حين أكمل المعماري المصري الشهير حسن فتحي دراسته الثانوية وتقدَّم إلى الجامعة لم يكن في تخطيطه أن يدرس تخصصاً غير الزراعة. فقد اختلطت في ذاكرته صورتان للريف، إحداهما من أبيه الذي كان يكره الريف ويمنع أطفاله من الذهاب إليه، درءاً لأي تلوث يمكن أن يتعرضوا إليه، رغم امتلاكه عشرات الفدادين الزراعية التي صنعت منه شخصاً ثرياً بمقاييس ذلك الزمان. أما الصورة الأخرى فقد تسربت إليه من والدته التي كانت تحتفظ من الريف بأمتع الذكريات، وكانت تتوق دوماً للعودة إليه، وهكذا غرست في رأس ذلك الفتى الغض حب الريف وأهله وحقوله. لكن حلم الفتى تبدَّد حين فاجأته لجنة الامتحان بأنه غير صالح لمدرسة الزراعة!
لم يطل فتحي التفكير، فقد تقدَّم مباشرة لدراسة العمارة في كلية الفنون التطبيقية قبل أن يعرف أنه سيصبح أحد رواد العمارة البديلة، لا في مصر وحدها بل في العالم كله. لقد حددت تلك اللجنة المسار الذي سيمضي فيه فتحي حتى آخر حياته.
تذكرتُ سيرة هذا العالم وأنا أستمع للمحاضرة الشيقة التي شاركت فيها شخصيتان بارزتان في فنون العمارة، هما: د.سامي عنقاوي ود.هاني القحطاني، في إحدى أمسيات صيف أرامكو السعودية الحافل هذا العام.
في تلك المحاضرة نوقشت عن كثب المحاور الساخنة في الممارسة المعمارية المحلية على نحو خاص. وفيما رأى عنقاوي أن فلسفته المعمارية ترتكز على مبدأ «الميزان» التي تنظر إلى عناصر الثبات والتغيُّر في العمارة العربية والإسلامية على أنها عناصر ديناميكية تتبادل الحياة وتحقق فرص التصالح الحقيقي مع الأماكن التي نعيش فيها، رأى أن استلهام التراث ومكوناته لا يعني أي قطيعة مع وسائل الحياة الحديثة بما تكتظ به من تقنيات وهويات عولمية حديثة.
أمَّا د.القحطاني فقد لخَّص مبادئ العمارة الإسلامية على مستوى الشكل، واصفًا إياها بأنها تتوجه إلى الداخل بدلاً عن الخارج، كما أنها تعكس مفهوم الاحتواء والظهور. ووصف هذه العمارة بأنها تحتوي على الطبقات التي تشكِّل مجمل لبنات العمارة الإسلامية، ورأى أنَّ إحدى خصائصها الجوهرية هي التكرار، فالمدينة الإسلامية في شكلها النهائي هي تكرار عددي للبيوت المتلاصقة وأفنيتها المفتوحة.
الحديث عن العمارة الإسلامية لغير المختص حديث شائك، ولكن لا بأس بإطلاق جملة من الأسئلة التي قد يتصدى لها أحد الباحثين في هذا الفن.
نعتقد أولاً، وعلى الجانب التاريخي، أن بنية العمارة الإسلامية قد اضطربت وتبددت مع تراجع المدن والحواضر الإسلامية عن لعب دورها كعواصم مؤثرة في محيطها الاجتماعي وفي الأقاليم والبلدان المحيطة بها، وهكذا لم تعد عواصم مثل: القاهرة وبغداد ودمشق والقيروان وفاس مراكز الإشعاع المعماري والحامية لخصائص العمارة الإسلامية والضامنة لآفاق تجديدها. وهكذا فقد أدى غروب الدولة الإسلامية إلى ضعف وانحطاط شمل كل وجوه الحياة المعنوية والمادية في أراضي الإسلام.
من جهة أخرى، فإنَّ شكل المدينة الإسلامية، بما يتضمنه من منشآت ومعالم ومرافق خلال القرن الماضي، الذي كان قرن التحولات والقفزات الكبرى، قد أصابته عدوى التغيُّرات وتعقيدها، ولكن دون أن تتمكن تلك المدن من استيعاب تلك التغيُّرات ووضع الحلول الناجزة لها.
فالمدينة الإسلامية، كما عرفت تاريخياً بمرافقها المدنية المعروفة كالمساجد الجامعة، والمدارس، والأسواق، والحوانيت، ودور الاستشفاء «البيمارستانات»، ودور الخلافة والإمارة، أو في أساليب ريِّها وزراعتها، لم تعد قائمة، وحلَّت محلها المدينة الحديثة بكل بُناها المعقدة وتمدداتها العمرانية أفقياً وعمودياً، وبكل أشكال نشاطها التجاري والاقتصادي والصناعي والتقني. وهكذا لم تحدث النقلة المعمارية المطلوبة لتلبية هذه الاحتياجات التي تضخمت، فلم يعد للمعماري العربي أو المسلم القدرة على التخطيط لها، ولمِّ شملها في كيان قادر على تلبية شروط الحياة المعاصرة.
أمَّا الظاهرة الأخطر، فهي العولمة المعمارية، التي لا تجعل أنماط المعمار لدى الأمم المتقدمة هي النموذج الراسخ والمثال الذي يثبط كل النماذج العمرانية للشعوب الأخرى فقط، ولكنها عولمة تدور في معظم المدن لصالح رأس المال العالمي، لا لمصلحة سكانها، فالمدن لا تصبح للجميع، حيث يسكنون متجاورين متعاونين، بل تصبح ملكاً لقلة من البشر، كما تعبِّر الناشطة الهندية «شيلا باتل».
وهذه الظواهر كلها تحيل إلى أنَّ ثقافات الشعوب وخصائصهم وأنماط حياتهم المكانية تندثر أمام طوفان المال والتجارة والهيمنة من أي جهة جاء.
واستطراداً، فإن علاقتنا بالمساكن التي نعيش في أحضانها هي علاقة معقدة يصيبها الكثير من التشوه والشروخات. نملك الحنين الحقيقي إلى هويتنا المعمارية بما تتضمنه من عناصر جمالية ونفسية وروحانية، وما تلبيه لنا من شروط حياتية صالحة للسكن والعيش والتنزه، لكننا في الوقت نفسه نلمس مدى استحالة تحقيق تلك الشروط.
وهنا فإنني أتحدث ببساطة، أي بلسان الإنسان الذي جمع نصف ثمن منزله، فيما اقترض النصف الباقي. كيف له أن يبني منزلاً تتوافر فيه كل الوظائف اليومية المعاصرة، ويلبي فيه كل الخصائص الأصيلة في العمارة الإسلامية، بما تتضمنه من أفنية وأقواس خارجية وداخلية، ومساقط للضوء، ومشربيات تحجب النوافذ، وحجرات، وأحواض سباحة، وفسقيات، وشجيرات تملأ المكان أو تتسلق الأعمدة أو تفترش الأرضيات؟
وقبل هذا، كيف يوفر هذا الإنسان مواد البناء التقليدية كالأحجار والطوب والطين أو اللبن وجذوع الأشجار لأغراض التسقيف وصناعة الأبواب والشبابيك والأسرة والمقاعد وقطع الأثاث المتنوعة؟!
والأهم من ذلك: أين هي الأيدي الخبيرة والماهرة القادرة على تشييد هذه الأبنية؟ وإذا وجدت، فبأي أثمان ستعمل؟ خصوصاً أننا نتحدث عن أنواع من العمارة النادرة التي تحتاج إلى إنفاق كبير لا تحتمله الميزانيات المتوترة للسواد الأعظم من الناس!
أقول هذا بحسرة، لأن البنائين الحقيقيين قد اختفوا من حياتنا، كما اختفى كل المهنيين المهرة، وحلَّت محلهم شركات البناء والتعمير الشاملة التي يحضر في قاموسها كل التفاصيل والعناصر المعمارية الغربية وربما الآسيوية أحياناً، فيما ينزوي في مخططاتها وهياكلها أي ملمح إسلامي أو محلي.
فبالنسبة لتلك الشركات ليست عناصر البناء أو التشييد الإسلامي سوى تزيين أو تجميل، وعلى من يطلبها أن يدفع أبهظ الأثمان!