في بعض المسرحيات التجريبة نفتقد مفهوم التجريب الذي تسطَّح واختُزل في عرض باللغة العربية تتسم بالشعرية والغموض، والظلام السائد والإضاءات الخافتة والأجساد نصف العارية
يعدّ انفتاح المجتمع العربي على المسرح، في كثير من مناطقه، حديثاً، وربما كان المجتمع الخليجي من أواخر من انفتح على هذه التجربة، ولم تقطع مسيرة المسرح شوطاً يعتدّ به في الاتساع والترسّخ، ولم يكد يكتسب الجمهور شيئاً من الألفة مع الشكل الأساس للمسرح، حتى انطلقت مسيرة أخرى هي مسيرة المسرح التجريبي التي خلقت هوّة عميقة بين مسرحٍ لا يكترث بعدم تقبّل جمهوره، وجمهور استفردت به عروض تجارية استغلّت الحاجة الكبيرة في الساحة المسرحية، الناقد المسرحي عباس الحايك يروي حكاية دخول المسرح التجريبي للسعودية، والجدل العريض الذي رافق دخوله حول مفهوم التجريب، وأخيراً علاقة مسرح التجريب بجمهوره.
لم يعرف السعوديون المسرح التجريبي قبل عام 1989م، وهو العام الذي مثلت فيه المملكة مسرحية «عويس التاسع عشر» من تأليف راشد الشمراني وإخراج عامر الحمود، في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي في دورته الثانية. ومنذ ذلك الوقت وهذا النوع أصبح غاية للمسرحيين السعوديين الذين يبحثون عن المشاركات الخارجية في المهرجانات المسرحية التي طبعت على الأغلب بهذا الشكل المسرحي الجديد.
ظهور هذا الشكل المسرحي في المسرح العربي توازى مع جدل حول ضبط مفهوم التجريب كمصطلح له تعريفه، وله مواصفاته. فمهرجان القاهرة كان نواة لسجال طويل لم ينته حتى الآن حول التجريب كمفهوم، عقدت حوله الندوات والمؤتمرات وطبعت لأجله الكتب، وظل مفهوماً معلقاً، وهذا ينبع من طبيعة المسرح الحركية التي تضاد مع السكون، إذ يرى د.صبري حافظ في كتابه «التجريب المسرحي» أن المسرح لا يزدهر «كأي فن من الفنون الإنسانية الأخرى بغير التجريب الدائم والمستمر مع الجديد. لأن المسرح يستهدف سبر أغوار التجربة الإنسانية المتحولة، دوماً المتغيرة أبداً، والتي تنأى بطبيعتها الحية الفاعلة عن الثبات والجمود وعن الانحصار في أية قوالب محددة» (1). وهذا ما تتفق فيه الموسوعة الإلكترونية ويكيبديا في تعريفها للمسرح التجريبي، إذ إن فكرة التجريب «تقوم في المسرح على تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المختلفة للمسرحية من حيث الشكل أو الرؤية، لكي تقدم لنا فكرة متقدمة عما هو موجود بالفعل، وكلمة تجريب مرتبطة بالتحديث، وهذا الربط يفصل بين الأصيل والجديد. والتجريب يخاطب مختلف التيارات الفكرية والسياسية والعقائدية»(2). ويمكن الاقتراب من معنى التجريب من كلمة المسرحي الأمريكي ريتشارد شيكنر التي ألقاها في افتتاح مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 2009، حيث يرى أن «الأصل الاشتقاقي لكلمة «تجريبي» يعني الذهاب خارج، أو بعد الحدود. والحدود ليست مادية فقط، بل هي مادية وفكرية في الوقت نفسه، وهي تفصل بين الأمم والشعوب والأفكار. ومع أن الحدود قد تكون في الغالب ضرورية، فإن ثمة أمكنة وأزمنة يتعين فيها علينا أن نعبر هذه الحدود، أن نفكر في أمور قد لا تخطر على بال، أو أمور قد لا يصدقها عقل، وأن نمثل في عوالم الخيال ليس فقط ما يحدث الآن، بل أيضاً ما سوف يحدث مستقبلاً»(3). ويضيف في كلمته، أن التجريب الفني «يتأسس على التجسيد، وتوظيف الرمز والاستعارة، واللعب على كل أوتار الخيال البشري بهدف دفع الحدود مسافة أبعد، وتوسيع الآفاق، ومساءلة العقائد القائمة وتحديها، وخلق مجتمعات من الفنانين والجماهير، قد تكون مؤقتة لكنها قوية، ولإظهار كيف يمكن للناس العبور مراراً وتكراراً، جيئة وذهاباً، بين الفعلي والمتخيل إلى ما لا نهاية»(4). هذه التعريفات التي وردت في كتب ومقالات هي محاولات للملمة السجال حول هذا المفهوم الجديد، خصوصاً على المسرح العربي الذي انشغل طويلاً بقضايا التجريب وتصنيف عروضه.
الإخراج سيد المسرح
وعلى الرغم من جدته في المسرح العربي، إلا أن التجريب كان متلازماً مع المسرح ومنذ نشوئه، فكل تجربة جديدة أو تجاوز للتقاليد المسرحية هو تجريب، فظهور التراجيديا والكوميديا كان تجريباً على ما قبله من صيغة بدائية للمسرح بشكلها الطقوسي، وإنجاز شكسبير المسرحي بشكل كامل هو خروج عن تقاليد كانت سائدة قبله في المسرح، والمدارس المسرحية التي ظهرت توالياً في تاريخ المسرح هي نوع من التجريب، خصوصاً في مجال الكتابة المسرحية التي كانت تتسيد اللعبة المسرحية، لأن المدارس كانت مدارس كتابة وليست مدارس إخراج، ولكن بعد أن صار الإخراج هو سيد المسرح، وصل التجريب للرؤى الإخراجية التي استفادت من التطورات التكنولوجية التي استثمرها المسرحيون في اشتغالهم المسرحي على عروض تجاوزت المألوف، وصلت حد استخدام تقنية البروجيكتور الثلاثي الأبعاد Hologram في المسرح للاستعاضة بممثلين افتراضيين بدل الممثلين الحقيقيين، وغيرها من وسائل تكنولوجية دخلت لعالم المسرح من بابه الأوسع.
فكرة التجريب القائمة على فكرة تجاوز المألوف والتقاليد المسرحية أو على فكرة الهدم والبناء كما يراها منظرون مسرحيون، ليست هي ذاتها الفكرة التي تقوم عليها أغلب العروض السعودية التي تصنف جزافاً على أنها عروض تجريبية. ففكرة التجريب لا تقوم فقط على الاشتغال على الشكل المسرحي، بل هي نابعة من فكر وفلسفة وعلوم متعالقة مع بعضها، وهذا التجريب نفتقده في هذه العروض التي تسطِّح مفهوم التجريب وتختزله في عرض باللغة العربية تتسم بالشعرية والغموض، والظلام السائد والإضاءات الخافتة والأجساد نصف العارية، وهي الاشتراطات الجاهزة للتجريب التي راجت في التجارب المسرحية السعودية الحديثة، لدرجة صار يصنف كل عرض بهذه المواصفات عرضاً تجريبياً، بل صار توجهاً وغاية لا وسيلة تعبير، ومشروعاً مسرحياً بحثياً.
وهذا لا ينفي أن ثمة تجارب مسرحية ناجزة وعت للتجريب كحالة فلسفية فكرية، فحاولت الخروج عن تلك الاشتراطات الجاهزة والسطحية، ومنها تجارب ورشة الطائف المسرحية التي تأسست في عام 1993م، والتي دارت في فلك التجريب، خصوصاً في مجال السينوغرافيا في محاولاتها لاجتراح مقترحات سينوغرافية في عروضها التي أهلت الفرقة لأن تكون الأهم على مستوى المملكة، وغيرها من التجارب المسرحية المبكرة لفرع جمعية الثقافة والفنون بالدمام، وبخاصة تلك التي أخرجها المصري جمال قاسم «اللاعبون، تراجيع، الملقن» والتي أدخلت هذا الشكل المسرحي للفرع الذي درج على تقديم المسرحيات الاجتماعية، إضافة إلى تجارب مسرحية متفرقة للمخرجين الشباب: شادي عاشور، عقيل خميس، سلطان الغامدي.. وغيرهم. الذين أوغلوا أعمق في فهم التجريب.
مع هذا، فإن هذا الشكل المسرحي لم يكن له الوقع المفترض أو المطلوب لدى الشريحة الأكبر من جمهور المسرح الذي تربت ذائقته على المسرح الجماهيري، أو الكوميدي الذي يقدم على خشبات مسارح خليجية. فالمسرح مرتبط جدلاً عند الجمهور بما عهدوه من مسرحيات كوميدية يقدمها نجوم. فأي خروج عن هذا النموذج هو خروج عن المسرح بمفهومهم الخاص. فالمسرحيون الذين جرتهم غواية التجريب فقدوا العلاقة الضرورية مع جمهور المسرح، الذي لا ينتظر شكلاً غرائبياً من المسرح البعيد عن السياق الاجتماعي، وتناسوا ضرورة العلاقة مع الجمهور الذي يعد «ركناً أساسياً في العملية المسرحية فإلى جانب كونه المتلقي، فهو شريك في العملية المسرحية»(5)، والشراكة تلك تكمن في تجاوبه وتفاعله مع العرض المسرحي وتأثيره المباشر على ذلك العرض، فقبوله أو رفضه للعرض يؤثر في طبيعة أداء الممثل على الخشبة. وفي الماضي، حين فهم المسرحيون الرواد العرب طبيعة هذه العلاقة استطاعوا ترسيخ هذا الفن الوافد، وهذا ما لم يفطن إليه المسرحيون السعوديون الذين تعالوا على ذائقة الجمهور حديث العهد بالمسرح، وحلقوا في فضاء آخر بعيداً عن جمهورهم.
العلاقة المربكة بين الجمهور والتجريب
كان يمكن للمسرحي التجريبي أن يحقق نسبة مشاهدة أكبر لو أعطي الوقت الكافي لاستيعاب المسرح من خلال العروض المسرحية الاجتماعية التي تقترب من هموم الناس كما حدث مع بدايات المسرح في الكويت مثلاً، دون إسفاف أو تسطيح. وبعد أن يترسخ هذا الفن الجديد الذي واجه منذ بداياته حركات الرفض، يمكن الولوج إلى التجريب كمشروع تجديدي نوعي، تختبر فيه أدوات جديدة في المسرح الذي يمكن ساعتها أن يمتلك جمهوره الخاص. لكن كان الولوج سريعاً إلى التجريب وتسيد هذا النوع في العروض التي تقدمها فروع جمعية الثقافة والفنون، أربك العلاقة مع الجمهور وأشرع الباب لعروض تجارية تهريجية شوهت صورة المسرح بركاكتها وخلوها من القيمة الفنية، وهي الإشكالية التي وصفها المسرحي العراقي الراحل عوني كرومي. فواحدة «من الإشكاليات القائمة بين الفنان المسرحي والجمهور حدثت أو تحدث عندما تتحول العملية الإنتاجية للمسرح إلى علاقة أشبه بالعرض والطلب، أي عندما يبدأ المسرح بإنتاج أعمال استهلاكية تتضمن أنواعاً من التسلية والترفيه بعيداً عن المواصفات الفنية والفكرية وقيم العصر»(6). وهذا ما يزيد الهوة بين المسرحي الساعي لتقديم مسرح واعٍ وبين الجمهور. توصيف كرومي لحالة عامة ينطبق تماماً على المسرح السعودي، الذي صار مختطفاً من قبل تجار المسرح الذين استغلوا المناسبات العامة لتمرير عروض ركيكة تنفذ على عجالة، ليتكرس هذا النموذج المشوه من المسرح، ويصير عنواناً للمسرح السعودي.
لن يتجاوز المسرح مشكلته مع الجمهور إلا إذا وعى المسرحيون أهمية العلاقة بين المسرح والجمهور، وأهمية التلقي لعروضهم المسرحية التي من المفترض أن تتسق مع انشغالات الناس وهمومهم، وليكون سفيراً مبدعاً لهم.