أن يفقد المرء بصره، هذا لا يعني بالضرورة أن تنغلق دونه دروب الحياة، ويموت في نفسه الأمل، هذا ما برهن عليه، وبقوّة، المؤرخ عبدالرحمن بن عثمان بن محمد الملا، الذي فقد حاسة البصر، وهو لم يتجاوز بعد الخامسة من العمر، إثر إصابته بالرمد الصديدي، ما جعله يخوض معركة مع الحياة تخبرنا عن بعض فصولها شمس علي، كاشفة من خلالها، كيف أن فقدانه للبصر لم يفقده حماسته وإصراره العميقين على مواصلة درب التحصيل العلمي، وممارسة شغف الكتابة، إضافة إلى نظم الشعر.
كفيفة توقد له قنديلاً
في سبيل أن يبرهن الملا على إيمانه العميق بإرادة الإنسان، اختار أن يُتِمّ حفظ القرآن الكريم في صباه المبكر على يد امرأة صالحة كفيفة، وهو لم يتجاوز بعد الثانية عشرة من العمر، فيما أخذ مبادئ النحو والصرف والتجويد على يد الشيخ عبدالمحسن الحوراني، وهو أحد خريجي الأزهر الذين تم استقدامهم للتعليم بالمملكة.
وفي عام 1374هـ، تمكّن الملا من الالتحاق بالمعهد العلمي، حيث أتم فيه دراسته للمرحلة الثانوية عام 1381هـ، وخلال هذه الفترة تفجّرت في داخله ينابيع الشعر. ولأنه مهجوس بتقطير الوقت والإفادة منه، تطوّع في إجازة الصيف في عقد حلقة لتعليم مبادئ العلوم الدينية، وعلوم اللغة العربية للراغبين في الالتحاق بالمعهد العلمي ولم يحالفهم الحظ للالتحاق به.
إرادة لا تعرف اليأس
لم يكتف الملا يشهادة المعهد العلميّ، والتي كانت مقنعة للكثيرين في ذلك الزمن، وبإرادة لا تعرف اليأس، واصل مشواره التعليمي ليتمكّن بذلك من الحصول على ليسانس اللغة العربية من كلية اللغة العربية في الرياض، وذلك في عام 1385هـ، وفي عام 1396هـ توجه للقاهرة للدراسة بها ضمن بعثة دراسية أوفدتها إلى هناك وزارة المعارف، فعاد منها إلى أرض الوطن بدبلوم في التربية الخاصة.
شغف المعرفة
لم تكن الكتب المنهجية كافية لإرواء عطشه للمعرفة، فقد شغف الملا بالمطالعة منذ نعومة أظفاره. تذوّق الشعر فحَفِظَه ونَظَمه. كان يمضي سحابة النهار، وشطراً من الليل في تفيؤ ظلال الأدب الرفيع، برفقة ثلة من مجايليه المهتمين بمتابعة الحركة الفكرية، في رباط الشيخ أبي بكر الملا حيث كان الطلبة مواظبين على الحضور، ما مهد له في وقت لاحق الطريق لمشاركة فاعلة في النادي الأدبي بالمعهد العلمي، والذي احتضن أيضاً بعض بواكيره الشعرية، وقام بنشرها في المجلة التي يصدرها النادي وقتها بعنوان «هجر»، والتي طبعت في بيروت عام 1375هـ.
محطة عملية لافتة
في عام 1385هـ وجهه سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ الملا لعمل شرعي بوزارة الأوقاف، ولأن النظر في القضايا الشرعية لا يمت إلى مجال تخصصه بصلة، جهد في محاولة إقناع الشيخ بالعدول عن ذلك، ومن ثم انخرط في سلك التدريس بوزارة المعارف، بيد أنه سعى للحصول على تقاعد مبكر وأنفذ قراره في عام 1414هـ ليتفرّغ للحياة العلمية مخلصاً للبحث والتأليف، وبعد سنوات طويلة عين رئيساً لنادي الأحساء الأدبي في بداية تأسيسه، لينتهى به المطاف حالياً أستاذاً غير متفرغ في جامعة الملك فيصل بالأحساء.
من أبرز مؤرخي الأحساء
تمخضت المسيرة الثقافية لعبدالرحمن الملا عن عدد من المؤلفات شكّلت أبرز المراجع للباحثين والمهتمين بالتاريخ، فـ«تاريخ هجر» كتابٌ من جزأين في التاريخ، وهو عبارة عن دراسة حضارية شاملة للحياة الطبيعية والعمرانية والاقتصادية والسياسية في الجزء الشرقي من شبه الجزيرة العربية، البحرين قديماً، والأحساء والكويت والبحرين وقطر في العصر الحديث، صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1410هـ، والطبعة الثانية سنة 1411هـ.
ولم يلبث الملا أن أردف كتابه الأوّل بكتاب «تاريخ الحركات الفكرية واتجاهاتها في شرق الجزيرة وعمان» «مطبوع» سنة 1414هـ، وديوان شعري بعنوان «أغاريد من الخليج» سنة 1418هـ، وكتاب «تاريخ الإمارة العيونية في شرق الجزيرة العربية» عن مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، عام 2002م.
ولم يكتفِ الملا برصد أحداث التاريخ والحركات الفكرية شرق الوطن، بل واصل رصده وأصدره في كتاب آخر حول:«حركة التأليف والنشر في الإحساء والمنطقة الشرقية»، وهو من مطبوعات مركز الترجمة والتأليف والنشر بجامعة الملك فيصل سنة 1422هـ، ليرسّخ اسمه كواحد من أهم المراجع التي لا يستغنى عنها في قراءة تاريخ وفكر المنطقة.
إضافة إلى ما سبق شارك الملا في تأليف كتاب حول آثار المنطقة الشرقية من سلسلة آثار المملكة العربية السعودية، أصدرته وكالة الآثار والمتاحف بوزارة التربية والتعليم، ولا ينسى الملا أن يعود إلى ذاته بين فترة وأخرى ليتفيّأ ظلال واحات الشعر في داخله، فقد صدر له عام 1426هـ «وجوه ومرايا»، وهو ديوان شعري تمت طباعته في مطابع الكفاح، الأحساء.
أهم البحوث
بحث: «التصوير الحسي والوجداني في شعر المكفوفين» مقدم لبرج النور في القاهرة.وبحث آخر حمل عنوان: «الرسم بالكلمات عند المكفوفين»، مقدم لملتقى المنال 2004م بمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، إضافة إلى بحث «الخليج العربي واستراتيجية الحياة الحضارية المبكرة»، مقدم للجمعية التاريخية السعودية في الملتقى المعقود في الأحساء في عام 1426هـ قام بطباعته نادي أدبي الأحساء.
رائد في كتابة المسرح السعودي
يعدُّ عبدالرحمن الملا من أوائل من كتب المسرحية الشعرية في المملكة العربية السعودية، كما أنه أول من كتب المسرحية النثرية إنشاءً في المنطقة الشرقية، وكانت من قبل تقتصر على النقل عن قصص التراث والوقائع التاريخية، ولديه رصيد من المسرحيات التاريخية والاجتماعية التي تم تمثيل بعضها على مسارح مدارس في المنطقة الشرقية.
حضوره في الإعلام المرئي والمقروء
أجريت معه جملة من اللقاءات الأدبية والاجتماعية التي تم بثها عبر قنوات محطة التلفزيون السعودي «القناة الأولى» والقناة الإخبارية، وتلفزيون الشرق الأوسط (mbc)، وإذاعات البحرين والكويت والقاهرة والإسكندرية، ودار الإذاعة العربية السعودية بالرياض «البرنامجين الأول والثاني» مثل برنامج وللحديث صلة، أرض الخليج، حديث السهرة، وغيرها. ونشرت قصائده في صحف ومجلات منها مجلة الجزيرة التي كانت تصدر بالرياض تحت إشراف الأديب عبدالله بن خميس، شارك ببعضها في أمسيات شعرية، إضافة إلى إلقائه طائفة من المحاضرات التاريخية والأدبية في عدد من المناسبات الثقافية بالجامعات وبعض المؤسسات الأكاديمية.وعلى سبيل المثال:
ثلاث محاضرات قام بإلقائها بجامعة الملك فيصل بقسميها في الأحساء والدمام.سلسلة من المحاضرات في الحياة الفكرية والسياسية بهجر تم إلقاؤها في كلية الشريعة فرع جامعة الإمام بالأحساء، وفي كلية إعداد المعلمين، وفي المراكز الصيفية، ونادي المنطقة الشرقية الأدبي,ومحاضرات حول الأدب السعودي شارك بها في عدد من المواسم الثقافية خارج المملكة، ومحاضرة حول تاريخ الأحساء ومصادره تم إلقاؤها بقصر المربع في يوم الثلاثاء 2/11/1425هـ.
ويذكر له تقييمه ومراجعته عدد من الدراسات والبحوث تمت إحالتها له من بعض الجامعات والمؤسسات العلمية والنوادي الأدبية.هذا إلى جانب مشاركته في جملة من الحوارات الفكرية والثقافية والاجتماعية التي قامت بتنظيمها مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، ضمن أنشطة مهرجاناتها في الكويت وبيروت وقرطبة، وكذلك ما قامت به بعض المؤسسات الفكرية والثقافية بالمملكة من اللقاءات الحوارية، والتي كان آخرها اللقاء الذي عقده مركز الملك عبدالعزيز في 27/8/1426هـ بالأحساء بعنوان «نحن والآخر».