أخرى، لن يكون أي جزء من هذا الأنبوب مشابهاً تماماً لأي جزء آخر في تقوسه. وأكثر من ذلك، ولحل مسألة مرور هذه الأنابيب أمام النوافذ، اقترح المصمِّمون كبس الأنبوب ليتحوَّل مقطعه الدائري الي بيضاوي، فيصبح أشبه بالشفرة المسطحة أمام النوافذ بحيث لا يحجب عن الداخل أكثر من 16 في المئة من الضوء الخارجي، في حين أنه يحجب ما نسبته 88 في المئة من الضوء عن الجدران الكاتمة.
أثارت الفكرة اهتمام المسؤولين عن المشروع في أرامكو السعودية، ولكنها بدت آنذاك على مستوى من التعقيد التقني يهدِّد قابليتها للتنفيذ، فاشترطوا لإعطاء موافقتهم عليها تنفيذ عيِّنة تظهر ما ستكون عليه هذه الأنابيب في زاوية معيَّنة. وفي منتدى الإبداع الذي عقده المركز قبل نحو سنوات ثلاث، روى مهندس من “بورو هابولد” قصة ابتكار الآلة التي يمكنها طي الأنابيب بهذه المقاييس وبالدقة المطلوبة بتوجيه من الكمبيوتر، لأن الآلات التي كانت متوافرة سابقاً ما كانت قادرة على التعامل مع هذه المقاييس. وكان أن أتى المتعهد بنموذج عن تركيب هذه الأنابيب لتحصل الفكرة على الموافقة، التي نُفذت لاحقاً بهامش خطأ وهدر بقي عند الصفر. لتضفي على المركز ما يبدو من بعيد لمعاناً حريرياً، وعن قرب مظهر مركبة فضائية حطت فوق الرمال الصحراوية.
البناء بالطين
تقنيات قديمة وحديثة
بوصول الزائر إلى البلازا التي تشكّل محور الحركة الداخلية ما بين أقسام المركز، يواجهه واحد من أكثر الجوانب المعمارية إثارة للدهشة: وسط الجدران المبنية بالطين، نتأ غطاء شبه كروي (مقوَّس) من الأنابيب الفولاذية المتوازية التي تكسو واجهات المباني. فبدت بلمعانها المعدني وتوازيها الهندسي وسط الجدران الطينية، وكأنها جزء من مركبة فضائية ضخمة حطَّت فوق مبنى قديم واخترقت جدرانه. فالقرار ببناء البلازا بالطين، هذه التقنية التي تعود إلى نحو ثلاثة آلاف سنة خلت، عزّز فرادة التصميم المعماري لمبنى المركز ككل، باختزاله الصلات التي تربط الماضي وتقنياته بالمستقبل وتقنيات عصر الفضاء.
يقول رئيس المكتب الذي نفَّذ أعمال الطين في بناء البلازا: لاستخدام الطين، في صرح معماري كهذا، بُعد إنساني وثقافي. فالطين كان مادة البناء التقليدية الأولى في السعودية قبل اكتشاف النفط. وآخر مبنى كبير بُني بالطين هو قصر المربع في الرياض، الذي أنشئ في الفترة نفسها التي اكتشف فيها النفط في المملكة. وبانطلاق عملية تحديث البلاد وتنميتها السريعة انتصر الأسمنت والحديد على الطين. إن القسم المبني من الطين في المركز سيسمح لزائريه من المواطنين بالعودة إلى تلمّس تراثهم المعماري الذي يكاد يغيب عن أبصارهم نهائياً في المدن ومرافقها الحديثة. وحول هذه التقنية يقول: “إن تقنية الطين هي واحدة من نحو أربعين تقنية للبناء بالطين، تطورت عبر ثلاثين قرناً، واستخدمت في الصين والمغرب وفرنسا والهند.. إلا أن تطورها توقف منذ نحو 002 سنة. ومن ثم دخلت هذه التقنية طي الإهمال والنسيان في عصر الأسمنت والحديد. فخلال القرنين الماضيين كان التصوّر العام يقول إن كل جديد هو أفضل من القديم. واتخذ الطين طابعاً ألصقه بصفة الفقر. أما اليوم، فإن ظهور قضايا كبرى مثل وجوب توفير الطاقة، ومفهوم الاستدامة في العمارة وأهمية البُعد البيئي لها، تجعل الطين يبرز كمادة بناء ممتازة، تخلو من كثير من المتاعب التي يتسبب بها الأسمنت. فالطين هو أولاً ذو دورة بيئية سليمة. يخرج من الأرض ويدخل في البناء ثم يعود كما كان إلى حيثما كان في الأرض. وهو على مستوى العزل الحراري أفضل من الأسمنت، وبالتالي فإنه يوفر في استهلاك الطاقة اللازمة للتبريد والتدفئة”.
ويكمل رئيس المكتب فكرته هذه بإشارة شبه فلسفية، فيقول: “إن الطين هو الطبقة الثالثة التي تحمينا. فهناك أولاً بَشَرتُنا، ثم الملابس، ثم غلاف محيطنا الخاص، أي جدران منازلنا، التي كلما كانت أقرب إلى الطبيعة كانت أفضل”.
وعندما ندقِّق قليلاً في هذه الجدران الطينية التي تطلب إنشاؤها 925 لوحاً، تبلغ مقاييس الواحد منها 2.45 متر طولاً و1.04 متر عرضاً، وبسماكة 31 سنتيمتراً، يدهشنا ملمسها الناعم جداً الذي يشبه ملمس الورق أو الخشب المصقول، الأمر الذي لم نألفه في جدران ما نعرفه عن الأبنية الطينية. أما لونها الطحيني الداكن المائل إلى الوردي، فلم يبدُ عند الاقتراب منه واحداً كما هو حال الطلاء مثلاً، بل بدا أنه يتشكَّل من تفاعلات لونية عديدة ومتقاربة جداً، أما ما هو واضح فيه، فهو وجود خطوط أفقية متوازية، وتختلف لوناً، لا ملمساً، قليلاً جداً عن بعضها بعضاً. ويفسِّر أحد المهندسين ذلك بقوله إن هذه الخطوط هي نتيجة دك الطين في القوالب على طبقات فوق بعضها بعضاً، حيث تحتفظ كل طبقة ببصمتها، أما الحدود الفاصلة بين كل لوح وآخر، فيصعب رصدها بفعل التشطيبات إلا بالاقتراب منها والتدقيق بحثاً عنها.
مجتمع المعرفة واقتصادها
“مجتمع المعرفة” تعبير صاغه روبرت لاين للإشارة إلى المجتمع الذي يقوى فيه الاعتماد على المعرفة وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات والتطوير في مجال البحوث العلمية، ويقوم على نشر المعرفة وتوظيفها بكفاءة في مختلف أوجه أنشطة المجتمع، أي أنه يشكِّل المرحلة التالية لما يسمى بمجتمع المعلومات.
أما “الاقتصاد االمعرفي” فقد ظهر أولاً على يد بيتر دروكر عام 1966، في كتابه “المدير الفاعل”، حيث ميّز بين “العامل اليدوي” و”العامل المعرفي”. فالأول يعمل بيديه لإنتاج سلع وخدمات ملموسة، والثاني يعمل بعقله لإنتاج أفكار ومعارف ومعلومات قد يكون بعضها ملموساً وبعضها غير ملموس. ومن الأمثلة عن السلع غير الملموسة التطبيقات الإلكترونية على هواتفنا المحمولة.وبظهور تكنولوجيا المعلومات ورواجها منذ العقدين الأخيرين في القرن العشرين، تلقى اقتصاد المعرفة دفعاً هائلاً إلى الأمام. وبات من أعمدة الاقتصادات في الدول المتقدمة. فهذه التكنولوجيا شكّلت بحد ذاتها مصدراً جديداً لثروات عملاقة في “مجتمع المعلومات”، وأتاحت الفرصة لنشر المعارف على مستويات غير مسبوقة في التاريخ لكافة شرائح المجتمع، الذي انفتحت أمام أفراده مجالات بلورة الأفكار واحتمالات تطبيقها كسلع مفيدة قابلة للبيع والشراء.
الدور يتجاوز التزيين
صحيح أن دمج مواد بناء مختلفة لم يعد مستغرباً في كثير من التصاميم المعمارية الحديثة، مثل واجهات المباني المكتبية التي نرى كثيراً منها في مدن المملكة، حيث على سبيل المثال يحتل الحجر التقليدي المصقول مساحات هندسية من إجمالي مساحات المباني الزجاجية، لغايات يغلب عليها الطابع الجمالي أو التزييني لا أكثر. أما في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، فإن تزاوج التقنيات يتجاوز ذلك إلى حدٍّ بعيد. فالفارق الزمني هو أولاً هائل. إذ إنَّ إنشاء هذا المبنى لم يكتفِ بالاعتماد على ما هو متوفر من أحدث التقنيات في العالم، بل استدعى استنباط تقنيات جديدة كي يصبح تنفيذ بعض جوانبه أمراً ممكناً، وفي الوقت نفسه الذي انشغل فيه علماء وتقنيون على هذه العناصر الحديثة وما تتطلبه من أعمال حاسوبية مبتكرة وفي غاية التعقيد، تحضر تقنية موغلة في القِدم تُختبر فيها جودة مادة البناء يدوياً، ولا مقاييس محدَّدة أو ثابتة لها، وتدخل على المبنى لا كعنصر تزييني، بل كجزء أساسي من نسيجه وشخصيته وتحتل واحداً من أكثر أقسام المبنى حيوية على صعيد حركة الزوار فيه. وأمام هذا الفرق الزمني الكبير وضخامة الاختلاف الشكلي والجمالي، لا يخطر على بالنا من الحالات المشابهة إلا مشروع تطوير متحف اللوفر في فرنسا.
فعندما أطلق الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران مشروع تطوير متحف اللوفر، فوجئ العالم بأسره أن المشروع يتضمَّن إنشاء أهرامات زجاجية في الباحة الرئيسة التي تتوسط ذراعي القصر التاريخي. وانقسم العالم آنذاك بين مؤيد ومعارض. وبتقدّم المشروع وإنجازه خفتت أصوات المعارضين. فالإضافة الحديثة هي ابنة عصرها، تماماً كباقي أقسام القصر الذي بُني على مراحل بدءاً من القرن الثالث عشر، وما من قرن بعده إلا وشهد إضافات وتعديلات «حديثة»، أو كانت كذلك آنذاك، وآخرها الأهرامات الزجاجية التي تبدو اليوم كجزء مكمِّل للمتحف – القصر، وليس كإضافة. هذه الرؤية هي نفسها التي تحكمت في تصميم البلازا بالطين المدكوك، وسط محيط يكاد يكون احتفاءً بتطور أحدث ما في تقنيات البناء في العالم. فإلى الطابع الوظيفي لكل أقسام المركز، وإلى الأعمال التي يتجلَّى فيها ما يمكن تنفيذه بواسطة الكمبيوتر وتقنيات عصر الفضاء الباردة، يشكّل حضور الطين المدكوك في هذا الجانب من المبنى إضافة إنسانية دافئة، تهمس بشيء من الدفء والحميمية في وجدان زواره بحقيقة هويتهم الثقافية وتاريخها، وبشكل أو بآخر، إن الحداثة لا تفترض أبداً إدارة الظهر للماضي. فكلاهما يتكامل. وفي هذا ما يلخص بلغة معمارية رسالة المركز القائمة على نشر ما هو ملائم من ثقافات العالم وتطوراته وعلومه الحديثة في صفوف مواطنيه، وعلى تعريف العالم بالتراث الثقافي والحضاري المحلي، الذي شكَّلت العمارة بالطين أحد معالمه التراثية البارزة.
المسجد
الابتكار الملتزم بالتراث
حرص المسؤولون في أرامكو السعودية على أن يضم مبنى المركز مسجداً مستقلاً عن المصلى داخل مبناه الرئيس. ومن جملة ما تضمنته توجيهاتهم لمكتب التصميم المعماري “سنوهيتا” أمران رئيسان: أولهما أن تكون هندسة المسجد مختلفة تماماً عن هندسة المبنى الرئيس للمركز، وثانيهما أن يتميَّز بالبساطة إلى أقصى حد ممكن وبقلة الزخارف لتلافي تشتيت أذهان المصلّين ومساعدتهم على التركيز على الصلاة فقط. وفي هذا ما يشبه العودة إلى الشخصية المعمارية للمساجد الإسلاميَّة الأولى. فكان هذا المسجد الذي هو أول ما يراه زائر المركز إلى يساره بعد اجتيازه بوابة الدخول.
مخططه والانطباعات الأولى
أول ما يلفت نظر الزائر في هذا المسجد هو بياضه الذي يعزله عن مبنى المجمّع المجاور المعدني اللون واللمعان، وأيضاً انتصار الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة بخلاف الأشكال البيضاوية والأقـواس في مبنى المجمّــع، حيث لا نرى على واجهتــه خطـاً مستقيماً واحداً.
صمّم المهندسون هذا المسجد انطلاقاً من مصدَرَي الهام:
الأول هو الحج، فقد درسوا كثيراً من الصور الفوتوغرافية لمظاهره وللحجاج. ومن صورة تمثل مسارات للآلاف منهم وتلتقي عند نقطة معيَّنة، استوحوا مخططاً قائماً على شكل مثلث ليكون أساساً للمسجد. فأنشأوا المئذنة عند قمة المثلث، ومبنى المصلى عند قاعدته، وما بين المئذنة والمصلى ساحة مثلثة تبدو وكأنها مركز تجمع الآتين من مختلف الجهات فتوجههم إلى نقطة واحدة هي قاعة المصلى. أما مصدر الإلهام الثاني، فهو حجر جوزة Geode عثروا عليه في الموقع. وبعد نشره من وسطه كشف في داخله عن بلورات من الكوارتز، كما هو حال كل هذا النوع من الأحجار التي تتميز ببساطة مظهرها الخارجي، وبريق وجمال محتواها. فكان القرار بإبقاء المظهر الخارجي للمسجد عند أقصى حد ممكن من البساطة، وتضمينه من الداخل بعنصر تزييني رئيس وواحد مستوحى من عالم الأحجار الكريمة، التي اختاروا من درجاتها اللونية اللون الأخضر الزمردي.
ولأن البساطة والإقلال من العناصر التزيينية لا يعني بالضرورة شُحَّاً، فقد تقرّر تلبيس الجدران الخارجية بألواح مستطيلة ومتفاوتة السماكات من الرخام الأبيض لإضفاء شيء من خشونة الملمس عليه. واعتماد الموزاييك الزجاجي الأخضر الزمردي لكسوة الجدران الداخلية في المصلى.
وفي خطوة إبداعية جميلة، تم إحلال ثريا ضخمة من “البليكسيغلاس” محل القبة التقليدية المألوفة في سقف المسجد. وهذه الثريا المؤلفة من 1111 قطعة على شكل مثلث و1703 قطع من أشكال هندسية أخرى مجتمعة إلى بعضها لتؤلف أشكالاً هندسية مختلفة تنسجم من بعيد مع “الأرابيسك” الإسلامي، لا تحوي أي مصابيح. بل تضاء من خلال انعكاس الضوء الموجَّه على الجدران، فتتلألأ تحت السقف كغيمة تعلو رؤوس المصلّين. وهذه الثريا الفريدة من نوعها والجدار الزمردي بجوارها، هما عملياً العنصران التزيينيان الوحيدان داخل المصلى، إذا استثنينا سجادة الصلاة.
وما بين مصلّى الرجال الذي يتسع لنحو 350 شخصاً، ومصلّى النساء الذي يتسع لـ 155 سيدة، يقوم حاجز مؤلف من 99 عاموداً من “الستينلس ستيل” (والعدد مستوحى بدوره من أسماء الله الحسنى)، يحمل كل منها في أعلاه مصباحاً للإضاءة الداخلية غير المباشرة. أما الجدار المواجه للقبلة الذي يحل محل المحراب التقليدي فهو من زجاج حاجب للرؤية من الخارج.
وبمناسبة الحديث عن الضوء، تجدر العودة إلى المئذنة الهرمية الشكل، المفتوحة إلى السماء عند قمتها، ويعلوها مجسم الهلال. هذا الهلال مثبت على أعلى المئذنة وكأنها غير مرئية، وعندما تضاء المئذنة من الداخل بضوء موجه إلى الأعلى صوب السماء، يبدو هذا الهلال مضاءً بقوة وطافياً في الفضاء. الأمر الذي يشكِّل مثلاً واضحاً عما يمكن إبداعه اعتماداً على الدراية التقنية والذوق المرهف والخيال، أكثر من الاعتماد على البهرجة المكلفة والمتكلّفة.
بدأ من حيث انتهى مركز جورج بومبيدو
لأنه قد يعن على بال بعض القرّاء أن يبحثوا في ذاكرتهم عما يشبه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي من بين الصروح الثقافية في العالم، نوفِّر عليهم عناء البحث بالجزم أن ما من مركز ثقافي يطابق في وظيفته ومكوّناته هذا المركز. أما المركز الثقافي الأقرب إليه لجهة تعدد الاهتمامات وتنوّع البرامج فهو “مركز جورج بومبيدو الوطني للفن والثقافة” في باريس. ولكن..
تعود فكرة إنشاء مركز بومبيدو إلى ما قبل ظهور مفهوم مجتمع المعرفة والاقتصاد المعرفي، وتحديداً إلى عام 1968، وكان ذلك تلبية لحاجه رئيسة واحدة في البدء، ألا وهي إيجاد مكتبة عامة مفتوحة بسهولة لعموم الناس. وإلى هذه الحاجة، أضيفت حاجة ثانية لاحقاً، وهي إيجاد مكان لإيواء مجموعة الفن الحديث المتعاظمة التي باتت تضم أكثر من خمسين ألف لوحة ومنحوتة. وأثناء تطوير المشروع، أضيف إليه “معهدالبحث والتنسيق السمعي- الموسيقي”. وبعد 15 عاماً على افتتاحه عام 1977، أي في عام 1992، أضيف إليه “مركز الإبداع الصناعي”، وبتخصيص ساحته الخارجية لفناني الشوارع وبعض المعارض القابلة للإقامة في الهواء الطلق، وببرامجه وفعالياته المتعدِّدة، الأكاديمية والتعليمية والتدريبية، أصبح هذا المركز بالفعل المركز الثقافي الأكثر تكاملاً في أوروبا، ونموذجاً حذت حذوه مدن عديدة في فرنسا وخارجها. وأثبتت هذه النظرة جدواها، فعدد زوار هذا المركز يومياً بلغ منذ افتتاحه نحو 40000 زائر، أي خمسة أضعاف العدد الذي صُمّم المركز على أساسه وهو ثمانية آلاف زائر.
وهكذا نرى أن المركز الفرنسي تشكَّل على مراحل امتدت على مدى ربع قرن، في حين أن مكوّنات مركز الملك عبدالعزيز تحددت دفعة واحدة وصاغت شخصيته الكاملة منذ ما قبل افتتاحه. ولربما صحّ القول إن الثاني يبدأ اليوم من حيث انتهى الأول، على الرغم من وجود بعض الاختلافات التي قد تكون لصالح هذا أو ذاك.
الإحالة إلى معالم من مساجد أخرى
مما لا شك فيه أن انطباع الزائر بأنه أمام مسجد يستقل ببعده المعماري عن كل ما هو مألوف وتقليدي في بناء المساجد (وغني عن القول بأنَّه يلتزم التزاماً كاملاً بالمقومات الخاصة ببناء المساجد) هو انطباع سليم وصحيح. ولكن بشيء من التدقيق في التفاصيل المعمارية والجمالية، يمكن للمرء أن يتذكر ولو من بعيد، بعض الملامح الجمالية والتشكيلية من مساجد أخرى، دون الزعم أنها كانت من مصادر إلهام مصممي هذا المسجد.
الموزاييك
يحيلنا استخدامه في هذا المسجد فوراً إلى الجامع الأموي في دمشق، باكورة الجوامع الكبرى التي وصلتنا من تاريخ العمارة الإسلاميَّة. فلوحات الموزاييك التي تغطي الجدران المطلَّة على الفناء الخارجي لذاك الجامع، ما تزال تشكِّل أروع ملامحه العمرانية.
ومع الأسف، فقد شارف اعتماد هذا الفن في بناء المساجد على الانقراض في العصور اللاحقة. واستعادته هنا جميلة وعصرية وممتازة تقنياً. فصناعة المكعبات الزجاجية الصغيرة تمَّت في واحد من أشهر مصانعها في العالم، ووفق تركيبة كيميائية تجعلها أقرب إلى الأحجار الكريمة، أما استخدامها الفني فهو تجريدي خالص، ويقتصر على تلاعب الدرجات اللونية ما بين الأخضر الفاتح والأخضر الداكن (كما هو الحال في أحجار الزمرد).
غياب القبة
أن تكون الثريا المضاءة بشكل غير مباشر محل القبة في سقف المسجد هي فكرة مبتكرة جُملة وتفصيلاً، فإن إحلال “شيء آخر” محل القبة التقليدية أمرٌ آخر حصل سابقاً في العمارة الحديثة. ومن الأمثلة التي يمكننا أن نذكرها، المسجد الذي صممه المعماري الياباني كنزو تانغي في مجمع مؤسسة الملك فيصل الخيرية في الرياض. ففي ذاك المسجد الأسطواني الشكل، قطع المصمم أعلى الشكل الأسطواني بمسطح زجاجي مائل بيضاوي الشكل، ليحل محل القبة ويسمح لضوء النهار بالدخول إلى قلب المصلّى.
المئذنة والجدران المائلة
إن المآذن المنفصلة عن مباني المساجد ليست نادرة في تاريخ العمارة الإسلامية. ولكن، لأكثر من سبب، يحيلنا الحاصل في مسجد المركز إلى مسجد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في حي البجيري بالدرعية القديمة. فذلك المسجد التاريخي الذي أعيد بناؤه وتحديثه مؤخراً، يتميَّز بمئذنته المنفصلة عن المصلّى. وهي سمة شائعة إلى حدٍّ ما في المساجد النجدية القديمة. وكما أن مئذنة مسجد المركز مفتوحة عند أعلاها إلى السماء، فإن مئذنة مسجد الشيخ محمد بن عبدالوهاب هي كذلك، ويمكن رؤية السماء من عند قاعدتها القائمة في القاعة التذكارية داخل مجمع المؤسسة. وتصبح أوجه الشبه أكثر وضوحاً ما بين هذين المسجدين في الجدران المائلة عن الاتجاه العامودي. فجدران المؤسسة في البجيري، المواجهة لحي الطريف مائلة بزاوية تقارب زاوية ميلان جدار المدخل في مسجد المركز، كما أن مئذنة المسجد في البجيري هي ذات ثلاثة جدران عامودية وواحد مائل، إلى حدٍّ لا يمكن إبعاد صورتها عن الذهن عندما نتطلَّـع إلى المئذنــة الهرميــة في مسجد المركز.