لم يكن لها أي حضور، ولا حتى في الأحلام منذ فجر الحضارة وحتى الأمس القريب نسبياً. ظهرت أولاً عند أدباء الخيال العلمي في القرن التاسع عشر، وفي القرن التالي أصبحت حقيقة ملموسة، كانت أخبارها تحبس أنفاس العالم. أما اليوم، فبات عليها أن تحقق اكتشافاً أو إنجازاً غير مسبوق، لكي تستقطب بعض الأضواء الإعلامية وتسترعي انتباهنا. إنها المركبة الفضائية التي بدأت رحلاتها بخطوات مترددة، فلم تبتعد إلا أميالاً قليلة عن أرضها الأم، وهاهي اليوم بعد نصف قرن تخرج من مجموعتنا الشمسية متجاوزة أبعد كواكبها. ولأن أي مركبة فضائية مهما صغر حجمها و«تواضعت» مهمتها تجمع في صناعتها من العلوم والاختصاصات ما يستحيل حتى تعداده في هذا الملف، ستقتصر رحلتنا هنا على استعراض مسيرتها بما تنطوي عليه من دلالات تختزل أضخم طموحات الإنسان على الإطلاق، وتستشرف آفاق مستقبلها.. إذا كانت أمامها أية آفاق.
ثمة قراءتان مختلفتان لما آل إليه بناء المركبات الفضائية ومشاريع استكشاف الفضاء. فالذين يقارنون واقع الحال اليوم بما كان عليه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي استناداً إلى بريقه الإعلامي، يقولون بوجود هدوء أو تباطؤ في برامج الفضاء وصناعة المركبات اللازمة لاستكشافه ويدلِّلون على وجهة نظرهم هذه بانتهاء برنامج المكوك الفضائي الأمريكي، وغيره من المؤشرات.
ولكن قراءة أخرى، ترى في فقدان البريق الإعلامي تأكيداً على أن مشاريع استكشاف الفضاء والصناعات اللازمة له، أصبحت من نسيج المعارف الإنسانية. ولذا، فإنها فقدت بعضاً من قدرتها السابقة على الإثارة، وأصبحت منجزاتها وأخبارها مثل منجزات باقي العلوم وأخبارها.
ففي الثاني عشر من سبتمبر 2013م، أعلنت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) أن المركبة الفضائية غير المأهولة «فوياجر 1» قد خرجت من نطاق مجموعتنا الشمسية ودخلت «الفراغ» الفاصل «البينجمي» منذ 25 أغسطس 2012م، وأنها تتابع رحلتها بسرعة 17 كيلومتراً في الثانية، وستستمر في مهمتها حتى العام 2025م، تاريخ نفاد ما عليها من طاقة.. وكانت «فوياجر 1» قد مرت بكوكب المشتري وأرسلت أول صور له ولأقماره عام 1979م، ومن ثم مرت بكوكب زحل في العام التالي. وإضافة إلى اعتمادها جزئياً على الوقود الكيميائي، استعانت هذه المركبة بقوة جاذبية كواكب النظام الشمسي الكبرى، زحل والمشتري ونبتون، من أجل أن تزيد سرعتها وتفلت من جاذبية النظام الشمسي.
وفي قراءة لتفصيل صغير آخر، ذكرتنا «ناسا» أن هذه المركبة كانت قد أطلقت في سبتمبر عام 1977م، أي بعد عشرين عاماً من إطلاق أول قمر صناعي. وما بين هذا وذاك، هبط الإنسان على سطح القمر وسيَّر عربات من صنعه على سطح المريخ تبحث اليوم عن الماء واحتمالات الحياة هناك، ونشر آلاف الأقمار الصناعية في مدارات حول الأرض، لغايات تتراوح ما بين دراسة المجرات البعيدة وتاريخ الكون، وتمرير اتصالاتنا الهاتفية. فكيف بدأت هذه الملحمة، وبأي وتيرة تسارعت فصولها؟.
في تعريف المركبات الفضائية، أنها مركبات أو عربات أو كبسولات، مصنوعة للتحليق في الفضاء الخارجي، أي خارج غلاف الأرض الجوي. ويمكن للمركبة الفضائية أن تكون مأهولة أو خالية من الأحياء. وقد لا ينطوي غرضها على نقل بشر، بل يرمي إلى الرصد الكوني، أو نشر الأقمار الصناعية حول الأرض. وقد يكون مفيداً التمييز بين المركبات المأهولة وتلك غير المأهولة، بتسمية الأولى مركبات، والثانية أقماراً صناعية. لكن ثمة نوعاً ثالثاً من المركبات الفضائية، غرضها نقل معدات أبحاث، لإنزالها على سطح القمر أو المريخ، أو غيرهما، من أجل إجراء أبحاث في الغلاف الجوي أو التربة أو ما شابه، وتُميَّز عن غيرها بتسميتها اصطلاحاً «عربات».
تاريخ المركبات الفضائية
المحاولات الأولى
قلما يذكر التاريخ، أن أولى المحاولات لإطلاق مصنوعات أرضية إلى الفضاء، كانت ألمانية، إبان الحرب العالمية الثانية. فقد أطلق العلماء الألمان في أوائل الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي، صواريخ «في – 2»، إلى ارتفاع يزيد على 100 كيلومتر. والمعروف اصطلاحاً لدى منظمة الاتحاد الدولي الفضائي، أن حدود الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية هي عند ارتفاع 100 كيلومتر، وما يتعدّى هذا الارتفاع يعدّ: فضاء. ويسمّى خط المئة كيلومتر: خط كرمان. لكن صواريخ «في – 2» الألمانية هذه لم تكن تدور حول الأرض، بل ترتفع ثم تعاود الهبوط إلى سطح الأرض. ولذا قد يجد مؤرخو الفضاء أن تسميتها بالصواريخ الفضائية، غير مستحق تماماً، على الرغم من تجاوزها خط كرمان.
ومعروف أن المشرف على صنع هذه الصواريخ الألمانية كان العالم الألماني ورنر فون براون نفسه، الذي احتكرت الولايات المتحدة جهوده، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، من أجل تطوير برنامجها الفضائي.
سبوتنيك يفتتح عصر الفضاء
كان أول جهاز صنعه البشر، وأُطلق إلى مدار حول الكرة الأرضية، مفاجأة دولية مدوّية، هو قمر «سبوتنيك» (يعني الاسم: رفيق السفر)، الذي أطلقه الاتحاد السوفياتي في 4 أكتوبر 1957م، في مدار إهليلجي. كان للإطلاق معنى سياسي وعسكري وتكنولوجي، لا يقل عن مغزاه العلمي، في السباق الشامل آنذاك بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ومع أن إطلاق «سبوتنيك» كان حدثاً معزولاً، إلا أنه افتتح عصر الفضاء في هذا السباق.
علمياً، تمكّن «سبوتنيك» من تحديد المدى الذي تصل إليه طبقات الغلاف الجوي العليا وكثافتها، وجمع معلومات مهمة عن توزّع الإشارات اللاسلكية، في طبقة الإيونوسفير، ومعلومات أخرى عن الأجسام الدقيقة التي تخترق الفضاء المحيط بالأرض.
أطلق «سبوتنيك» من جمهورية كازاخستان، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، من موقع اسمه بايكونور، لا تزال تُطلَق منه المركبات الفضائية إلى يومنا هذا. وكانت سرعة القمر الصناعي 29 ألف كيلومتر في الساعة، واستغرق دورانه حول الأرض 96,2 دقيقة. وكان يبث إشاراته اللاسلكية إلى الأرض.
المركبات المأهولة
حتى يومنا هذا، لم يُطلِق إلى الفضاء مركبات مأهولة، سوى ثلاث دول: الاتحاد السوفياتي (روسيا) والولايات المتحدة، والصين. أما الهند واليابان وأوروبا وإيران وكوريا الشمالية والدانمرك ورومانيا، فلديها مشاريع لإطلاق مركبات مأهولة، لكن هذه المشاريع متفاوتة في مراحل تقدمها.
كانت أول مركبة مأهولة سوفياتية أيضاً، وهي «فوستوك 1». وكلمة فوستوك الروسية تعني: الشرق. وقد حملت في 12 أبريل سنة 1961 أول رائد فضاء في التاريخ، وهو يوري غاغارين، ودارت به دورة كاملة حول الأرض. وفيما بعد دارت مركبات «فوستوك» حاملة رواداً آخرين حول الأرض في خمس رحلات أخرى.
أما المركبة الفضائية المأهولة الثانية، فكانت أمريكية، هي “فريدوم – 7” (الحرية – 7) في إطار برنامج «ميركوري»، وقد حملت الرائد ألان شبرد، في رحلة صعود إلى ارتفاع 187 كيلومتراً ثم هبوط، من دون دوران حول الأرض.
وتوالت الرحلات الفضائية، فكان للسوفيات مركبات أخرى من طراز فوشخود (أي الشروق) وسايوز (الاتحاد)، وأقمار صناعية عديدة منها: تسوند، ومحطات الفضاء المأهولة ساليوت، ومير.
أما من الجهة الأمريكية، فبعدما شكل برنامج «ميركوري» الذي حلَّقت منه خمس مركبات باكورة مشاريع الرحلات الفضائية، أعلن الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي في مايو من العام 1961م، عزم بلاده على «إنزال إنسان على سطح القمر والعودة به سالماً إلى الأرض قبل نهاية الستينيات». فبدأ العمل على برنامجين فضائيين: «جيميني» (1962 – 1966م) التي كانت مركباتها تحمل رائدي فضاء، وتكتفي بالدوران حول الأرض، ومن ثم برنامج «أبولو» الذي قامت أولى رحلاته عام 1968م، وفي العام التالي، وتحديداً في 20 يوليو 1969م، تمكنت «أبولو 11» من إنزال أول إنسان على سطح القمر، ألا وهو نيل أرمسترونغ وتبعه رفيقه في الرحلة باز آلدرين، فيما بقي الرائد الثالث مايكل كولينز في المركبة التي كانت تنتظرهما في مدار حول القمر.
قامت مركبات «أبولو» لاحقاً بست رحلات أخرى إلى القمر (أجهضت واحدة منها في منتصف الطريق وهي رحلة «أبولو 13»)، وبفضل مجموع هذه الرحلات تمكن 12 رجلاً من المشي على سطح القمر، وفي العام 1972م، انتهى برنامج أبولو وتوقفت الرحلات إلى القمر، ليبدأ برنامج جديد لغايات مختلفة.
وكان للصين قولها في الرحلات الفضائية المأهولة، سنة 2003م، على متن المركبة: شنجو.
طائرات الفضاء
يمتاز مكوك الفضاء، وهو طائرة دون محركات، بأنه مركبة فضائية قابلة لإعادة الاستعمال في عدد من الرحلات. وقد أطلق المكوك الأول «كولومبيا» في يوم الذكرى العشرين لرحلة يوري غاغارين التاريخية، أي يوم 12 أبريل 1981م.
صنعت وكالة الطيران والفضاء الأمريكية 7 مكاكيك، خُصّص اثنان منها للتجارب في الجو، فكانت طائرة عملاقة تحمل المكوك على ظهرها، وترتفع به في الجو، لتفلته، فيهبط إلى الأرض. أما المكاكيك الخمسة الأخرى، فقد أُطلقت إلى الفضاء، وانتهى منها اثنان نهاية مأساوية، أودت بحياة 14 رائداً ورائدة.
وقد صنع الاتحاد السوفياتي مكوكاً فضائياً شبيهاً بالمكوك الأمريكي اسمه: بوران (أي عاصفة الثلج)، ويمتاز عليه بأن له محركات تجعله قادراً على التحليق. وحلَّق بوران في الفضاء مرة واحدة، في 15 نوفمبر 1988م. لكن شح التمويل ومن ثم تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991م، أنهيا هذا المشروع.
أما المكاكيك الأمريكية فقد بدأت رحلاتها في فبراير 1977م، واستمرت حتى يوليو 2011م، تاريخ إيقاف هذا البرنامج، بانتهاء الرحلةالأخيرة للمكوك أتلنتيس. الجدير بالذكر هنا أن هذا البرنامج هو من حمل أول رائد فضاء عربي إلى الفضاء الخارجي: الأمير سلطان بن سلمان ابن عبدالعزيز الذي كان في عداد الرواد على متن المكوك ديسكوفري في رحلته التي بدأت في 17 يونيو 1985م واستمرت ثمانية أيام.
وإذا استثنينا بعض الأقمار الصناعية التي تُطلق من وقت لآخر، ومنها العربة المريخية «كيوريوسيتي»، فإن السباق الفضائي يبدو في مرحلة ركود نسبي لا ندري كم ستطول.
فالمشاريع الأمريكية باستئناف الرحلات المأهولة إلى القمر بعد طول انقطاع لا تزال، شأنها شأن مشاريع الرحلات الفضائية المأهولة في الدول التي سبقت الإشارة إليها، تصطدم بارتفاع التكاليف، وأيضاً شروط السلامة.
وفي تناول العوائق الجديدة، كشف خبراء في «ناسا» أن العامل السياسي خلال الحرب الباردة في ستينيات القرن الماضي، لعب دوراً بارزاً في تسريع برنامج «أبولو» الذي أنزل أول إنسان على سطح القمر. وأن هذا البرنامج كان يتضمن ثغرات تتعلق بالسلامة لا يمكن القبول بها أو التغاضي عنها اليوم.
ولكن الركود النسبي، أو التأني في تخطيط الرحلات الفضائية، لا يخلو من تطورات بارزة. ففي العام 2003م دخلت الصين على خط الرحلات الفضائية المأهولة على متن المركبة «شنجو». ويرجّح المراقبون أن تتبعها قريباً الهند التي تمتلك برنامجاً فضائياً طموحاً ومتشعباً، وطلبت وكالة الفضاء فيها من الحكومة مؤخراً موازنة تقدَّر بنحو 2.1 مليار دولار لإطلاق أول رحلة فضائية مأهولة خلال سبع سنوات من الآن.
ولكن لا انتهاء الحرب الباردة ولا ارتفاع التكلفة الاقتصادية هو ما يفسر الهدوء النسبي على صعيد بناء مزيد من المركبات الفضائية الأكثر تطوراً. إذ كما هو الحال عندما يصل الإنسان إلى مكان جديد، فإنه يتوقف قليلاً لاستكشافه، تركز وكالات الفضاء في دول العالم جهودها البحثية حالياً حول استكشاف طبيعة الكواكب والكون قبل المضي قدماً في الرحلات المأهولة. ولذا فإن أهم المكتشفات في الوقت الحاضر هي ما تأتي به المركبات غير المأهولة والمناظير السابحة في الفضاء الخارجي الباحثة عن الآفاق والحدود حيث لا آفاق ولا حدود.
ميدانها في الأفق «المنظور»
9 مليارات كوكب في مجرتنا فقط!
لأن كل ما في المركبة الفضائية من تصميمها العام إلى أدق تفاصيلها التقنية يرتبط بوجهتها ومهمتها، فإن دراسة هذه الوجهات والمهمات المحتملة تمثل الشغل الشاغل للبرامج الفضائية الحالية. ولنتوقف قليلاً أمام آخر ما تأكد منه العلم في هذا المجال، بفضل المركبات الفضائية نفسها.
فقد صدر مؤخراً خبران علميان، واحد بعد الآخر، عن اثنين من أكثر المغامرات والمشاريع الفضائية طموحاً وتعقيداً. هما المركبة المريخية «كيوريوزيتي» ومنظار «كيبلر» الفضائي. يقول الخبر الأول، إن في نظامنا الشمسي الذي تنتمي إليه الأرض، كوكب آخر قابل لشكل من أشكال الحياة، هو المريخ. أما الخبر الثاني، فهو أن في مجرّتنا، درب التبّانة، 9 مليارات كوكب آخر تؤكد المراقبة العلمية والاحتمالات الإحصائية، أنها قابلة للسكنى والحياة.
لقد أرسلت مركبة المريخ «كيوريوزيتي» معلومات إلى الأرض، تثبت أن سطح المريخ كان في الماضي مكاناً صالحاً لظهور الحياة وتطورها عليه. أما المنظار الفضائي «كيبلر» فقد أظهر أن في مجرّة درب التبّانة، التي ينتمي إليها نظامنا الشمسي، 9 مليارات كوكب مشابه في مواصفاته للكرة الأرضية، أي إنها كواكب صخرية، يلفّها غلاف جوي، وقابلة لوجود ماء على سطحها، وتدور حول شموس شبيهة بشمسنا. فكيف توصل كل من «كيوريوزيتي» و«كيبلر» إلى هذه النتيجة؟
شروط الحياة على المريخ
ما إن هبطت المركبة المريخية «كيوريوزيتي» على سطح كوكب المريخ، حتى بدأت ببث المعلومات في أواخر شهر أغسطس 2012م، بعد 27 يوماً من الهبوط. وكانت المركبة قد دخلت في مدار حول المريخ في 26 نوفمبر 2011م.
أخذت عدسات المركبة ترسل بعد هبوطها، صوراً لحصى ملساء ومستديرة، لم تترك أي شك لدى خبراء الدفع النفاث في باسادينا (الولايات المتحدة)، فالحصى تنتمي إلى موقع مجرى ماء قديم، وهو ليس أي مجرى ماء، مثل مجاري المياه التي اكتُشفت في الرحلات المريخية السابقة. فالصور قاطعة: هذه من بقايا مرور مجرى ماء متدفق، لم يقل ارتفاع الماء فيه عن عشرات السنتمترات، وظل الماء يتدفق فيه عشرات الملايين من السنين.
يقول ميشال كابان، من مختبر الأجواء والمراقبة الفضائية في باريس: «إن هذا أول دليل على وجود مجرى ماء غير متقطع الدفق، كان على سطح المريخ».
وتَسارَع الاكتشاف حين وصل الروبوت «روفر» إلى منطقة «يلونايف» على الكوكب نفسه. حيث تبيّن وجود ست مواد أولية ضرورية للحياة: الكربون والهيدروجين والنتروجين والأكسيجين والفوسفور والكبريت. أما الصور البالغة الدقة، فقد أظهرت وجود رواسب دقيقة للغاية في الطبقات الرسوبية السفلى، «تثبت أن هذه رواسب متجفّفة في قاع بحيرة».
أما الحفر في تربة المريخ هناك، فأظهر التركيب المعدني للتربة، التي ظهرت فيها مواد الفلدسبات والبيروكسين والزبرجد الزيتوني وكبريتور الحديد وكبريتات الكالسيوم ومعادن صلصالية… ودلت هذه التركيبة على وجود ماء غير شديد الحرارة، غير شديد الملوحة، وغير حمضي. أي إن الماء هناك كانت فيه مواد كيميائية يمكن أن تكون مصدر طاقة للبكتيريا. وبذلك اجتمعت شروط الحياة على المريخ:
مياه عذبة دائمة التدفق، ووسط كيميائي غير حمضي، ومصدر للطاقة.
إذن، منذ 3.5 مليار سنة، كان المريخ قابلاً للحياة والسكن. ويؤكد بيار توما، من مختبر الجيولوجيا في دار المعلمين العليا، في ليون (فرنسا): «كانت الظروف مثالية لتجتمع الحوامض الأمينية، من أجل تكوين بروتينات. إنه خبر ممتاز».
في نظامنا الشمسي إذن، وبالأحرى في مجرتنا، درب التبّانة، كواكب أخرى فيها ظروف تسمح بظهور الحياة. فما هي قصة كواكب المجرّة القابلة للسكنى؟
الثمن الباهظ
ماتوا وهم يغزون الفضاء!
دفع البشر ثمناً باهظاً لطموحهم الفضائي، منذ أن بدأت الصواريخ تحمل مركبات مأهولة.فحتى الآن، أدت الحوادث التي وقعت لمركبات فضائية في أثناء تحليقها، أو عودتها إلى الأرض، إلى موت 18 رائد فضاء، في أربع كوارث فضائية.
– في 24 أبريل 1967م، مات رائد الفضاء السوفياتي فلاديمير كوماروف، بسبب تعطل المظلة، فيما كانت مركبته الفضائية “سايوز 1” تعود إلى الأرض، من رحلة استمرت يوماً واحداً. مات كوماروف عند اصطدام المركبة بالأرض بسرعة كبيرة. – في 30 يونيو 1971م، قُتل 3 رواد فضاء سوفيات، هم غيورغي دبرفولسكي وفكتور باتساييف وفلاديسلاف فولكوف، على مركبة «سايوز 11» عند انفصالها عن المحطة الفضائية «ساليوت 1»، بعد تحليق فضائي استمر 3 أسابيع، بسبب انفتاح صمام في المركبة، أفرغها من الهواء. وكانت هذه الكارثة الفضائية الوحيدة التي حصلت على ارتفاع يزيد على 100 كيلومتر فوق الأرض. هبطت المركبة بسلام، لكن كان على متنها 3 جثث.
– في 28 يناير 1986م، انفجر مكوك الفضاء «تشالنجر»، بعد انطلاقه بثلاث وسبعين ثانية، فقُتل سبعة روَّاد أمريكيين كانوا على متنه، هم غريغ جارفيس وكريستا ماكوليف ورونالد ماكنير وإليسون أونيزوكا وجوديث رزنيك ومايكل سميث وديك سكوبي. وبين التحقيق أن سبب الكارثة تسرّب غازات حارة من الصاروخ الحامل، إلى مخزن وقود خارجي. وكان يمكن للرواد أن ينجوا، بهبوطهم في البحر، لو تسنّى لهم وضع كمامات الأوكسجين، لكنهم فقدوا الوعي على الفور، وهم لا يزالون في الجو، من جراء الانفجار. ولا تزال إلى اليوم، بعض أجزاء حطام الصاروخ والمكوك، تصل إلى شاطئ فلوريدا، حين يلفظها البحر.
– في 1 فبراير 2003م، احترق مكوك الفضاء «كولومبيا»، لدى عودته إلى طبقات الجو العليا، وقُتل الرواد السبعة الذين كانوا على متنه، بينهم ستة أمريكيين هم: ريك هازبند ووليام ماكول ومايكل أندرسون ودافيد براون وكالبانا تشاولا ولوريل كلارك والإسرائيلي إيلان رامون. وكان المكوك قد أنهى لتوّه مهمة في الفضاء استمرت أسبوعين. وكان سبب احتراقه تضرر الطبقة العازلة الحرارية، بسقوط لوحة منها منذ الانطلاق.
– في 15 نوفمبر 1967م، قُتل رائد الفضاء الأمريكي مايكل ادامز، وهو على متن طائرة X15، وهي طائرة تلامس حدود الغلاف الجوي. وكانت الطائرة على ارتفاع 81 كيلومتراً، حين حدث عطل كهربائي فيها، أفقد الطيار وعيه، فسقطت الطائرة نحو الأرض بسرعة تساوي 5 أضعاف سرعة الصوت. وفي أثناء هذا السقوط، استعاد ادامز وعيه، لكن الطائرة عاودت السقوط بسرعة 4,7 أضعاف سرعة الصوت، فتحطمت في الهواء، على ارتفاع 19,8 كيلومتر. وحدثت كوارث أخرى، لكن على سطح الارض، في أثناء تجارب في مختبرات الصواريخ. ولعل أهمها حادثة مقتل ثلاثة روَّاد أمريكيين، هم غاس غريسوم وإدوارد وايت وروجر تشافي، حين كانوا في مركبة تجريبية، اشتعلت فيها النيران، جراء خلل كهربائي أشعل النار في داخل المركبة، التي كانت مملوءة بالأوكسيجين النقي.
9 مليارات كوكب «بارد»
هتفت ناتالي باتاليا، وهي مسؤولة في وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” بحماسة كبيرة: «هذه أول رحلة غوص في معطيات منظار كيبلر الفضائي». كل الصعوبة كانت تتلخص في إمكان العثور على عيّنة من الكواكب، كبيرة ومنوّعة. أي عيّنة تمثّل صورة مصغرة عن الواقع العام في الفضاء، ما أمكن.
أما منظار الفضاء كيبلر فقد جمع الضوء المنبعث من 150,000 نجمة، موجودة في قطاع محصور من السماء، يقع بين كوكبتين. وبدأ علماء الرصد الفضائي أولاً في استبعاد النجوم التي ليست من صنف شمسنا. فبقي لهم من النجوم 42,557 نجمة. ثم استعانوا ببرنامج رقمي اسمه «تيرا»، فبحثوا عن الكواكب التي تدور حول هذه النجوم.
يقول مارسي: «عندما يمر كوكب من أمام شمسه، يخفف قليلاً جداً ضوء هذه الشمس. وبواسطة قياس الضوء هذا يمكن للعلماء أن يكتشفوا الكواكب حول الشموس. فمرور جسم من أمام النجمة يعني أن للنجمة رفيقاً، ويمكن بذلك قياس حجم هذا الرفيق».
وهكذا توصل العلماء إلى إحصاء 16,227 تغيّراً في لمعان النجوم، اشتبهوا في أن سببها وجود كواكب. وأخذوا يشطبون من حسبانهم هذا، حالات المرور غير المنتظمة، وهي حالات يكون فيها تبدل لمعان النجمة سببه تبدّل في النجمة نفسها، وليس سببه مرور جسم فضائي من أمامها. وهكذا هبط العدد إلى 836.
وبعد استبعاد تلك الأجرام التي يفوق شعاعها عشرين مرة شعاع الكرة الأرضية، هبط العدد الباقي في العينة المنشودة، إلى 603 كواكب، منها 10 قد تكون كواكب قابلة للسكنى. لكن مع ذلك كان لا بد من مزيد من الاختبار من أجل بلوغ اليقين. لذلك سعوا في توجيه المرصد الفضائي “كيك” (Keck)، وقطر عدسته 10 أمتار، ومركزه هاواي، باتجاه النجوم المختارة في العينة، من أجل التيقن من حجمها.
احتسب العلماء عدد الكواكب التي لم يكشفها «كيبلر»، لسبب بسيط هو أن مدارها حول النجمة لا يجعلها تمر أمامها. واعتمدوا أسلوباً يستخدمه فيزيائيو الجزيئات، الذين يختبرون أدوات قياسهم، بواسطة معطيات خاطئة، فأضافوا في برامجهم الحاسوبية كواكب وهمية، من أجل اختبار حساسية «كيبلر» ودقته. وقد كانت هذه الصعوبة الكبرى في كل أبحاثهم. واستمر الحساب 3 سنوات، فخرج البحث بالرقم التالي: %22 من النجوم الشمسية لها كوكب مثل الأرض يدور حولها!
ولا شك في أن هذا الرقم يظل غير دقيق، فهوامش الخطأ الممكن تراوح بين 14 و%30. والحدود الفاصلة بين الشروط الضرورية للحياة، وبين الظروف غير القابلة لظهور الحياة، حدود غير مرسومة بدقة بعد. ولا شك في أن هذه الحدود ستتضح شيئاً فشيئاً في السنوات المقبلة. ومع ذلك فإن الأرقام المنطقية المحتملة حتى الآن قد صارت في حوزة العلماء. فمن كل خمس شموس، هناك شمس يدور حولها كوكب قابل لوجود الماء عليه. ولمّا كانت مجرّة درب التبّانة تحتوي على 200 مليار نجمة، %20 منها شموس، فإن 9 مليارات كوكب شبيه بالأرض تدور حول هذه الشموس.
أما أقرب هذه الكواكب الصخرية القابلة للعيش، فلا يبعد عن أرضنا إلا 12 سنة ضوئية، والنجمة التي يدور حولها مرئية بالعين المجردة، ألا وهي «ألفا سنتشوري» التي، لو كانت المركبة غير المأهولة «فوياجير 1» الخارجة من المجموعة الشمسية، تتجه إليها بسرعتها البالغة 17 كيلومتراً في الثانية، لاحتاجت إلى 75 ألف سنة للوصول إليها.
شسلي بونستيل:
رسّام سَحَره الفضاء
فرسمه وألهم برسومه
مهندسي المركبات الفضائية!
عشق الولد شسلي بونستيل الفضاء، فأخضع هواية الرسم عنده لعشقه هذا. وكانت النتيجة أن الرسام الأمريكي صار ملهِماً لمهندسي مركبات الفضاء، وبشيراً لعدد من مبتكرات الغزو الفضائي، حتى لُقّب بـ «أبي فن الفضاء الحديث».
وُلد شسلي في سان فرانسسكو، سنة 1888م، وكان الرسم أول ما استهواه في دراسته. وأثارت خياله كتب الفلك والعلوم آنذاك، فأخذ من باب الهواية يرسم رسوماً خيالية لعوالم أخرى.
بعد إتمامه العلوم الثانوية، زار سنة 1905م مدينة سان خوسيه، وتمتع هناك بمشاهدة الفضاء من منظار فلكي. فزاده جمال ما رآه وسحره تعلقاً بكل ما يمت إلى الفضاء. فتأجج حلمه القديم وانكب على الرسم. إلا أن زلزال 1906م الكبير أتلف جميع لوحاته الأولى. عندئذ ذهب بونستيل إلى جامعة كولومبيا في نيويورك، لدراسة المعمار نزولاً عند رغبة والده. لكنه سرعان ما ترك الدراسة، وعمل رسام خرائط هندسية عند أشهر المعمارين آنذاك، وشارك في تصميم جسر البوابة الذهبية الذائع الصيت. تزوّج بونستيل سنة 1920م، من البريطانية روبي هيلدر، وعاش معها ست سنوات في بريطانيا، حيث عمل في الرسم الهندسي والإعلان.
وحدث أن نشرت له بعض الرسوم الهندسية مجلة «إلستريتد لندن نيوز»، إلى جانب رسوم فنانين بريطانيين وفرنسيين، وكان موضوع رسومهم: الفضاء.
أثارت هذه الرسوم شهيته لعشقه الأول من جديد، فسافر إلى هوليوود، حيث عمل رسام مؤثرات خاصة، وأسهم في رسم خلفيات مشاهد أفلام كبيرة، أشهرها «المواطن كاين». فذاع صيته، وتعاقدت معه مجلة «لايف» لرسم مجموعة رحلة الكوكب زُحل، لقاء 30 ألف دولار، وكان المبلغ يومئذ ضخماً. وكانت رسومه مدهشة، وأكثرها إثارة رسم أحد أقمار زُحل «تيتان» تلفه الغيوم والغازات. رسم كل ذلك من خياله، لكن الحقيقة التي تكشفت فيما بعد، أثبتت صحة إلهامه العبقري.
في العام 1947م، شارك في مشروع الطائرة الفضائية، وكانت لوحاته للطائرة في إقلاعها وهبوطها ساحرة فعلا. وفي العام 1949م، جمع رسومه في كتابه الأول الذي صار يومئذ أكثر الكتب مبيعاً، لشدة ما كانت الرسوم محرّكة للخيال ومدغدغة لحلم السفر بين الكواكب.
ويسجَّل لبونستيل، أن كثيراً من مهندسي الفضاء ورواده، بدأوا رحلتهم في العالم الواقعي، من أحلام حرّكتها لوحات هذا الفنان الخيالي المبدع. فقال فيه كارل سيغان: «لم أكن أعرف ما هي العوالم الأخرى، حتى رأيت رسوم بونستيل للنظام الشمسي». ازدادت شهرة بونستيل مع رسومه لأفلام الخيال العلمي (رحلة إلى القمر، وفارس الفضاء…) وكان صديقاً شخصياً لعالم الصواريخ الألماني ورنر فون براون، الذي كان الأب الحقيقي لبرنامج الفضاء الأمريكي. قال عنه فون براون: “كنت كثيراً ما أعطيه رسومي الأولية، فيعيدها إليّ حية، مع كثير من الملاحظات”. بل إن رسومه أسهمت في مرحلة معيَّنة، في إقناع أعضاء الكونغرس الأمريكيين، بتخصيص الموازنات لبرنامج الفضاء. توفّي بونستيل سنة 1986م عن 98 عاماً. بعدما بات واحداً من أوضح الروابط التي تربط الفن بالعلم.
المركبة الفضائية في الآداب والفنون
من النادر أن يمر أسبوع لا نشاهد فيه على شاشات التليفزيون فِلماً من الخيال العلمي حول رحلات فضائية في مركبات يتفنن المصممون في إبداعها وفق سعة خيال كل منهم. ولذا، ليس من المبالغة القول إن الأفلام والروايات التي تبتكر رحلات فضائية متخيلة والمركبات اللازمة لها تفوق القدرة على إحصائها. ومن الأسماء التي تحضر فوراً إلى الذاكرة القريبة: «أفاتار»، «رحلة إلى المريخ»، سلسلة «أليان» (بحلقاته العديدة)، «أبولو 13»، «حرب النجوم»، سلسلة «ستار تراك»، «جاذبية».. الخ..
ولكن كل هذه الصناعة العملاقة والمتكاملة هي حديثة العهد. بدأت بالتشكل قبل ظهور المركبة الفضائية الفعلية، وتطورت بسرعة جعلتها تسبق صناعة المركبات الفضائية الحقيقية. وإن كان علينا أن نتوقف أمام أبرز حضور إبداعي للمركبة الفضائية في الأدب والسينما، لتوجب علينا اختيار رائدين في هذين المجال لا ثالث لهما.
جول فيرن رائدها أدبياً
كان الروائي الفرنسي جول فيرن (1828 – 1905م)، رائداً في أدب الخيال العلمي الغربي الذي تناول الرحلات الفضائية، من خلال روايته الشهيرة «من الأرض إلى القمر»، التي نشرها عام 1865م.
كانت المركبة الفضائية التي تخيلها فيرن في هذه الرواية عبارة عن كبسولة صغيرة تُطلق من الأرض باتجاه القمر بواسطة مدفع عملاق. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة غير قابلة للتطبيق العلمي، فقد أجرى الأديب حسابات طويلة لتقريب خياله حتى أقصى حد من «المحتمل»، وذلك في عصر لم يكن فيه أي حسابات لهذه الغاية. والمدهش في رواية فيرن أنها تضمنت أموراً حصلت بعد قرن على أرض الواقع. فعدد الروَّاد المسافرين إلى القمر في هذه الرواية هو ثلاثة. وهو العدد نفسه الذي حملته رحلات أبولو لاحقاً. ومقاييس الكبسولة التي تحويهم في الرواية مطابقة تماماً لمقاييس كبسولة «أبولو 1». وقد سمَّى فيرن مدفعه العملاق «كولومبياد»، ومركبة القيادة في «أبولو 11» سمِّيت «كولومبيا». أما المدهش أكثر من كل ما تقدَّم، فهو اختيار جول فيرن لولاية فلوريدا الأمريكية كموقع لإطلاق مدفعه. وهي الولاية نفسها التي اختارتها «ناسا» في القرن العشرين موقعاً لإطلاق كل رحلات أبولو. وكما يعود الروَّاد الثلاثة إلى الأرض في الرواية بواسطة المظلات التي تهبط بهم في البحر، اعتمدت كل الرحلات الفضائية الأمريكية على الهبوط بالمظلات في البحر.
كان فيرن ينفي عن نفسه ترويجه للعلم في رواياته. ولكن هذا لا يقلّل قيمة البُعد العلمي والتخيّلي الذي اتّسمت به روايات فيرن، خاصة وأنه هو الذي تنبأ بالصعود إلى القمر والغوص في أعماق المحيطات واستكشاف الفضاء، واختراع الليزر. وهو أيضاً الذي لم يستطع العلم مجاراته –بعد– في أفكاره، مثل الحفر حتى مركز الأرض واختراع مادة مضادة للجاذبية أو السفر عبر الزمن وبناء مدن للبشر في قيعان البحار. عُرف عن كتَّاب آخرين عاصروا فيرن، كتابتهم لما سمِّي لاحقاً بالخيال العلمي. ولكن كان على الكتابة عن الفضاء ومركبات السفر إليه أن تنتظر عقوداً قليلة لتنمو بعد ذلك ككرة الثلج. ومن أبرز الأسماء التي لا بد من ذكرها إتش. جي. ويلز صاحب رواية «حرب العوالم» التي تحكي عن غزو الأرض من قبل الكائنات الفضائية القادمة من كوكب المريخ. وهناك أيضاً إسحق عظيموف (1919 – 1992م)، الروسي المولد والأمريكي الجنسية الذي كتب في حياته نحو 500 كتاب و90 ألف رسالة(!!) وكانت معظم مؤلفاته إما تبسيطاً للعلوم وإما من الخيال العلمي. ومن أبرز رواياته الفضائية «الإمبراطورية البينجمية».
غير أن الدفع الكبير الذي حظي به «أدب الخيال الفضائي» إن صحت التسمية، جاء عن طريق تحالفه مع السينما. حيث صارت الروايات تُكتب لتُصوَّر كأفلام، نظراً لجماهيرية الفن السابع، وأيضاً للجاذبية القوية التي يمكن أن تتمتع بها مجسمَّات المركبات الفضائية المتخيلة.
الريادة السينمائية
«أوديسة الفضاء 2001»
يُعدّ فِلم «2001: أوديسة الفضاء»، وهو من إخراج العبقري ستانلي كوبريك، واحداً من أفضل الأفلام السينمائية عموماً، وقد يرتقي ليكون أفضل فِلم خيال علمي. أُنتج الفِلم عام 1968م بناءً على رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب آرثور كلارك. عبقريّة الفِلم تكمن في عدة نقاط؛ في غموض القصة، وفي دقة التفاصيل والديكور المتقن.
في العام 1968 لم يكن أول بشري وطأ بقدميه سطح القمر بعد، بل وحتى لم نكن نعرف كيف تبدو الكرة الأرضية من الفضاء. ومع ذلك تطرّق الفِلم بشجاعة إلى هذه التجارب، وجسّدها، فتجد جزءاً كبيراً من الفِلم يصوّر في «الفضاء»، حيث الرائد يحوم والقمر والأرض بجانبه في هيئة تقديرية لما يبدوان عليه، وقد اتّضح لاحقاً أنّ تقديرهما كان قريباً من شكلهما الحقيقي. جانب تقنيّ آخر وفّق كوبريك في إبرازه هو سيطرة تقنية الشاشة الصغيرة على حياة الإنسان، وعلى حياته الحميمة. فتراه في الفِلم، كما نرى بعضنا اليوم، يستخدم شاشة للتواصل مع البعيدين، أو يستخدم جهازاً مربع الشكل يشبه أجهزة اليوم وهو يأكل، ثم تراه يحتفل بعيد ميلاده معهم أيضاً من طريق الشاشة. بشكل أو بآخر، الخيال العلمي لهذه الرواية وهذا الفِلم أسهما في تحديد شكل المستقبل العلمي الذي أعقب العام 1968م، وصولاً إلى يومنا هذا.
الفِلم مملوء بالمبتكرات التقنية التي سبقت عصره. فبالإضافة إلى السفر إلى الفضاء، واختراع الشاشات الصغيرة، هناك التعريف بالبصمة الصوتية التي يستخدمها روّاد الفضاء في الفِلم، وأيضاً التنبؤ بتطوّر الذكاء الصناعي من خلال الآلة «هال 9000»، الحاسوب الخارق الذي يحلّل ويحاور ويقرأ الشفاه ويلعب الشطرنج ويتحكم بالمركبة الفضائية. قد تبدو هذه الأمور لنا بديهية اليوم، ولكن يجب دوماً تذكّر أن هذه التوقعات والابتكارات صدرت قبل 46 عاماً، وكل فِلم خيال علمي صدر بعده ليس إلاّ جزءاً من تراثه.
ركّز الفِلم أيضاً بشكل كبير على التجربة والمشاعر البشرية، وقد يجوز لنا القول إنّ الفِلم ينتمي إلى المدرسة التجريبية، فالأحداث التي عرضها كانت جديدة تماماً على المتلقّي، وبذلك اختبر الناس لأول مرة معنى أن تكون في الفضاء. وهو معنى نتج عن اجتماع خيال الكاتب بالمخرج. كان في نيّة كوبريك أن يصل إلى اللاوعي الإنساني لنتساءل عن ذواتنا، عن مغزى حياتنا وكيفية تكوّنها، إذ إنه يتناول مواضيع فلسفية مثل الموت والحياة والعنف والنزعة إلى السيطرة. وكانت التصاميم على درجة كبيرة من الواقعية، أي إنّ الفِلم بدا وكأنه واقعي أو حتى وثائقي، فحين سئل روّاد الفضاء الذين صعدوا إلى القمر، أي بعد الفِلم، أجاب البعض منهم: «كان مثل ما جاء به 2001».
الجانب المدهش في الفِلم هو أنه كان يتوقّع مستقبلاً أجاد صياغته. أما المحبط فهو أنّه كان متفائلاً أكثر من اللازم، ولكن الإحباط نحن علّته وليس المخرج أو الكاتب؛ فقد تجاوزنا العام 2001م بعقد ونيّف، إلاّ أننا لم نصل إلى التقدم الذي طمح كوبريك أن تصل البشرية إليه. وقد يعزى هذا السبب للتاريخ، ففي العقد الذي أنتج فيه الفِلم كان الإقبال على رحلة القمر متّقدا ومحل صراع، خاصة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، إلاّ أنّ ما لم يكن في حسبان كوبريك هو الخمول الذي أصاب هذا المجال في العقد الذي أعقبه، والذي لا يزال خامداً بعض الشيء، وهو ما يعكسه التطوّر البطيء للمنجزات العلمية منذ الهبوط على القمر.
«أبولو 13» الإثارة في ثنائية النجاح والفشل
في 20 يوليو 1969م، تسمَّر العالم بأسره وهو يتابع أخبار المركبة الفضائية «أبولو 11» وهبوط أول إنسان على سطح القمر. حتى أنه في البلدان التي كانت تفتقر إلى النقل المباشر، كانت محطات التلفزيون تنقل من استديوهاتها ما تلتقطه الإذاعة الأمريكية بواسطة جهاز الترانزيستور. فقد كان الحدث أكبر انتصار تاريخي للعقلانية والبرهان الأكبر على ما يمكن إنجازه عن طريق الحسابات الباردة.
بعد ذلك بأشهر قليلة، انطلقت رحلة «أبولو 12» التي تكللت كسابقتها بالنجاح. ولكنها لم تنل من البريق الإعلامي ما يتجاوز نصف بريق الرحلة السابقة.
وفي 11 أبريل 1970م، انطلقت رحلة «أبولو 13» وسط ما يشبه لا مبالاة الجميع، إلى أن تعرضت إلى حادث تمثَّل في وقوع انفجار على متنها أدى إلى تعقيدات بالغة الخطورة. وما أن أعلن النبأ في وسائل الإعلام، حتى تسمَّر العالم مجدداً أمام أجهزة الراديو والتلفزيون.
فقد أعلن فوراً عن إلغاء الرحلة إلى القمر وإعادة توجيه المركبة إلى الأرض. ولكن من المخاطر العديدة التي أثارت قلق العالم بأسره، وليس إرهاق روَّاد الفضاء وعلماء «ناسا» فقط، كان هناك احتمال عدم وجود ما يكفي من الطاقة للوصول إلى الأرض، ثم ظهرت مشكلة نقص الأوكسجين وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون داخل المركبة، ولتوفير الطاقة اللازمة للوصول إلى الأرض ألغيت التدفئة داخل المركبة، ثم كانت هناك مشكلة دخول الغلاف الجوي للأرض وفق الزاوية الصحيحة، وإلا فإن المركبة ستنزلق على هذا الغلاف لتعود إلى الفضاء الخارجي، حيث لا عودة ممكنة وعلى متنها ثلاثة روَّاد قد يموتون ببطء.
ومن خلال ارتجال حلول سريعة لكل مشكلة على حدة، تمكن الروَّاد بمساعدة من فرق الدعم والعملاء على الأرض من العودة سالمين إلى الأرض حيث استُقبلوا استقبال الأبطال على الرغم من الفشل الذريع الذي مُنيت به مهمتهم.
وفي العام 1995م، أُنتج فِلم سينمائي بعنوان «أبولو 13» قام ببطولته توم هانكس وحاز 9 جوائز أوسكار. يروي هذا الفِلم ما حصل خلال هذه الرحلة من متاعب خطرة. وقد يكون من أفضل الأفلام السينمائية التي تُظهر للمشاهد ماهية المركبة الفضائية فعلاً، وبعضاً من أبرز مكوناتها الحقيقية، بفعل الأمانة العالية للواقع والحقيقة، حتى أنه تم تصنيف الفِلم على أنه «دراما وثائقية» (Docudrama).
غداً
مركبات الهجرة إلى الكواكب…
الفضاء شاسع، كما قال دوغلاس أدامز، في «دليل المسافر إلى المجرّة»، حقاً شاسع. حتى الخيال العلمي يكاد أن يعجز عن تخيّل حجمه. فمعظم كتّاب أدب الخيال العلمي يلجأون إلى الخيال أكثر بكثير من العلم ليفسروا كيف يمكن السفر هذه المسافات التي لا يدركها عقل، فيتخيلون مركبات أسرع من الضوء، ويتوقّعون أن يسامحهم القارئ عن هذه الفكرة غير المنطقية، حتى يستمتع بجمال القصة الخيالية. لكن مع هذا، ثمة علماء ومهندسون وكتّاب خيال علمي، يحبّون التحدي.
ففي يوم 22 أكتوبر 2013م، عقدت مجموعة صغيرة لكن مختارة من الناس، اجتماعاً في الجمعية الفضائية الملكية (RAS)، في لندن، ليستمعوا إلى بعض منهم يناقشون آخر الأفكار عن: كيف يمكن السفر إلى الكواكب، لا في الخيال فقط، بل في العالم الحقيقي. وكان الاجتماع بمنزلة متابعة لمؤتمر موسع عُقد في وقت سابق من السنة، في سان دييغو.
أخبر جيم بنفورد، عالم الفيزياء الحضور بقوله: «منذ سنوات قليلة، كان ثمة منظمة واحدة في العالم تعمل للسفر عبر الكواكب. الآن صارت خمس منظمات». وفي اليوم التالي، زار متحدثون في الاجتماع المذكور، الجمعية البريطانية للسفر عبر الكواكب (BIS)، ليتباحثوا في شأن تصميم لمركبة «إيكاروس»، للهجرة إلى الكواكب.
لقد حفلت أحلام السفر عبر الكواكب، بأعمال مئات الحالمين الخياليين. أما العمل الجدي للفكرة، فلم يبدأ إلا سنة 1968م، حين درس فريمان دايسون، عالم الفيزياء، احتمال استخدام صاروخ يعمل بواسطة انفجارات نووية متلاحقة. ثم في السبعينيّات الميلادية الماضية، صمّمت الجمعية البريطانية للسفر عبر الكواكب مركبة «ديدالوس» وهي مركبة غير مأهولة، تستخدم صاروخاً انصهارياً، لبلوغ سرعة تساوي %12 من سرعة الضوء. تستطيع هذه المركبة أن تصل إلى نجم «بارنارد» البعيد عنّا ست سنوات ضوئية، في غضون 50 عاماً. هذا النجم ليس أقرب النجوم إلى شمسنا، لكنه كان النجم الوحيد آنذاك الذي كان يُشتبه في دوران كوكب واحد على الأقل من حوله.
الحدود القصوى؟
بعد «ديدالوس» فترت الهمّة. لكن عدداً من التطورات أخيراً، أعادت إشعال الحماسة.
لقد سهّل “الإنترنت” الاتصال بين أصحاب التفكير الحالم بالفضاء. كذلك اكتشف علماء الفضاء ألوف الكواكب خارج نظامنا الشمسي، منها كوكب يدور حول نجم «ألفا سنتشوري – ب»، الذي يبعد 4.4 سنوات ضوئية عن شمسنا، و«ألفا سنتشوري – ب» هو أقرب النجوم إلينا. وقد أدت حركة الاكتشاف هذه، إلى تحريك مخيلة الناس، وإلى وضع عديد من الكواكب «القريبة» على لائحة الأهداف المحتملة للهجرة إلى الفضاء. كذلك أدى ظهور مشاريع الفضاء التجارية، إلى خفض تكلفة التجهيز اللازم لوضع منصات انطلاق، على مدارات حول الأرض، لتُستخدَم يوماً ما في هذه الهجرة إلى الفضاء. ودخلت على هذا الخط بقوة، وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتطورة (DARPA)، التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، التي ترعى مشروعاً بعيد المدى، لتطوير ذلك النوع من التكنولوجيا اللازمة للسفر عبر الفضاء، والتي بدأت تستقطب الاهتمام والأموال.
المشكلة الكبرى، كما يقول أدامز، هي المسافة. ففي أثناء الحرب الباردة، أنفقت الولايات المتحدة سنوات وكثيراً من المال من أجل إطلاق حفنة من الروَّاد إلى القمر، وإعادتهم إلى الأرض. لكن، في المقاييس الفضائية، السفر إلى القمر هو لا شيء.
قطر الكرة الأرضية 12,742 كيلومتراً (7,918 ميلاً). فإذا تخيلنا أن الكرة الأرضية تقلصت إلى حجم حبة رمل، ووضعناها على طاولة مراسل «الإيكونومست» العلمي (في لندن) لكان القمر حبة رمل أصغر، على مسافة 3 سنتمترات، ولكانت الشمس كرة أكبر، على مسافة 12 متراً. بهذه المقاييس، يكون «ألفا سنتشوري – ب» على بعد نحو 3200 كيلومتر. في هذه الحال، لا تستطيع الصواريخ العاملة بالوقود الكيميائي أن تنتج طاقة يمكن معها اجتياز هذه المسافات، في أي زمن مفيد.
إن الطاقة النووية تستطيع أن تخفض هذه الأرقام تخفيضاً كبيراً. فالصاروخ الذي تخيله الدكتور دايسون، ويعمل بالانفجارات النووية المتلاحقة، يحتاج في هذه المهمة، إلى نحو 130 سنة، مع عجزه عن الإبطاء اللازم لدى الوصول إلى أقرب نجم إلى مجموعتنا الشمسية (ذلك أن الإبطاء سيزيد الطاقة اللازمة، إلى أكثر من الضعف). وسيجتاز النظام «الشمسي» الآخر في غضون أيام. ومع ان «ديدالوس» أسرع، فإنه سيركز عدساته على الهدف، وهو يمر بقربه، جامعاً ما أمكنه من معلومات في طريقه. وسيكون «إيكاروس»، الذي سيخلفه، قادراً على الأقل على أن يبطئ. وحده مشروع «لونغشوت» الذي تخطط له «ناسا»، ينطوي على التوقف لدى الوصول، والبدء بالدوران حول النجم الذي ستدرسه المركبة الفضائية. لكن الصواريخ النووية لها مشكلاتها الخاصة. فهي تميل إلى الضخامة. فمركبة «ديدالوس» ستزن 54,000 طن، ويعزى هذا إلى أنها ستحمل معها كل وقودها. وهذا الوقود وازن في ذاته، ويحتاج مزيداً من الوقود لحمله وتسريع انطلاقه. وهكذا تتزايد الأوزان وتخرج عن السيطرة. والوقود المنشود، وهو نظير للهليوم، اسمه هليوم 3، ليس سهلاً الحصول عليه. ويرى فريق «ديدالوس» أن الحصول عليه ممكن من غلاف المشتري، بواسطة بشر ينتشرون في النظام الشمسي.
وثمة معالجة أخرى لهذه المشكلة، اقترحها العالم الراحل روبرت فوروِرد، ويتبناها الدكتور بنفورد وأخوه غريغوري، وهو مثل فوروِرد، عالم فيزياء وكاتب أدب خيالي. الفكرة هي التخلي عن فكرة حمل الوقود، فتكون المركبة الفضائية مجهّزة بأشرعة. وبدلاً من أن تتلقف الأشرعة الريح، تتلقى من مركبة تدور حول الأرض، طاقة في شكل أشعة ليزر، أو شحنات «مايكروويف». هذه الوسيلة تدفع السفينة الفضائية بقوة هائلة، فتبلغ سرعتها (مع بعض الحظ) جزءًا من سرعة الضوء.
من دون حمل الوقود يمكن للسفينة الفضائية أن تكون خفيفة، تستطيع أن تتسارع، وأن تتوقف عند بلوغها الهدف، باستخدام الطاقة من أشعة النجم الذي تقصده.
إن أسس هذه التكنولوجيا مجربة. فأشرعة «المايكروويف» استُخدمت في مختبرات فضائية. وجهاز بث الليزر قابل للاستخدام وإعادة الاستخدام. وهذا يعني أن هذه السفن الفضائية يمكن أن تكون تكلفتها أرخص من تلك التي تستخدم الصواريخ النووية.
الخيال العلمي لإنقاذ الواقع
جاء في مسلسل «ستارجيت» أن الخيال العلمي هو «مجاز وجودي؛ يسمح لنا برواية القصص حول الحالة الإنسانية». وقال إسحاق عظيموف ذات مرة «إن قصص الخيال العلمي الفرديّة قد تبدو في غاية التفاهة للنقاد والفلاسفة العُمي اليوم. ولكن جوهر الخيال العلمي أصبح أساسيّاً لخلاصنا، إذا كان مكتوباً لنا الخلاص».
ينظر العالم اليوم إلى الخيال العلمي على أنه حلّ للمشكلات المعقدة التي يواجهها، والتي أوقع نفسه فيها. فها هو يبحث عن كوكب بديل تصلح الحياة عليه، والظريف في الوضع أنّ البشرية متجاوبة. فقد أصدرت وكالة «المريخ واحد» الهولندية إعلاناً عن حاجتها إلى من يرافقها لاستكشاف كوكب المريخ في رحلة لا عودة منها!
وقد تلقت الوكالة أكثر من 200 ألف متطوع سيُختار 40 منهم لتدريبهم على مدى 7 سنين، وسيتأهل 4 منهم فقط للرحلة (في 2023م) التي ستمتد 7 أشهر حتى يصلو إلى الكوكب الأحمر. وسيرسو الاختيار على ذكرَيْن وأنثيَيْن؛ إذا سنح الحال للتكاثر البشري على الكوكب البعيد.