ديوان اليوم

القاص صالح علي البيضاني

يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.

قاص وصحافي يمني. من مؤسسي نادي القصة اليمني (إلمقه)، ورئيس تحرير صحيفة «سرد»، وكاتب في عدد من الصحف والمجلات اليمنية والعربية. صدر له عدد من المجاميع القصصية والكتب، وحائز على جائزة رئيس الجمهورية اليمنية في الآداب والفنون (مجال القصة) للعام 2003م

قصائد تروي
حكاية شاعر ومكان
استطاع شعراء العرب دون سواهم أن يجعلوا من الشعر العربي واحات وفروع مستقلة في صحراء كانوا هم سفينتها وكانت نخلاتها أجمل ما تركوه وراءهم لطالب فيء .. برعوا في أن جعلوا من الشعر أنهاراً وينابيع تشق رمال الصحراء لتحقيق أغراضهم التي باتت اليوم أغراضاً للشعر.. كالوا المدح حيناً والقدح أحايين ..رثوا من أحبوا ومن كرهوا وتغزلوا بذوات الحسن ووافرات المال ووصفوا المها والذئاب.. وماتوا بعد ذلك، لكن قصائدهم لا تزال سامقة كنخل قائم في واحة الذاكرة يستفيء بظله المسافرون في هذه الدنيا منذ مئات السنين.

ذهب الشعراء وذهب من استمع إلى قصائدهم وحفظها. وها نحن اليوم نقف أمام بعضها وقفة إعجاب.. بعض مما علق في الذاكرة والتصق بالقلب .. ليس في الغالب إعجاباً بمضامينها التي قد لا نتفق معها ولكن تقديراً للوحات نصية رائعة، استطاعت أن تطوع اللغة وتحقق أغراضها، وتبقى كل هذه السنين كألواح من المرمر الموشاة بخيوط الذهب والغائصة في رمال الصحراء ليس تماماً.

المعري .. نقمة لا تنتهي

كان الشاعر العباسي أبو العلاء المعري (أحمد ابن عبدالله بن سليمان التنوخي) يعيش حالة من التساؤلات الوجودية التي لا تنتهي. وقد استطاع أن يخلق حالة خاصة في الشعر العربي لم تأخذ هذا الوضوح الفلسفي والديني إلا على يديه، حيث عاش ساخطاً على الدنيا ناقماً عليها. وقد دأب على مخاطبتها في الكثير من قصائده بندية بينة كأنه صنو لها.. طارحاً العديد من التساؤلات في قصائده التي حملت في طياتها كوميديا كالحة السواد، إذ يدعو في الكثير من أشعاره لهجر الدنيا والمرور عليها من دون ترك أثر إن أمكن ذلك.. فهو صاحب المقولة التي تضمنتها إحدى قصائده «هذا جناه عليَّ أبي وما جنيت على أحد» والتي تكررت في قوالب وصور مختلفة في شعره كما هو الحال في قصيدة (اللزوميات):
إذا لــــم تكـُـنْ دنيـَــاكَ دارَ إقـامـةٍ
فمــا لكَ تبنيهــا بنَـاءَ مُـقـيـــمِ؟

ويقول في قصيدة أخرى في سياق نقمته على الدنيا التي غدت طابعاً للكثير من قصائده:
دُنيــاكَ غـادرةٌ, وإن صـادتْ فتىً
بــالخَلقِ, فهــي ذميمـةُ الأخـلاقِ
سَــتمطِرُ الأغمــارُ مـن لذَّاتِهـا,
سُـــحُباً تُليـــحُ بمــومِضٍ ألاَّقِ

وفي ترحيبه بالموت كمخلص من محبس الدنيا يقول المعري:
والـروحُ طـائرُ محـبَسٍ فـي سجنهِ,
حـــتى يَمُـــنَّ رَداهُ بــالإطلاقِ

ويقول مرحباً بالموت الذي ظن أنه الخلاص الوحيد من محبسيه اللذين عرف بهما (العمى والحياة):
يـا مرحباً بـالموت مـن مُتنظِّـرٍ,
إن كــان ثَــمَّ تعــارف وتـلاقِ
سـاعاتُنا, تحـتَ النفـوسِ, نجـائبٌ,
وخــدَتْ بهــنَّ بعيــدةَ الإطـلاقِ
ألـقِ الحيـاةَ إلـى الممـاتِ, مُجـرَّداً
إنَّ الحيـــاةَ كثـــيرةُ الأعــلاقِ

البحتري .. ذئب جائع

احتلت قصيدة الشاعر العباسي البحتري (أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى التنوخي الطائي)، التي يصف فيها صراعه مع الذئب، مكانة مهمة في شعره، الذي وصف بسلاسل الذهب. إذ استطاع البحتري في قصيدته هذه وربما بدون قصد ولكن بدافع من الخوف الشديد بحسب رأيي، أن يتقمص روح الذئب الجائع الذي وصف صراعه معه من أجل البقاء في قصيدة تعد من أجمل قصائده، لما تضمنته من صور جديدة ومبتكرة تتوالى كشريط سينمائي من خلال الأبيات التي يصف فيها وقت الصراع مع الذئب، حيث يلتمع الصبح من بين عتمة الليل كبقية من حد سيف يتوج بريقه:
وليلٍ كأنَّ الصُبح في أخرياتِهِ
حُشاشَةُ نَصلٍ ضمَّ إفرِندَهُ غِمْدُ

ثم يصف البحتري الذئب الذي زاد من وحشة الليل الذي غشيه لينكشف عن ذئب جائع كان شديد التوثب للانقضاض عليه بكل جوارحه التي يصفها الشاعر بدقة دون أن ينسى اتباعها بوصفه لمناقبه هو في مقابل صفات خصمه في المعركة:
تسربلتُهُ والذئبُ وسنانُ هاجعٌ
بعينِ ابنِ ليلٍ ما له بالكرى عهدُ
أُثيرُ القطا الكدريِّ عن جثماتِهِ
وتألفني فيه الثعالبُ والرُبْدُ

ويبرع البحتري في رسم صورة واضحة لشكل خصمه تدخل القارئ في تفاصيل المعركة بينه وبين الذئب الذي كساه اللون الرمادي وبرز صدره الناحل وبرزت أضلاعه من فرط الجوع وتقوس ظهره وتدلى ذيله كحبل بئر أخذ يجره خلفه:
وأطلسَ ملءِ العينِ يحملُ زُورَهُ
وأضلاعُهُ من جانبيه شَوىً نهدُ
له ذَنَبٌ مثل الرشاءِ يجرُّهُ
ومتنٍ كمتنِ القوسِ أعوجَ منأدُّ

وينتقل البحتري إلى وصف حالة الذئب الذي استحكم فيه الجوع وبلغ مبلغه حتى سمع قرقعة أسنانه التي لا تختلف عن اصطكاك الأسنان من شدة البرد:
طواهُ الطوى حتى استمرَّ مريرهُ
فما فيه إلا العظمُ واللحمُ والجلدُ
يقضقضُ عُصْلاً في أسرَّتها الردى
كقضقضة المقرورِ أرعَدَهُ البردُ

ويصف البحتري حالته التي لا تختلف كثيراً عن حالة الذئب في مقاربة ربما تعلل سبب انتصاره على الذئب حيث يقول:
سما لي وبي من شدة الجوعِ ما به
ببيداءَ لم تُعرَفْ بها عيشةٌ رغدُ
كلانا بها ذئبٌ يحدِّثُ نفسه
بصاحبه, والجِدُّ يُتعِسُهُ الجَدُّ

وتتجسد عبقرية القصيدة في دقة الوصف للصراع مع الذئب من أجل البقاء وبأسلوب رائع تجتمع فيه بلاغة الشاعر وقدرته على إعادة تشكيل المشهد بلغة شعرية تخلَّصت إلى أبعد الحدود من عوائق وأساليب الشعر العربي القديم الذي كانت ضروراته وقواعده تأتي أحياناً على حساب أغراض القصيدة ذاتها:
عوى ثمَّ أقعى فارتجزتُ فهجتُهُ
فأقبلَ مثل البرقِ يتبعُهُ الرعْدُ
فأوجزته خرقاءَ تحسِبُ ريشها
على كوكبٍ ينقضُّ والليلُ مسودُّ
فما ازدادَ إلا جُرأةًَ وصرامةً
وأيقنتُ أنَّ الأمرَ منه هو الجدُّ
فأتبعتها أُخرى فأضللتُ نصلها
بحيثُ يكونُ اللبُّ والرعبُ والحِقدُ
فخرَّ وقد أوردتَهُ منهل الردى
على ظمأٍ لو أنَّهُ عَذُبَ الوِردُ

ويلاحظ في الأبيات السابقة حرص الشاعر على تضمين أبسط التفاصيل. وكأنه يرسم سيناريو لقصة الصراع من أجل البقاء في تتابع مدهش للصور على الجانبين حيث يصف لحظة انقضاض الذئب بكل جزئياتها: عوى ثم أقعى (ارتكز على مؤخرته). ثم يصف، وبتماثل لفظي بين ردة فعله التي تختلف كثيراً عن الذئب: «فارتجزتُ فهجتُهُ».. وهنا تتوالى أروع الصور في التشبيه الذي ربما كان مرده الحالة المشدودة للبحتري، حيث يصف هجوم الذئب عليه في السرعة مثل تتابع البرق والرعد ويصف سهمه الذي أصاب به الذئب فزاده عنفاً ليتبعه بسهم آخر في قلبه كان حصيلة لرعبه وحقده معاً.

ثم يصف البحتري لحظة أكله للذئب الذي أوقد النار من تحته وأكل منه «خسيساً» كناية عن احتقاره وعدم استمتاعه بما أكله ليقوم مخلفاً وراءه رأس الذئب معفراً في التراب!:
وقُمتُ فجمعَّتُ الحصى وَاشتَوَيتُهُ
عليه وللرمضاءِ من تحته وقْدُ
ونِلتُ خسيساً منه ثمَّ تركته
وأقلعتُ عنه وهو منعفرٌ فرْدُ..

الحارث .. الحليم إذا غضب

كان الحارث بن عباد من أحلم العرب وأحكمهم وقد تكثفت في قصيدته الشهيرة التي رثا فيها ولده بجيراً والتي يكرر فيها (قربا مربط النعامة) صورة الحليم حين يغضب ويطلب الثأر لولده..

تمتزج في هذه القصيدة صور الرثاء بطلب الثأر والوعيد بشكل متفرد في الشعر العربي كما هو الحال في مطلعها الذي يواسي فيه أم ولده بجيراً الذي يبكيه بحرقة لم نعهدها على لسان شعراء العصر الجاهلي:
قـل لأم الأغر تبكـي بجيـراً
حيل بيـن الرجـال والأموال
ولعمـري لأ بكـيـن بجـيـراً
ما أتى الماء مـن رؤوس الجبـالِ
لهف نفسي على بجيـر إذا مـا
جالت الخيل يوم حرب عضـالِ
وتساقـى الكمـاة سمـاً نقيعـاً
وبدا البيض من قبـاب الحجـالِ

ويصل الحارث إلى الجزء الشهير من قصيدته، الذي يبدأ فيه معظم أبياته بالقول (قربا مربط النعامة مني). والنعامة هي فرس الحارث، وفي مطالبته بتسليمه زمام الفرس نوع من التوثب الكبير للقتال الذي لا يعوقه إلا تعاظم حجم الحزن الذي خلفه مقتل ولده، وكرهه المتأصل للدخول في هذه الحرب (البسوس) التي كان أحد من حاولوا إطفاء نيرانها. وذلك ربما ما يفسر طلبه المتكرر بتمكينه من فرسه (النعامة)، التي لم يعد يفصله عن خوض غمار المعركة إلا امتطاء صهوتها. وفي هذا الجزء من القصيدة، يردف البيت الأول (قربا مربط النعامة مني) الذي يكرره مرات ومرات بسرد ما أحدثه فيه مقتل ولده معدداً مناقبه متوعداً قاتله بالثأر:
قربـا مربـط النعامـة منـي
ليس قولي يـراد لكـن فعالـي
قربـا مربـط النعامـة منـي
شاب رأسي وأنكرتني الغوالي
قربـا مربـط النعامـة منـي
طال ليلي على الليالي الطـوال
قربـا مربـط النعامـة منـي
كلما هب ريـح ذيـل الشمـال
قربـا مربـط النعامـة منـي
لبجـيـر مفـكـك الأغــلال
قربـا مربـط النعامـة منـي
لا نبيع الرجـال بيـع النعـال

أبو البقاء الرندي .. رثاء أمة

بنفس قوة وحرقة الحارث ابن عباد حين رثى ولده بجيراً كتب الشاعر الأندلسي صالح بن يزيد ابن صالح ابن شريف الرندي، قصيدته في رثاء أمة، وزوال مجد العرب في الأندلس حين تهاوت آخر قلاعهم بسقوط (غرناطة).. وتتميز القصيدة بصدق المشاعر التي تتسرب لمن يقرؤها .. حيث يبدأ الرندي قصيدته بما بات حكمة شهيرة حيث يقول:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتها دُولٌ
مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد
ولا يدوم على حالٍ لها شان
يُمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ
إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصانُ

وتتداعى أبيات ابن الرندي بعد ذلك متسائلة عن حال كل مدينة من مدن الفردوس المفقود مستنهضاً همم «راكبين عتاق الخيل» و حاملين سيوف الهند» وكذلك الـ «راتعين وراء البحر في دعة»:
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ
إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ
وماشياً مرحاً يلهيه موطنهُ
أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ؟
تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمها
وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
يا راكبين عتاق الخيلِ ضامرةً
كأنها في مجال السبقِ عقبانُ
وحاملين سيُوفَ الهندِ مرهفةُ
كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ
لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ
فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ؟

أضف تعليق

التعليقات