يبدو جلياً أن بدر الحمود مؤلِّف ومخرج فيلم “فضيلة أن تكون لا أحد، قد اشتغل عليه بقدر عالٍ من الجدية والتوق لصنع فيلم قصير (26 دقيقة) ممتع فكرياً ووجدانياً، لينال جائزة “المهر الخليجي” لأفضل فيلم قصير في مهرجان دبي السينمائي لعام 2016م. ثم حصل على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان الأفلام السعودية 2017. وحاز بطله إبراهيم الحساوي جائزة أفضل ممثل في المهرجان نفسه. وحاز أيضاً على جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان لندن للأفلام المستقلة 2017، وكان الفيلم جديراً بهذه الجوائز، ويستحقها.
تعتمد سردية الفيلم على الحوار بالدرجة الأولى، ويخاطب ملكة اليقظة والتنبّه، ويتطلَّب تفكيراً وتأملاً لما يثيره من تساؤلات أثناء المشاهدة وبعد الانتهاء منها.
محطات متلاحقة من الاسترجاع يدور فيها حوار يبدو بسيطاً، لكنه مشحون بالإشارات الملامسة لموضوعات عميقة قد تبدو فلسفية، أو في إطار التفلسف الجدي وطرح أسئلة معقَّدة يسميها النقَّاد “أسئلة وجودية معمّقة”، تدور في مدارات البحث عن قيمة الوجود الفردي للإنسان، وتناقش وجود الإنسان نفسه من خلال متقابلات متعاكسة: الموت والحياة، الخوف والأمل، الفرح والحزن، التفاؤل والتشاؤم، الحاضر والماضي، الألم والهروب منه، المستقبل والمجهول. السعادة والفقد، ألفة الصديق وألفة الغريب.. تلك المفاهيم الحاضرة في حياتنا وداخلنا وحولنا، ولا نجد تفسيراً منطقياً أو واقعياً لها.
واقعية جديدة
يتمسك الفيلم بأسلوب الواقعية الجديدة والبساطة في التعبير، من خلال جماليات اللقطات القريبة والتصوير خارج الاستوديو في الأماكن الطبيعية، وهذا النمط في الإخراج السينمائي أشبه بالطريقة التي اتبعها المخرج العالمي عباس كياروستامي. أي نوع السينما التي تقدّم أفكاراً فلسفية عن حالات إنسانية على نحو مبسط ظاهرياً ودونما تعقيد. سينما يكتبها صانع الفيلم بنفسه وربما يتولى مونتاجها ورسم السيناريو لها. حكايتها بسيطة، ولكنها تعمل على توليد زخم عاطفي كبير. تستمد مصادرها من البيئة والثقافة المحلية، فتكون مليئة بالمجاز والتلميحات المكانية والاجتماعية الدالة، وأصيلة في مكوناتها، مثل: الملابس، اللهجة، التراث، الأساطير، والفنون (كما في توظيف أغنية طلال مداح). تتخذ من السيارة مكاناً للتأمل، للتذكر والملاحظة وللكلام والحوار (كما في طعم الكرز). تميل إلى القصصية التي تكشف العواطف الإنسانية الأعمق في أكثر الأحداث ألفة في الحياة اليومية المعيشة. لا ترهق في سردها ولا تزعج السمع أو البصر بموسيقى تصويرية أو مؤثرات صوتية مفتعلة، بل تتعمد إبراز التراكيب الصوتية المنسابة بتلقائية مع الحركة في المكان. وبين هذه الحقول والمساحات يراوح بدر الحمود بذكاء حقيقي في كل لقطة في الفيلم.
ذات متلصِّصة
عندما يتجرَّد الإنسان من ذاته ليصبح باحثاً عنها وعن ذات تآزره، أو ليلعب معها لعبته الأثيرة في التخفي وراء شخصيات وقصص مخترعه ووهمية لا تمثل شخصه، يزداد شغفه في معرفة ومشاركة الآخرين همومهم عن طريق البوح و”الفضفضة”. هذا ما يمكن استنتاجه بخصوص جوهر الفيلم. لكن ما هي هذه الفضيلة التي يكتسبها إنسان العصر عندما يكون ذاتاً نكرة ولا يكون أحداً بعينه؟ الفيلم لا يزج بالمشاهد في طرح فلسفي متعالٍ، إنما يخاطب المشاهد العادي، فمن شأنه أن يستخلص منه ما يرى. وهذا يضع أمامه عدة علامات استفهام فيظهر الخط الدرامي الوحيد وكأنه سؤال استفهامي كبير في الفيلم: ماذا به هذا الرجل؟ ومَنْ هو؟ ولماذا يفعل ما يفعله؟
تنساب دقائق الفيلم في إيقاع متوازن، ويعمل الحوار على إلغاء الزمان والمكان، ولكنهما يظلان حاضرين في التكوين الكلي لمشاهد الفيلم، وهما غائبان في الوقت نفسه بسبب حرفة المخرج في تجاوز تأثيراتهما الطبيعية، وإن بهتت الإضاءة في رابعة النهار بما يوحي بالطقس الغائم أو بأجواء الشتاء. غير أن ذلك لم يتضح درامياً وتركه المخرج دون معالجة.
ماذا في القصة؟
سائق السيارة “أبو محمد” (مشعل المطيري) يجد على قارعة الطريق رجلاً “أبو ناجي” (إبراهيم الحساوي) يضع على عينه اليسرى ضمادة، فيعرض عليه توصيله إلى وجهته (محطة النقل الجماعي). وفي السيارة، يبدأ الحوار بينهما، حوار نتبيَّن منه هوية كل منهما، وملمحاً من معاناة يكابدانها. فكلاهما فقد ابنه وزوجته.
غالباً ما يفتتح أبو ناجي مداخل الحوارات، فيبدأ جملته: “لو كان ابني حياً لكان في مثل عمرك”. فيسأله السائق: ماذا حلَّ به؟. يسرد وقائع حادثة وفاة ابنه الذي غرق بعين “عذاري” في البحرين. وبعدما يفرغ من روايتها يصمت قليلاً، ثم يبدي اهتمامه ويسأله عن ابنه الذي فقده في الحرم قبل أربع سنوات.
هل سنصدِّق القصتين على أنهما وقعتا ـ درامياً ـ كحقيقة في سياق الفيلم؟.. هذا ما يوهمانا به.
يأخذ الحوار بالتعمق في تفاصيل معاناة الرجلين. يخبره سائق السيارة “أبو محمد” أنه طلَّق زوجته، ولم يصب بحزن تجاه ذلك. لكنه يعيد سبب الطلاق إلى حادثة ضياع الابن. كان يخشى أن تتركه زوجته لهذا السبب. لكن عندما حصل ذلك بالفعل، لم يكترث ولم يصب بتأنيب ضمير.
يرد عليه أبو ناجي، بأنه عندما مات ناجي لم يحزن ودفنه وكأنَّ شيئاً لم يكن. لكن بعد مرور مدَّة على رحيله، حدث أمر أبكاه بحرقة. قبل غرق الولد كان يلعب حول بئر وكانت هناك كومة أسمنت رطبة، وطأها الطفل وتركت أثراً لتجف في الأسمنت. فأخذت الأم بصمة قدم ابنها هذه، واحتفظت بها في حوش البيت. بعد شهر عندما شاهدها أبو ناجي بكى بشدة. وكلما شاهد أثر قدم ابنه على الأسمنت، بكى بحرقة.
استدرك أبو محمد أنه فهم لماذا أخفى “الآي باد” الخاص بمحمد: لأن بصمات أصابعه كانت باقية على الشاشة.
يتعجب أبو ناجي ويهمس: “نبكي على آثارهم ولا نبكي على فراقهم”.
يدخل أبو ناجي في رواية قصته، فيحدّث رفيقه الجديد عن عينه الممسوحة منذ ولادته، وعن نزاع نشب بين والدته وساحرة، أثناء حملها به. فقامت الساحرة بنثر مسحوق أبيض على وجهها، وعندما ولدته أمه كانت عينه عوراء.
ننتقل إلى مشهد آخر ونرى أبو ناجي واقفاً في الشارع.
يفاجأ المشاهد بأن يفك الضمادة من عينه اليسرى وينقلها إلى العين اليمنى. هنا قد يصاب المشاهد بالصدمة، ليعتقد أن كل ما مرّ في الفيلم مروي على لسان بطليه قد يكون ملفقاً وغير حقيقي.
ختاماً، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال إغفال الأداء المتمكن للممثلين إبراهيم الحساوي ومشعل المطيري.. فلوهلة، تعتقد أن ما تراه تسجيلاً توثيقياً لجزئية من حياة واقعية حقيقية. لم يكونا يمثلان بقدر ما تقمصا شخصيتين بحذاقة بالغة، بنبرة الصوت ولغة الجسد وتعبيرات الوجه وعدم الاكتراث للكاميرا، وخاصة بإكمال الحوار بلحظات صمت وإيماءات ترفع من صدقية الأداء.