حين أعلن المتحدِّث الرسمي لجائزة نوبل للأدب هذا العام عن فوز المغني الأمريكي الشهير بوب ديلان بالجائزة هذا العام، لقدرته على إغناء الثقافة العالمية بتعبير شعري جديد يُغني التراث الأمريكي العريق، ودفاعه عن قيم الإنسان أمام الحرب، توقفت ألسنة كثيرة عن الكلام. وكتبت الغالبية عن انحراف الجائزة عن قيمتها العليا كبؤرة تستكشف لآلئ الأدب العالمي وتمنح النابغين فيه ممن يشقون مجرىً جديداً أو يصنعون ضفة جديدة على نهره الشعري أو الروائي، ومن جهة تساند الأدب على أداء وظيفته كقنطرة تقاوم التشوهات والمخاطر التي تهدِّد المصير الإنساني.
لن أكتب هنا مؤيداً أو مقارعاً التوجهات الجديدة للجائزة التي مُنحت، العام الماضي، لكاتبة تحقيقات ثقافية واجتماعية وسياسية هي:سفيتلانا أليكسيفيتش، لتُتبعها باختيار ديلان الذي لم يكن على خط الترشيحات، حتى إنه قضى أياماً دون أن يعلِّق على الجائزة التي هبطت بين يديه دون انتظار.
لكنني أعتقد أن لجنة الجائزة تحاول دفع مكافأة لما يطلق عليه نصوص الثقافة الشعبية، أو النصوص الأدبية العامة، وهي هنا لا تحصر نفسها في نصوص شعبية محلية، بل تذهب إلى قصائد أو أغنيات ذات هوية محلية ذات حضور كوني ومؤثر في ثقافات العالم وذائقته، كما تتحوَّل رموزها إلى أيقونات مشعَّة تغري المواهب الشعرية والموسيقية والغنائية بتقليدها وترويجها وبعث نسخ محلية عنها. وهكذا وجد بيننا جاز عربي وراب عربي ومنتجات أخرى، كما وجد في قلب الثقافات العريقة كالصين والهند وإسبانيا وغيرها. والشاهد أننا مهما صمدنا أمام الاعتراف بمنتجاتها فإن العولمة بأدواتها المؤثرة جعلتها تجتاح أسماعنا وأبصارنا، بل إنها أصبحت حكَماً على بقاء فنوننا وآدابنا أو فنائها.
ليست إذاً ثقافات العالم هي تلك المدوَّنة في كتب منذ ظهور ورق البردي في مصر، وحتى كُتب اليوم المحفوظة والمتداولة بما لا يُحصى من الوسائل، لكنها تحمل أيضاً داخلها الثقافة الشفاهية، فالشعر الجاهلي مثلاً كان أدباً شفاهياً. وفيما تحرص الجامعات المرموقة في العالم على تحفيز بعض طلاب العالم العربي على تقديم أطروحاتهم عن فنونهم وثقافاتهم وآدابهم الشعبية والعامية، نعزف نحن عن دراستها أكاديمياً أو تداولها ثقافياً وتركها بين أيدي القنوات التلفزيونية الشعبية لتقدِّم أضعف ما فيها كنصوص تُعمِّق القبلية والعصبية.
إن أسوأ ما حدث لدينا هو القطيعة شبه التامة بين الثقافة الشعبية والرصينة، وبين النصوص العامية والنصوص الفصيحة، بل واختلاق الحروب بينهما، على الرغم من أن حياتنا اليومية تعج بالثقافتين، وتتعانقان وتنصهران داخل وجداننا وإحساسنا وهويتنا الأدبية والفنية، وهذا الأمر يجعل فك الارتباط بينهما مستحيلاً، إذ إنه يعني شطب جزء من ذاكرتنا ولغتنا وفنوننا بحجة عاميتها وخروجها عن المساطر الأدبية واللغوية المتوارثة.
لقد غابت إذاً الثقافة الشعبية ومفرداتها عن معترك الجوائز الأدبية وحصادها اعتماداً على أنها مجال ثقافي عامي، وأقل منزلة من الفصيح، بل إنها عدوّته على نحوٍ ما. وهناك من ذهب إلى أن الغرب يكرّسها لأنه يريد أن يحطِّم بها إرث اللغة العربية الخالد. وما نشهده هو أن هذه الثقافة العامية التي همّشناها طويلاً لم تتوقف عن مخاطبة الرأي العام وممارسة سحرها التأثيري، من غير أن تنتظر الجوائز من المؤسسات الثقافية العليا، واكتفت بتلقي المكافآت عبر أثرها اليومي والجامح على حياة الناس. فلماذا تنتظر هذه الثقافة ما هو أكثر من ذلك؟
وبعيداً عن جائزة نوبل وتقلبات مانحيها، تبقى الحاجة ملحّة إلى قراءة جادة
لهذا التراث الشعبي الزاخر، وإعادة موضعته داخل كريات دمنا الثقافية المعاصرة، وبناء جسور خلَّاقة بينه وبين ألوان نصوصنا الأدبية ومفرداتنا الثقافية التي تعاني من عزلة تحت وطأة جنون الشبكات الاجتماعية التي تستعصي على كل المقاييس.