يُقال إن الشاعر يعيش في عوالمه التي ينحتها كفقاعة حول تهويماته وأحلامه وتطلعاته. ويقال إنه من طينة مختلفة عن جمهور سامعيه وقرّائه والمعجبين به. ينظر إليهم من علٍ، ويحادثهم وكأنه سيّد الشعر. هذا ما يقال، لكن ماذا عن الشاعر جسداً في الواقع؟ ماذا عنه كإنسان؟
نادراً ما قابلت شاعراً لا يحب الطعام أو يكره الكسل والعُزلة والخمول، بالإضافة إلى التدخين وغيرها من الممارسات غير الصحية من وجهة نظر الصحة والسلامة الجسدية. فالشكل العام لجسد الشاعر حتى ضمن النطاق التأريخي هو جسد ساكن، تقليدي، لا يحمل أي مميزات أو مظاهر اختلاف، حتى في ما يتعلَّق بالصفات الجمالية.
لذا إذا ما نزلنا من قمم الشعراء إلى عوالم الواقع، فلا بد من السؤال: ما نسبة الزمن الذي يقضيه الشاعر في ممارسة الرياضة في الشهر الواحد؟ قياساً إلى نسبة حضوره في مقهى أو أمام “الفيسبوك” وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الأمسيات الشعرية ومعارض الكتب، أو حتى في معتزلاته؟
أعتقد أن الفارق الزمني شاسع، فالرياضة ليست مكاناً للتحاور والكلام، أي بمعنى أنه مجال يقوم خارج نطاق اللغة، في حين أن مجال الشاعر هو اللغة كما يراد لنا أن نعتقد، أو كما يريد الشعراء من قرّائهم أن يظنوا ويتخيلوا. ووفق هذه المعادلة، ينشأ بعض النبذ الضمني لأي ممارسة خارج نطاق اللغة بالنسبة للشاعر، وكأن حرفته اللغوية التي تهدف إلى إعادة التشكيل وإلى رسم الحياة بطرق مختلفة، وإلى التفكر بالخيالات والصور، تجعله كائناً متسامياً لا تلمس قدماه الأرضُ. وتتحوّل الرياضة بكونها عملاً جسمانياً يحرق الوحدات الحرارية ويؤدي إلى إفراز العرق من المسام إلى فعل واقعي جداً، لو لجأ إلى ممارسته الشاعر فإنه يتخلَّى عن طهارة شاعريتة.
وبعيداً عن تشخيص العلاقات والوظائف، ما دور اللياقة البدنية في إنتاج النص الشعري؟ وهل هناك انعكاس لهذه الممارسة في بناء الجملة الشعرية واختيار الألفاظ وطريقة التصوير؟ لو أخذت هذه الأسئلة مدى أبعد عن كونها علامات استفهام وتحوُّلات إلى ممارسات وتجارب ومطالبات، هل سنحصل على قصائد بلياقة بنائية ومرونة وحرية وتوازن في التعبير؟ أم سيبقى الفعل الفيزيقي للجسد منعزلاً عن الفعل الذهني؟
إن ارتباط الشاعر بجسده هو ارتباط مجازي (تخيّلي) حتى في مرضه أو جوعه وغيرها من الحالات الكيميائية الفيزيولوجية التي يمر بها الجسد، في الغالب لا تشتمل هذه الرؤية على النماذج القديمة، فهي مرتبطة بالنماذج الحديثة وما تتعرَّض له من أزمات وحروب ومدن مزدحمة وأنماط اقتصادية ضاغطة، تدفع الأجساد العامة للعزلة والمحدودية، فكيف بجسد الشاعر وجوهره الحسي بالإضافة إلى تحوُّلات الكتابة الشعرية التي تندفع نحو الهدوء والسكينة؟ فلا بدّ من الاستنتاج أن دوافع العزلة والتوحّد والقلق التي تؤثر في العامة من الناس في العصر الحديث، تؤدي إلى تأثيرات أكبر على جسد الشاعر وذهنيته، فتزيده تعلقاً بأوهامه وانعزاليته وخيالاته، وتصبح القصيدة أكثر فردانية وشخصانية، سواء كانت على الورق أو بين دفتي مجموعة شعرية أو على أحد مواقع التواصل الاجتماعي. تصبح القصيدة دعوة للآخرين إلى فقاعة الشاعر الخاصة، وليس العكس، أي ذهاب الشاعر إلى الجمهور ووقوفه على منصة وإلقاء ما يراه صائباً على مسامعهم ليجتذب استحسانهم…
هل تشكّل هذه التفاصيل الفرق الرفيع بين القصيدة الموسيقية الخطابية والمقفاة والقصيدة الحديثة التي بلا ضوابط أو هواجس محدَّدة أو لكنة خطابية؟ … ربما.
كاظم خنجر
شاعر عراقي.
