يقال عادة إن قيمة المؤسسات ليست بمبانيها ومعدّاتها، بل هي في الكفاءات البشرية التي تعمل فيها. وهذا القول صحيح كقاعدة ومن حيث المبدأ، غير أن هناك حالات كثيرة تفرض القياس أو النظر إلى المؤسسة بمعيار آخر، من دون أن يعني ذلك بالضرورة الانتقاص من قيمة كفاءاتها البشرية، أو غضّ النظر عن قيمتها ودورها.
فبعض المؤسسات تكتسب بما تكون قد راكمته من تجارب وخبرات عبر السنين، قدرة على التأثير في نفس من يتعامل معها بشكل واعٍ أو غير واعٍ. فتصبح أبنيتها بأسمائها ورمزيتها ذات قدرة على التأثير في النفس، ويصبح للمكاتب والممرات والغرف والمداخل والمخارج رسائل تبثها بصمت، تطبع بطابعها الخاص صورة المؤسسة ككل في تفكير الناس ومزاجهم، وحتى في أسلوبهم في التعبير عنها. بعبارة أخرى، تصبح المؤسسة بحد ذاتها ذات شخصية مميزة، وكياناً مؤثراً، وكأن فيها إدارة صامتة ومخفية إلى جانب الإدارة الحاضرة المرئية.
لا شك في أن لعدد من المعطيات دوراً كبيراً في إيصال المؤسسة إلى مثل هذه المكانة، أولها تاريخها وعناصر تكوينها الأولى، ومن ثم ما مرّت به عبر السنين.
فالصمود الخلّاق يُثري المؤسسة، ويجعل ما راكمته من تجارب ذا وزن كبير وجاذبية لا تقاوم. ولا غرابة في ذلك. فكثيراً ما توقَّف الناس أمام شجرة ضخمة عند مدخل قرية، أو أمام لون تربة جبل، واتخذوا من هذه أو ذاك معلماً.
وفي الواقع، يمكننا تشبيه المؤسسة العريقة بعمل فني أو منحوتة نمرّ بجانبها كل يوم. إذ إن أبنية بعض المؤسسات تصبح كالأعمال الفنية بحضورها ورسائلها الكامنة فيها. وهناك مصطلح يفيد في هذا السياق، لا بل يحاكيه بشكل مباشر، ألا وهو ما يسمى «عبقرية المكان».
من منَّا لم يسمع بكتاب الدكتور جمال حمدان «شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان». وبالطبع، ليس المقصود بعبقرية المكان التشبيه بنبوغ مخترع أو مكتشف، على الأقل ليس بشكل مباشر، بل هو تبيان القدرة المعطاة أو المكتسبة من غير اختيار.
فقد حاول هذا الكتاب المثير لإعجاب الكثيرين، تلمّس عوامل الطبيعة والتاريخ التي أعطت مصر تلك الخصائص المؤثرة في تكوين الإنسان المصري، وفي أسلوب عيشه وصياغته لوجوده. والحقيقة أن هذه العبقرية ليست بالندرة التي قد يظنها البعض. وربَّ باحث يجد عشرات المؤسسات الجامعية والمصرفية والصناعية وحتى الفندقية، جعلتها السنون تكتنز هذه القدرات الكامنة فيها والتي تشكِّل إضافة إلى رأسمال المؤسسة بمعناه الدقيق، كما هي قيمة مضافة إلى منجزات الكفاءات البشرية العاملة فيها.
وعلى الرغم من أن هذه المناقشة فصلت في البداية بين المؤسسة المقصودة وبين العاملين فيها، إلا أن هذا الفصل كان فقط من باب الافتراض الجدلي. ففي نهاية المطاف، لا فصل بين أي مؤسسة (وعبقريتها) والناس العاملين فيها. فالطرفان يشكلان باجتماعهما ما يمكن اعتباره تراث المؤسسة. وكم لمؤسسة من تراث؟.