تبقى البدايات الأولى مدهشة، وللبشارات المبكرة لذّة لا تبرح الذاكرة. لكن بعض هذه البواكير قد تتعرَّض للدهس أو الإجهاض، فتضمحل حين يتم تثبيطها وتحبيطها ولو على نحو عفوي بما يعجِّل بانحسار هذه الموهبة.
أعرف (أنا) عنده موهبة شعرية، تفتَّحت براعمها باكراً. ولأنه (كنت) واثقاً من جودة القصيدة الأولى، فقد أرسلها بالبريد إلى جريدة «الرياض»، يرجو نشرها. ثم كانت المفاجأة الأجمل بعد أسبوعٍ. فقد وجدها هذا الشاعر / الصبي (طالب في الصف الثالث متوسط) وقد توسطَّت مساحة جيدة في إحدى صفحات ملحق الجريدة الثقافي. وهو لا يزال يتذكَّر بدقة متناهية تفاصيل تلك اللحظة الفارقة.
كان متحفزاً لإدهاش والده الشاعر النجم في ساحة الشعر والنقد المحلي، وكان يطمح إلى الاستحواذ على إعجابه ورضوانه عن هذا الابن الذي يقتفي أثره حذو الكلمة بالكلمة.
وهكذا بطح صفحات الجريدة على أرض مجلسنا، وأمام ناظري الوالد. وكنت أعلم يقيناً أنه وهو الناقد الصارم والعارف الثبت ببحور الشعر بأن حزمه لن يسمح له بأن يظهر كل مشاعره ورد فعله الكامل على القصيدة الهدية، التي تقتعد لنفسها مكاناً بارزاً في ملحق الجريدة الأدبي دون أي شفاعة أو محسوبية. رفع الوالد الجريدة حتى ألصقها قريباً من صدره، فغطَّت وجهه بما لم يسمح باستكناه مشاعره الأولى. وأظنه قد تعمَّد ذلك، فلم يكن يريد أن يُظهر سعادته بكل تضاريسها بل لعله أراد أن يدفن بعض فرحه بين أعمدة الجريدة وأن يكتفي بإظهار بعض السرور.
استمرَّ كل شيء على ما يرام، حتى مضيت في الخطوة التالية حين نشرت لي الجريدة قصيدة تفعيلية. لكنني بدأت بعدها أتلقَّى وشوشة مستنكرة، وأسئلة مستنكفة من بعض الأقارب الذين استكثروا على هذا الصبي الغرّ أن يكتب بهذه الإجادة وأن يُنشر له بهذه السرعة، وبهذا القدر من الاحتفاء الذي لا يليق بسنِّه ولا بحداثة تجربته، إلا أن تكون له هذه الحظوة لسطوة والده وزمالته لأهل الجريدة، كما أنه لا بد وأنه قد وجد تعديلاً وتقويماً لما كتب قبل النشر من والده الشاعر / القامة. وما كانوا ليصدقوا خلاف ذلك حتى لو قال لهم إن والده آخر من يعلم!!
لكن هذا الشاعر الصغير كان على قدر مفرط من الحساسية، إلى الحدِّ الذي استشعر معه أن صيت والده الشعري وظلّه الطويل سيجثمان على أنفاسه الشعرية. ولكنه كان قد استطعم النشر في الصحف واستهوته الكتابة والتنفس عبر صفحاتها ولم يعد راغباً في هجرها. وهكذا قرَّر في لحظة فارقة أن يمارس فنون الصحافة عبر نوافذها المتعدِّدة. فقفز إلى الساحة من نافذة الرياضة. ولعله يتذكر الآن أنه قد أراد في حينها أن يقول لشانئيه أنه يكتب في مجال الرياضة وتحديداً كرة القدم وهي ساحة يدرك أن أباه لم يطأها. استمر في محيط الكرة مستمتعاً بهامشها التعبيري، ثم تركها إلى ملعب الفن ثم الثقافة ثم التحقيقات والحوارات الصحفية، ثم تدرَّج شيئاً فشيئاً حتى صار مسؤولاً صحفياً. لكن جذوة الشعر بقيت خامدة في صدره.
لم يعد يهمه أن يُشهر شاعريته، خاصة وقد تيقَّن والده من ذلك بعد أن لامه حينها على فرط توجسه من كلام الغير، لكنه بقي يكتب بوازع ذاتي أو بدافع عشق لحظوي.
كان في البدايات البكر يريد أن يكتب الشعر لهم… أي للناس… وللجميع. لكنه انطوى حتى اكتفى بأن صار يكتب لها… ولنفسه.