يكمن واحد من أوجه التلوث اللغوي في تلقي مصطلحات الإعلام المعاصر، لما لها من أثر في تشكيل الهوية الحضارية. ويقف بحثنا في هذا المجال الضيق عند الخصوصية الحضارية للمصطلحات بشكل عام، وعند بعض الأمثلة المتداولة في وسائط الاتصال والميديا، وتأثيرها على الدراسات الأدبية والاجتماعية واللغوية المعاصرة، التي تحمل في دلالاتها مضامين من التحيّز لمصطلحات الحضارة الأوروبية في عصر التحوّلات المجتمعية وانعكاسات ظروف العولمة وهيمنتها.
المصطلح: هو اللفظ أو الرمز اللّغوي الدال على مفهوم معيَّن في علم أو فن أو أيّ عمل ذي طبيعة خاصة. ويمكن تصنيف المصطلح بشكل عام إلى فئتين:
أولاهما: مصطلحات علمية أو تطبيقية. وهي حيادية المفهوم، مثل: بوتاسيوم، كيلومتر، تلفاز، مذياع، قناة، ملتميديا، حجر، ماء، نبات، دواء…. ونحوها. وهذا النوع من المصطلحات شائع عالمياً ومشترك بين جميع اللغات والأمم.
ثانيهما: مصطلحات ليست حيادية، وهي ذات خلفية حضارية، ألفاظها ومعانيها ودلالاتها وتراكيب جملها، تحملها لغتها الخاصة إذ تدل على شعب ما أو طائفة أو أمة دون سواها. وربما يحدث التوافق في بعض الجزئيات مع الآخر ولكن تظلّ الخلفيات الحضارية قائمة، مثل: الزكاة، ليلة القدر، الإسراء، ونحوها.
كيف تُلّوث المفاهيم؟
إن عدم إيلاء الظروف التاريخية والاجتماعية أهمية في سياق الاتصال اللغوي أو الأعلام، سواء في العبادة أو في الحياة المدنية أو في طلب العلم والتعلّم، وتعميم المصطلحات التي تتناول المعتقدات والمفاهيم من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى من دون الأخذ بعين الاعتبار لخصوصيات كل حضارة ومعتقداتها، يؤدي في الغالب إلى تشويش المفاهيم وتلوّثها، وتنتج عنه إشكاليات التحيّز في باب المفاهيم والسلوك، وتتسع الشقة في مضمون المفاهيم وآداب السلوك الإنساني وأخلاقياته الأدبية المتعارف عليها.
ارتباك حضاري
إن التقدُّم في المعرفة البشرية والتكنولوجيا والاقتصاد يعتمد إلى حدٍّ كبير على تبادل المعلومات وتوثيقها. وتستخدم المفاهيم والمصطلحات التي ترمز إليها كأساس لتنظيم الأفكار المتداولة والمتبادلة بين الشعوب. غير أن التطوّر السريع في وسائط التلقي الإعلامي في المعارف الإنسانية رافقته صعوبة في إيجاد مصطلحات كافية شافية. وأدّت هيمنة العولمة والشركات عابرة القارات إلى ارتباك واضطراب على المستويين الحضاري والفكري بين الأمم.
إن تصنيف المفاهيم وطريقة التعبير عنها يختلفان من لغة إلى أخرى مما يؤدي إلى صعوبة في تبادل المعلومات ونموها أو تغييرها وفي وضع المصطلحات المقابلة لها. ومن هنا توسّعتْ الدراسات في علم المصطلحات.
أوضح ما يطفو على السطح، هيمنة المفاهيم الغربية الوافدة على دول العالم الثالث، وهو ما يعرف في الدراسات الحضارية بـ “هيمنة المركزية الأوروبية”. وهو مصطلح يشير إلى الكيفية التي اصطبغ به الوعي الأوروبي لذاته، إذ صار يرى أنه يحتل مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بيئته الحضارية الخاصة، ما دفعه إلى إشاعتها أو فرضها على الآخر. وأدّى هذا الوضع إلى إشكاليات في التحيّز الحضاري والبلبلة الفكرية لكثير من مضامين المصطلحات العربية منها، مثل: الدين، الشرع، الاحتكار، اليسار، الإرهاب، التفاوض، التطرف، الأسرة، حركة تحرير المرأة و غيرها.