بيت الرواية

مواجهة الإنسان للخوف
وثمنها في رواية البصيص

طَعْمُ الذئب

تبدو الكتابة عن الصحراء مغامرة، وخاصة لكاتب من الجيل الجديد، الجيل الذي انعتق من الصحراء وصار لا يعود إليها إلا مدججاً بسيارات الدفع الرباعي ووسائل التقنية التي تقيه من مخاطر الضياع والموت التي هدَّدت أجداده لآلاف السنين، كانت الصحراء أسلوب حياة قاسياً، مخاطر يومية وحالة مستمرة من إثبات الرجولة والتمسك بالتقاليد التي صيغت لتمنح الإنسان فرصة أفضل في مواجهة كل ما ينتظره بين الكثبان اللامتناهية وضواريها. وقد اختار الروائي الكويتي الشاب عبدالله البصيص هذه البيئة مسرحاً لروايته الجديدة “طعم الذئب”.

جاءت هذه الرواية الصادرة حديثاً عن”المركز الثقافي العربي” في 222 صفحة مقسمة على ثلاثة فصول، وهي العمل الثاني للبصيص بعد روايته الأولى “ذكريات ضالة” ( 2014 م).

واستطاع البصيص بلغته الشاعرية، ومعرفته الجيدة بمفردات الصحراء وجغرافيتها وتقاليدها، إعادة بعث تلك الأزمنة الضائعة، مقدماً لقارئه قصة صحراوية ممتزجة بصوت الربابة، وأبيات التشبيب، وصيحات الفرسان، وعواء الذئاب، وألوان الكثبان والنفود ونباتات الثندة والعرفج والرمث، مع رائحة الخزامى والهيل ومذاق الشيح والجثجاث والذئب.

صحراء الذئاب
تطالعنا على غلاف الكتاب صورة نصفية لذئب، تتضافر مع العنوان الغريب “طعم الذئب”، وحقيقة أن بطل الرواية يحمل اسم ذيبان، وهو اسم يأتي في البيئة المحلية كصفة امتداحية تعبِّر عن قوة ودهاء وشجاعة الشخص الموصوف بها، رغم أن البطل هنا بعيد كل البعد عن هذه الصفات. ولا تقف رمزية الذئب عند هذا الحدّ، بل يحضر الذئب فعلاً عندما يخوص البطل تجربة تطهرية مع ذئب يطارده. ففيما يمثل الذئب أحد أعدى أعداء الإنسان الصحراوي، ضارٍ شرس متحفز دوماً لافتراس الأغنام وراعيها إن لزم الأمر، يستعيد البصيص هذا الكائن ليمنحه رمزية فلسفية في روايته. فالذئب الذي يطارد البطل ويكاد يفتك به لولا لجوؤه إلى جحر ضيق، يصبح لاحقاً وفي أحداث تبدو كهلوسة غريبة، حكيماً يدل البطل إلى الطريق التي يتخلص من خلالها من لامبالاته وخوفه وإيثاره للسلامة، وهي الحال التي قادت ذيبان إلى الطرد من مجتمعه الصحراوي القاسي، حيث لا مكان إلا للرجال الذين يتصرفون
كذئاب ضارية.

الإنسان ذئب لأخيه الإنسان
نستعيد ونحن نتتبع قصة حياة ذيبان وعذاباته ولقائه الخاص مع الذئب مقولة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز التي بنى عليها فلسفته السياسية “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، والكل في حرب ضد الكل، والواحد في حرب ضد المجموع”، إذ يرى هوبز أن أصل الإنسان وطبيعته هو الشر والكيد للآخرين ومحاولة إيذائهم لتحقيق مصالحه الشخصية. لقد واجه ذيبان الذئاب البشرية طيلة حياته: واجهها في مجتمعه الصغير، فرغم إيثاره للسلامة وعدم استفزازه لأحد إلا أنه لم يسلم من المضايقات والسخرية والضرب، وعاش مهدداً داخل خيمته من والدته التي لطالما لاحقته بتأنيبها، وخيبة أملها في أن يخلف زوجها الميت، الفارس المهاب وشيخ القبيلة، ابن رعديد ساكت عن حقه. لهذا نجدها في إحدى غضباتها تقول لذيبان “أريدك ذئباً تملأ العين مثل أبيك”. أما خارج الخيمة، فيتحوَّل اسم ذيبان إلى كوبان وهي كلمة احتقارية تظهر النظرة الدونية لهذا الشاب الذي يقضي وقته عند الغدير، مغنياً للفتيات على ربابته. ويستكمل البصيص تشكيل الحالة الدونية لبطله عندما يكشف إصابته بعنة دائمة، سببتها ثلاثة حوادث تعرَّض لها في طفولته. ولا يغفر الرجال لذيبان ضعفه، فيحاولون إثبات رجولتهم على حسابه وخاصة أمام الإناث، وتحديداً أمام غالية الفتاة التي فتنها شعر ذيبان وجرته للربابة، وفتنته هي بجمالها وضحكتها، الضحكة التي ستقلب لاحقاً حياة ذيبان وتدفعه إلى قتل أحد أقرانه.

طعم الذئب
يطرد ذيبان من هذا المجتمع الذي كان يرفضه في كل يوم. يطرد لأنه لم يستطع الصمود. فبقتله متعب الغصاب ولجوئه إلى خاله ابن باتل يثير ذيبان حرباً انتقامية بين القبيلتين، يقتل فيها اثنان من أبناء خاله، وتتفق القبيلتان على حلّ الصراع بمبارزة بين ذيبان وحميدان – أخ القتيل-، ولكن ذيبان يبول على نفسه وسط المبارزة التي كان يفترض فيه أن يدافع من خلالها عن نفسه أو يموت بشرف. و هكذا يطرد ذيبان فيحاول الوصول إلى الكويت، قاطعاً الصحراء للالتحاق بإحدى القوافل، ولكنه وقد ودَّع مجتمع الذئاب البشرية، يجد نفسه مطارداً من ذئب حقيقي. تتمدَّد مواجهة ذيبان للذئب على طول الفصل الثاني، وتذكرنا بكل الروائع الإنسانية التي واجه الإنسان فيها مخاوفه وهواجسه وهمومه من خلال مواجهته للطبيعة وكائناتها. نتذكر سانتياغو العجوز وصراعه مع السمكة الضخمة في رائعة إرنست هيمنغواي “العجوز والبحر”، ونتذكَّر القبطان آهاب وحوته في رائعة هرمان ملفيل “موبي ديك”، كما نتذكَّر باي ونمره في رواية “حياة باي” ليان مارتل، وغير ذلك كثيراً من حكايات الحيوانات في خرافات إيسوب أو “كليلة ودمنة” لعبدالله بن المقفع.

يحاول ذيبان النجاة من الذئب باللجوء إلى جحر صغير، يكمن فيه بطريقة جنينية تلمح إلى ما يشبه الولادة الجديدة عندما يخرج ذيبان من الجحر لاحقاً، يحاول الذئب إخراج ذيبان فينشب مخالبه في كتفه ويمزق يده، فيرد ذيبان عاضاً يد الذئب بقوة تجعله يتذوق طعم الذئب الغريب الذي تختلط فيه الحلاوة بالمرارة. نرصد تحوُّل ذيبان الروحي عندما نلاحظ تصميمه على النجاة، وهو من انطرح البارحة أمام خصمه الملوح بسيفه. نلاحظ ذلك في إصراره على عدم التبوُّل على نفسه مرة أخرى رغم انتفاخ مثانته في الجحر الذي حاصره الذئب فيه بتلك الوضعية المؤلمة لليلة كاملة.

أنا ذئب
يقدِّم لنا البصيص في الفصل الثالث من الرواية تجربة روحية هذيانية لبطله الذي فرّ من الجحر إلى شجرة أثل، تسلَّقها وقضى فوقها ليلته الثانية. يعيش ذيبان خلال ما تبقى من الكتاب تجربة غريبة، يتحاور ويتصادق خلالها مع الذئب، بل يقضي معه ليلة ممتعة حول النار يعامله الذئب خلالها كصديق، ويفيض عليه من تجربته. وخلال حياة ذيبان كلها، لم يعامله أحد بمثل هذا الحنو واللطف الذي عامله به الذئب. فتبدو لنا مقولة توماس هوبز هنا معكوسة، فالذئب إنسان لأخيه الذئب، هكذا يهتف ذيبان متحمساً:

– حسناً، أريد أن أصبح ذئباً
– لا تقل أريد أن أكون ذئباً، أجزم، قل أنا ذئب
– أنا ذئب
– بصوت أعلى رفع ذيبان صوته:
– أنا ذئب
أووووووو
ويختتم البصيص روايته بالعواء الذئبي الشهير، وببطله محاصراً في القرية التي لجأ إليها عندما تخلَّص من الذئب بعدما ذاق طعمه وتشرب حكمته. هل كان على ذيبان أن يعود إلى المجتمع البشري الذئبي، حيث يترصد له الجميع ويحاولون النيل منه، أم كان عليه البقاء في الصحراء التي قدَّم له أحد ذئابها ليلة من أفضل ليالي حياته؟ هذا هو سؤال الرواية الكبير الذي عبَّرت عنه صرختا ذيبان “أنا ذئب” و”أووووووو”.

أضف تعليق

التعليقات