على غرار الفلم العالمي «ذهب مع الريح» تأتي قصتنا اليوم، فالريح عامل مشترك بينهما، لكن مع بعض التغيير في الفعل «ذهبَ»، ليصبح اسماً، وذلك في إشارة إلى المعدن النفيس «الذهب». يمكن أن نتخيل موضوعنا الذي نحن بصدده وهو الحصول على الذهب من الريح. ولكن أي ذهب هو؟! إنه عماد الحياة، حيث تحيا الأشياء به. روناء المصري تحدثنا عن استخلاص الماء من الريح.
تحتاج عملية استخلاص المياه من الرطوبة الجوية إلى درجات حرارة تصل إلى 50 درجة مئوية، لتنتج يوميًّا حوالي 7.5 متر مكعب من الماء
مشروع «اشرب من الريح» تم تطبيقه لسد الفقر المائي في كينيا، حيث يعاني أكثر من نصف سكان المنطقة عدم توافر مياه نظيفة
لم يتوصل العلماء إلى صناعة معدن الذهب بوساطة الرياح، ولكنهم استطاعوا الحصول على الماء «أكسير الحياة» بوساطة تقنيات حديثة ومتقدمة للغاية، بوصف أن الماء أصبح شحيحاً وثميناً على كوكب الأرض، كما أن المستقبل سيشهد ارتفاعاً كبيراً في سعر المياه، ليتم إدخال مصطلح «المياه تساوي أموالاً» بعد ثبوت أن كل قطرة ماء تساوي ثروات ومكاسب يمكن تحقيقها!
هناك تكهنات من العلماء بأن زيادة قد تصل إلى %40 في حصة المياه التي تستخدم في الزراعة عن القدر المستخدم حاليًّا بسبب الجفاف، وذلك بحلول عام 2080م على وجه التقريب، وهي نسبة مخيفة إذا ما أضيفت إليها زيادة نسبة الاحتياجات المائية في المزارع التي تعمل على تربية اللحوم بسبب زيادة احتياج تلك الكائنات للمياه في النمو لإنتاج اللحم واللبن وغيرهما من المنتجات الصناعية ذات الصلة. إضافة إلى تزايد الاحتياجات المائية المستخدمة كوسيلة للتبريد فقط داخل المصانع المختلفة، فضلاً عن استخدامها في أعمال النظافة أو كمدخلات لا غنى عنها في عمليات التصنيع المختلفة.
القصة ببساطة قامت بها مجموعة من شركات القطاع الخاص في هولندا، كل على حدة، منها الشركة الهولندية المحدودة Dutch Water Limited، وشركة تدعى «هاتنبوير للخدمات المائية»، Hatenboer- water B.V. for water services والشركة الهولندية لاستحثاث المطر Dutch rain maker وبالطبع وجود شركات في مجال المياه يعني بالضرورة وجود استثمارات وتحقيق أرباح خاصة، وأن تلك الشركات تهتم بإيجاد حلول لمشكلة المياه النظيفة في البلدان المحرومة ذات البيئة الجافة أو ذات مصادر المياه المالحة مع عدم توافر إمكانات تحليتها بالتقنيات التقليدية الباهظة، أو في البلدان التي تعاني التصحر والجفاف مع محتوى مائي جوفي.
طاقة الرياح
هناك بعض الحقائق التي لا بد أن نتعامل معها قبل أن نتحدث عن طاقة الرياح بشكل مستفيض:
أولاً: هناك ما يربو على 1.1 مليون شخص يعانون الحرمان من وجود مياه آمنة تصلح للاستخدام الآدمي.
ثانياً: هناك حوالي 2.5 مليون شخص يعانون نقص البيئة الصحية الآمنة لهم من جراء حرمانهم من وجود المياه، المنظف العالمي الأكثر شهرة.
ثالثاً: هناك تزايد ملحوظ في نقص إمدادات الري للزراعات المختلفة.
رابعاً: نقص متزايد في جودة المياه المستخدمة حاليًّا في جميع المشروعات، بالرغم من أن كمية المياه الموجودة على سطح الأرض ثابتة ومعروفة، وكذلك دورة المياه في الطبيعة.
إن مشكلات تلوث المياه بسبب الإهمال البشري وعوامل التغير المناخي والاحترار العالمي تؤثر سلباً في تلك الموارد الثابتة للمياه، ما جعل أنظار العلماء تتجه صوب استخلاص المياه خلال دورتها الطبيعية في أكثر من طور ومرحلة. من هذه المراحل، مرحلة تكون بخار الماء في الجو حيث تكون المياه عذبة بصورة طبيعية ولكن على هيئة غازية، وتحملها الرياح حيث تسقط في شكل مطر على المناطق المناسبة من حيث برودة الجو والضغط الجوي، ومرحلة أخرى عندما تسقط الأمطار فعليًّا ويتسرب جزء منها داخل باطن الأرض على صورة مياه جوفية أو مياه راكدة، أو حتى عند عودتها مرة أخرى إلى البحار المالحة والمحيطات، وهنا تكون المياه في صورة سائلة لكنها لا تصلح للاستخدام الفوري، ولكن الابتكار يتطلب كذلك استخدام جميع المعطيات المتاحة في الطبيعة، فلِمَ لا يحاول العلماء استثمار الرياح في أكثر من مجرد عملية استخلاص للماء العذب، لِمَ لا تكون، أيضاً، الطاقة التي يتم استخدامها في استخلاص تلك المياه في الوقت نفسه؟!
الفكرة تبدو في غاية الدقة وغاية السهولة والعبقرية. ففي بلد مثل هولندا المشهورة بطواحين الهواء يمكن أن تستثمر طاقة الرياح بطريقة مثلى، حيث يخدم البحث العلمي إنتاج المزيد من طواحين الهواء المبتكرة واختيار أماكن بنائها بدقة ومهارة، لدرجة مكنتهم من بناء سدود بحرية من طواحين الهواء في اتجاه بحر الشمال الذي تطل عليه هولندا بأنهارها الأربعة.
والآن يأتي بنا المطاف إلى الحديث عن طاقة الرياح، القوة التشغيلية للمشروع، حيث تحمل جزيئات الهواء من جراء حركتها داخل الغلاف الجوي للأرض طاقة حركية، وبما أن الطاقة يمكنها أن تنتقل من صورة لأخرى، فإن حركة الهواء المحمل ببخار الماء تؤدي إلى اكتساب الطاحونة الهوائية طاقة حركية تتناسب مع قوة الرياح التي تهب عليها وشدتها واتجاهها، وهذه الأخيرة بدورها تنقل طاقتها المكتسبة إلى صورة أخرى من الطاقة وهي الطاقة الكهربية من خلال مولد كهربي موجود داخلها، وتبدأ بعد ذلك سلسلة من حالات انتقال الطاقات وتغير صورها حتى نحصل في النهاية على كوب ماء نظيف.
وحدة متكاملة
المفيد والجديد في تلك التقنية هو وحدة العمل المتحركة والصغيرة نسبيًا في حجمها التي يسهل حملها وبناؤها وتركيبها في مناطق جرداء لا ماء فيها على الإطلاق، أو في مناطق المياه المالحة، أو في المرتفعات النائية، وهذا ليس عجباً، لأن الفكرة تعتمد على الحصول على الماء من الهواء أو من الطبيعة.
إن تلك المشروعات تخدم السياحة في الصحراء دون تأثير سلبي في البيئة، الأمر الذي يمكن الاستفادة منه في الاستثمارات الخاصة بسياحة السفاري، أو السياحة عموماً، أو باستكشاف المناطق الأثرية أو حتى في توفير وحدات شرب ملحقة بمشروعات استخراج النفط أو عمليات تكريره، وكذلك تفيد في استثمارها كوحدات للشرب في التجمعات العمرانية الجديدة للإسكان منخفض التكاليف، أو في التجمعات السكنية بوجه عام، أو كوحدات ملحقة للحصول على الماء النظيف بداخل التجمعات الصناعية المركبة.
ربما ينبغي أن نذكر دور الألواح الشمسية في هذه الفكرة المبدعة، حيث تساعد عملية استخلاص طاقة الشمس إلى جانب طاقة الرياح في الحصول على الطاقة المطلوبة للتشغيل المبدئي، فعلى سطح الوحدة توجد خلايا ضوئية خاصة، وعلى جانبها خارجاً، أيضاً، توجد أصغر طاحونة هواء يمكنك رؤيتها بشكلها المبتكر الحديث، ثم ندور حول الوحدة من الخارج، أيضاً، لنجد صنبورًا خاصًّا للحصول على المياه النظيفة الصالحة للشرب، ونعود أدراجنا ثانية إلى مدخل الوحدة لنفتح الباب الأمامي ونتأمل الأجهزة الموجودة داخلياً، ونبدأ في التساؤل: ما الذي يحدث تحديدًا؟ كيف يتم استخلاص المياه من الهواء؟ وما الوسيلة التي يتم تنقية المياه بوساطتها؟ ومن أين أتت الكهرباء كأحد المنتجات الثانوية عن عملية استخلاص المياه؟
هنا يختلف الحديث..
فشركة «هاتنبوير للخدمات المائية» تستخدم مياهًا مالحة أو مياهًا جوفية مالحة أو حتى مياهًا راكدة، وتقوم باستخلاصها عن طريق استخدام الطاقة الشمسة وطاقة الرياح، كما ذكرنا، ثم تخضع تلك المياه إلى عمليات عدة للتنقية حتى تصبح صالحة للشرب.
بينما تعمل شركة «استحثاث المطر» الهولندية على الاعتماد كاملاً على الرطوبة النسبية الموجودة في الجو، بحيث تستخلص بخار المياه منها، ثم تعمل على تنقيتها بصورة أفضل حتى تصبح صالحة للشرب، وهي لا تعتمد بشكل كبير على طاقة الشمس لكنها في المقابل تعتمد على الأرصاد الجوية في زيادة عائدها من المياه النظيفة.
من خلال حديثي مع أحد ممثلي الشركة خلال زيارتي لهولندا، العام الماضي، حصلت على شرح وافٍ للتقنية المستخدمة التي تعتمد على ما يعرف باسم «مضخات الحرارة» Heat pumps، اعتماداً على غاز الأمونيا كمبرد داخل الوحدة المثبتة في الطاحونة الهوائية، فما التفاصيل؟
مضخات الحرارة
تحتاج عملية استخلاص المياه من الرطوبة الجوية، أي من بخار الماء في الجو، إلى توافر درجات حرارة معينة نهاراً تكون هذه الدرجات حوالي 50 درجة مئوية أو ما يزيد، بينما لا تقل درجة الحرارة ليلاً عن 10 درجات مئوية، وتنتج هذه التقنية يوميًّا حوالي 7.5 متر مكعب من المياه، وفي دول حوض المتوسط قد تصبح الكمية من 40 إلى 50 لترًا يومياً، ما قد يخدم قرية يصل سكانها إلى 100 أو 150 نسمة.، وطبقاً لشركة «استحثاث المطر الهولندية» dutch rain maker، فقد تم تطبيق المشروع في الأردن بإنتاجية تصل إلى 1500 لتر يومياً، وكانت الطاحونة الأولية المستخدمة ذات قدرة 6 كيلووات، ثم تدرج الأمر إلى استخدام طاحونة ذات قدرة تشغيلية تصل إلى 100 كيلووات، وكانت الفكرة تعتمد على مضخات الحرارة التي على عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى من الاسم في أنها تضخ الحرارة ومن ثمَّ تعمل على التسخين، فإن تلك المضخات يمكنها العمل بشكل عكسي للتبريد أيضاً، ويتم ذلك عن طريق استخدام مادة تعمل كمبرد مثل الأمونيا، بحيث تعمل المضخة على تبخيرها، ثم تكثيفها مرة أخرى للحصول على التبريد المطلوب. ويتم ضغط الأمونيا «المبرد» بوساطة «كومبريسور»– ضاغط، إلى درجات حرارة عالية، فيتحول إلى الحالة الغازية، ويتم ضخها عبر حركة دائرية إلى الطرف الآخر، حيث نجد المكثف الذي يسحب درجات الحرارة والضغط العالي من المادة المبردة، ومن ثم تتحول إلى الحالة السائلة مرة أخرى، وهكذا تعود الدائرة من جديد دون الحاجة إلى إضافة المزيد من المواد، أو حتى إلى تحمل المزيد من النفقات.
توليد المياه
عندما يمر الهواء المحمل ببخار الماء إلى داخل الوحدة الملحقة بالطاحونة الهوائية، فإنه يتم تكثيف الهواء ومن ثمَّ يتحول بخار الماء إلى الحالة السائلة، غير أنه يمر في أثناء ذلك بغرف ملحقة بمضخة الحرارة، فيتعرض للحرارة العالية التي تنتج من الكومبريسور، فيتبخر ثانية ويمر عبر الأنانبيب ثانية إلى حيث يصل إلى المكثف بالأسفل، والنتيجة هي الحصول على مياه تمت تنقيتها بوساطة الحرارة العالية داخل الطاحونة الهوائية. والسؤال: ماذا عن مصير الطاحونة نفسها مع كل عمليات الحرارة والبرودة التي تحدث بداخلها؟ في الواقع يبدو من التصميم بالأسفل أن ذلك الجانب لم يتم إغفاله على الإطلاق، حيث صمم الصانعون مداخل خاصة للهواء من الجانبين تعمل على صيانة الطاحونة في أثناء عملها في تكثيف المياه وإنتاجها بالغرفة الملحقة بالأسفل في صورة مياه صالحة للشرب.
فلنشرب من الريح ونستريح
والآن، ماذا لو كان لدينا من الثروات المائية القدر الكافي دون أن يكون باستطاعتنا أن نستخدمه بشكل مثالي؟ ثم ماذا لو وجدنا الحل النموذجي لاستخدام تلك الموارد بطاقات نظيفة ومتجددة دون أن نتكبد عناء تكاليف مالية باهظة؟
هذا هو مشروع (اشرب من الريح!) الذي تم تطبيقه بالفعل لسد الفقر المائي في دولة كينيا بأفريقيا، حيث يعاني أكثر من نصف سكان المنطقة عدم توافر مياه نظيفة تصلح للاستخدام الآدمي، وبالنسبة لدخل دولة يعاني سكانها الفقر المائي فإن تلك التقنية بدت مربحة لكلا الطرفين، الصانع والمستفيد.
إن الوحدة الملحقة بالطاحونة الهوائية لها بوابة أمامية يمكن الدخول إليها لمطالعة الأجهزة المستخدمة في توليد الكهرباء وفي إنتاج مياه نظيفة، ولكن تحتاج الوحدة إلى وجود مصدر مائي، دون النظر إلى جودة المياه أو ملاءمتها للشرب أو الاستخدام، لدرجة أن المياه الراكدة قد تكون مصدراً مناسباً لإنشاء تلك الوحدة إلى جانب المياه المالحة أو المياه الجوفية، وبوساطة الطاحونة الهوائية، يقول السيد «جون دي فولف» مدير المبيعات والتسويق والتطوير بالشركة: «إنه من المفيد أن يدرك أصحاب الأعمال حجم المكاسب التي سيحققونها لمجرد ضمان استمرارية أعمالهم وعدم توقفها بسبب نقص المياه اللازمة للصناعة أو ارتفاع أسعارها»، وتصلح تلك الوحدة لاستخدامات الطوارئ، ولتجهيزات المستشفيات في المناطق التي يصعب الوصول إليها، أو في المناطق النائية، وفي المنتجعات صديقة البيئة، وفي الثكنات العسكرية، وفي أغراض الزراعة والصناعة بالطبع.
تعمل تلك الوحدات على استخلاص المياه بوساطة خاصية فيزيائية تعرف باسم الأسموزية العكسية reverse osmosis، وتبلغ أبعاد الوحدة الحاوية لأجهزة الاستخلاص حوالي 8-20 قدمًا، بينما تنتج حوالي 7 آلاف لتر من المياه العذبة يومياً، وتعمل على إنتاج طاقة كهربية بمعدل يومي ثابت يقدر بحوالي 6000 واط.
الأسموزية العكسية
هذه التقنية تعتمد على قوانين الفيزياء المعروفة في التخلص من الشوائب أو الجزيئات الكبيرة الحجم، والأيونات ذات الشحنات المختلفة بوساطة أعمال ضغط على السائل المراد تنقيته والذي يمرر خلال غشاء معين بحيث يقع على السائل ضغط عالٍ على أحد جوانب الغشاء، بينما يتلاشى ذلك الضغط على الجانب الآخر، ما يسهل عملية الفصل، وعادة في حالة الخاصية الأسموزية فإن الأيونات والجزيئات سوف تتجه طبقاً للخاصية الأسموزية إلى حيث الضغط المنخفض، بغرض الحصول على تركيز متساو للسوائل على الجانبين، ولكن العكس يحدث تماماً في حالة الأسموزية العكسية، حيث تظل الأيونات والمركبات عالقة بالجهة ذات التركيز العالي، بينما يسمح للماء النقي فقط بالمرور إلى حيث الجانب ذي الضغط المنخفض، وعندها يتم استخلاص الماء النقي بعد فصله عن العوالق به والشوائب التي قد تكون موجودة من الملوثات المختلفة أو الأملاح المختلفة في حال المياه المالحة. ما يبدو جليًّا اعتماد تلك الخاصية على مدى حساسية الغشاء المستخدم وكذلك مواصفات تصنيعه، إذ لا بد أن يكون ذلك الغشاء ذا خاصية الاختيارية النفاذية، أي إنه يسمح بمرور الماء فقط خلاله، بينما يمنع مرور المواد الأخرى، وبهذا الشكل يتم فصل المكونات من الماء بدقة كبيرة، غير أن ذلك يتطلب تغيير الغشاء من وقت لآخر لضمان كفاءة التشغيل ونقاوة المياه المستخلصة في الوقت نفسه.
يبدو أن الطرق متعددة ومتنوعة في الحصول على كوب ماء نظيف، في وقت أصبح فيه الماء غالي الثمن. وكما يقال إن «الحاجة أم الاختراع» فلولا تفاقم مشكلة المياه واعتماد الاقتصاد العالمي على توافرها بكميات معينة لما لهث الجميع من أجل توفير نقطة ماء عذبة واحدة بمواصفات جودة عالية، أو فلنقل مقبولة حتى يستمر رجال الأعمال في ممارسة أعمالهم، ولما نشأت شركات تستثمر في مجال المياه، ولما كانت الطاقات النظيفة أرخص سعراً عن ذي قبل، إن الحاجة سبب من أسباب النجاح.