الذين كانوا أطفالاً في تسعينيات القرن الماضي وشاهدوا فيلم “العودة إلى المستقبل”، لا بدّ وأن يكونوا قد حلموا بركوب لوح التزلج الطائر، كما كان يفعل البطل في الفيلم، ليتحرروا من قيود الجاذبية الأرضية، ويحلقوا في الفضاء بسرعة وانسيابية عاليتين. ووفقاً للفيلم، كان اللوح الطائر يعمل على تقنية مفاعل ذري يمكّنه، بطريقة ما، من بعث طاقة مضادة للجاذبية، تعطي بدورها اللوح القدرة على الطفو مرتفعاً عن الأرض بعض السنتيمترات. واشتهر هذا المفهوم لاحقاً باسم الجاذبية المضادة، وهي ببساطة فكرة إنشاء مكان أو جسم حر لا يتأثر بقوى الجاذبية.
إن تحدي قوى الجاذبية هو حُلم طالما راود البشرية عبر العصور. وقد نراه واضحاً وجلياً في أدب الخيال العلمي وما يستوحى منه من أفلام ومسلسلات تلفزيونية. فأول استخدام لمفهوم “الجاذبية المضادة” في صناعة القصة كان من قِبل أحد مؤسسي أدب الخيال العلمي الأمريكي وهو جورج تَكَر، وبالتحديد في روايته “رحلة إلى القمر الصادرة في عام 1827 م. إذ تخيَّل تَكَر سفينة فضائية مطلية بمعدن نادر ذي خصائص مميَّزة يجعلها قادرة على إنشاء مجال مغناطيسي معاكس لتأثير الجاذبية وبالتالي التحليـق بعيداً إلى القمر.
لكن إلى أي مدى يمكن تطبيق هذه الفكرة على الواقع؟ هل يمكن لنا أن نصنع الجاذبية المضادة؟
الجاذبية في الفضاء
إننا نتفاعل مع الجاذبية بشكل يومي في حياتنا، لكننا نادراً ما نعطيها القدر الكافي من التقدير. فهذه الظاهرة الخفية مهما بدت لنا ضعيفة إلَّا أنها تُعدّ إحدى القوى الكونية الأساسية، التي تؤثر على جميع الأجسام في الكون من كواكب ونجوم ومجرات. بل تكاد الجاذبية أن تكون القانون العادل الذي يسري على الكل، والذي يستحيل كسره أو الهروب منه.
ولكن ماذا عن الفضاء؟ وهذا تساؤل مهم وفي محله. لأننا عندما نرى صور وأفلام روَّاد الفضاء وهم يطفون على متن المكوكات والمحطات الفضائية، ينتابنا شعور بأنهم خارج مجال الجذب الخاص بالأرض، وبالتالي، فهم في حالة انعدام تام للجاذبية. لكن الحقيقة أن هذا تأثير وهمي وأنهم مثلنا تحت رحمتها.
إن تحدي قوى الجاذبية هو حُلم طالما راود البشرية عبر العصور، وقد نراه واضحاً وجلياً في أدب الخيال العلمي وما يستوحى منه من أفلام ومسلسلات تلفزيونية.
إن التفسير الكلاسيكي لظاهرة الجاذبية يعتمد على كتل الأجسام والمسافات بينها. ووفقاً لمعادلات نيوتن فإن قوة الجاذبية تقل كلما زادت المسافة بين الأجسام ولكنها لا تتلاشى أبداً. هل هذا يعني أن روَّاد الفضاء تحت تأثير أقل للجاذبية بحكم بُعدهم عن سطح الأرض، ولذلك يطفون بكل سهولة؟ في الحقيقة لا، بل بالعكس تماماً، إذ تكاد تكون قوة الجذب الأرضية المؤثرة على الروَّاد ومركباتهم هي نفسها التي تؤثر علينا على السطح بالمقدار نفسه تقريباً. لكن ما نراه هو ببساطة حالة مستمرة من السقوط الحُر تنتج بسبب دوران المركبة الفضائية حول الأرض بسرعة ثابتة.
ولا حاجة لأن يصعد المرء إلى الفضاء ليشعر بتأثير غياب الجاذبية، إذ يمكن أن يحدث لك هذا عند سقوط المصعد الكهربائي الذي يحمله من مكان مرتفع فيشعر بانعدام الوزن، ويطفو كما لو كان فى الفضاء. بل إن وكالة الفضاء الأمريكية تستخدم طائرات خاصة لتدريب الروَّاد على العمليات في الفضاء، عن طريق خلق بيئة سقوط حر، وتسمى تلك الطائرات “بالطائرات ذات مسار القطع المكافئ”، وأشهرها الطائرات التابعة لشركة زيرو جي كوربوريشن (Zero G Corporation).
الجاذبية المضادة
إن الإحساس بانعدام الوزن الظاهري الناتج عن السقوط الحر ليس هو المفهوم نفسه الذي يتحدث عنه كتّاب الخيال العلمي في رواياتهم عندما يصفون الجاذبية المضادة. إذ يمكن وصف الجاذبية المضادة بكونها قوة معاكسة للجاذبية الأرضية تنتج عن طريق تقنيات متطوِّرة تجعل ممتلكها قادراً على التلاعب بالقوى الفيزيائية الأساسية للكون.
فقد حاول العلماء منذ أكثر من قرن الوصول إلى الجاذبية المضادة عن طريق فهم أعمق للقوى الكونية الأساسية الأربع (الجاذبية، الكهرومغناطيسية، النووية الضعيفة، والنووية القوية). وعلى الرغم من ظهور إنجازات كبيرة في كل من هذه المجالات إلا أن الجاذبية المضادة ظلت حبيسة الكتب. وهناك محاولات متقطعة لدراسة هذا المفهوم على نحو تفصيلي أكثر، ولكن هذه الجهود تحوَّلت لتنصب في تحقيق فهم أكبر لطبيعة الجاذبية.
ولعل أكثر هذه المحاولات شهرة كانت من قبل “مؤسسة بحوث الجاذبية” التي أسسها رجل أعمال أمريكي شهير عام 1948م، والتي حاولت دراسة الجاذبية المضادة بشكل خاص، وبحث طرق للحدّ من آثار قوة الجذب الأرضية. وعقبتها محاولات من الحكومة الأمريكية لدراسة الجاذبية المضادة في الخمسينيات و الستينيات الميلادية، لكن من دون أي تقدُّم ملحوظ. وآخر المحاولات كانت من قبل “ناسا” في أواخر التسعينيات عند تأسيسها لمشروع “فتوحات جديدة في فيزياء الدفع”، الذي كان جلّ اهتمامه دراسة مجموعة من الوسائل “الثورية” غير المعهودة لدفع المركبات الفضائية. ورغم أن المشروع تم إيقافه من قِبل ناسا في 2002 م، إلا أن القائمين عليه خرجوا ببعض الطرق الافتراضية لصناعة محركات تتلاعب بقوى الجاذبية مثل محرك “الرمي والتحيز”،الذي يعتمد على فكرة تخفيض قيمة الثابت G قبل وبعد المركبة مما يخلق قوة دافعة، أو “محرك الكوبييري” وهو محاولة لتطبيق نظرية الكوبيير الحسابية التي استطاعت إظهار إمكانية السفر بسرعة أعلى من سرعة الضوء. ومع ذلك، تبقى كل هذه الافتراضات مجرد تكهنات رياضية يصعب -وربما يستحيل- تطبيقها، بالنظر إلى مستوانا التقني وفهمنا المتواضع للكون.
يعتقد كثير من الفيزيائيين أن صنع جهاز يمكن له أن يولد جاذبية مضادة هو أمر غير قابل للتطبيق، وفقاً لكل ما نعرفه عن الكون والقوانين التي تحكمه. لكن بلا شك سيظل العلماء الذين يحلمون به، ويحاولون ما دام الخيال العلمي حياً في قلوبهم.