قول في مقال

الثقافة العلمية
مسألة واردة

بموازاة الانتقادات الكثيرة الموجهة إلى حال البحث العلمي في الوطن العربي، وحال العلوم العربية عموماً، هناك غياب ملحوظ للاهتمام بقضية نشر الثقافة العلمية الذاتية والحض عليها. وهذا ما يتناوله هنا عبدالرحمن بن يحيى المحيا، مشيراً إلى مكانة الثقافة العلمية الذاتية، ومصادرها المتوافرة أمام الجميع.

عندما سافر الأديب الكولومبي جابريال جارسيا ماركيز من لوس أنجلوس الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الأحد، ليصل طوكيو الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الإثنين، في رحلة استمرت 11 ساعة من النهار المتواصل، اكتشف بأن ليلة ضاعت من عمره إلى الأبد متحسراً على حلم تلك الليلة الضائعة. وقد تساءل كيف يسافر الإنسان بالكونكورد من باريس عند الساعة الحادية عشرة ويصل نيويورك عند الساعة الثامنة صباح اليوم نفسه، وبعد أن يتناول الإفطار في باريس يعود فيتناول إفطاره في نيويورك في اليوم والساعة نفسيهما.. هذه هي عجائب الفيزياء التي قال عنها ماركيز إنه لم يفهمها، رغم شروح زملائه العلماء بكل وسائل الإيضاح.

تلك المفارقات اللطيفة التي نتقبلها بشكل تلقائي تذكرني دوماً بدور الثقافة العلمية الحيوي في حياتنا. وقد برز في الآونة الأخيرة موضوع نشر الوعي العلمي كمحور في الخطط التنموية، وكموضوع العديد من الندوات والنشاط الثقافي بالسعودية والخليج.

لكن من المثقف وما الثقافة العلمية؟
لا يوجد هنالك إنسان مثقف وآخر غير ذلك فالكل يحمل ثقافة بيئته. إن الثقافة كما يشرحها مالك بن نبي هي الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص، يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر.

أما الثقافة العلمية فهي مزية إضافية لفكر وسلوك الفرد، ونقصد بها معرفة طرائق ونتائج العلوم الأساسية والإلمام بالتقنيات المرتبطة بحياة الفرد والمجتمع والقدرة على فهم ومتابعة المستجدات وممارسة منهج التفكير العلمي في الحياة اليومية، ومجال كل ذلك هو الذهن والسلوك الفعلي. ويشمل مفهوم الثقافة العلمية المعارف البينية التي تربط العلوم الطبيعية بالإنسانية باعتبارها أدوات ضرورية لوصف العلم بصورته الواقعية، من دون الحصر في ضيق التخصصات.

وتنشئ الثقافة العلمية في البيئة والمجتمع حافزاً للنشاط العلمي. وقد بدأت الحركة العلمية المرتبطة بالعلوم والتقنية الحديثة في بلاد العرب بعد غزو نابليون لمصر، ومع انتشار المطابع في مصر وبيروت. إلا أنه قد شاع في تلك الفترة (أثناء ضعف الدولة العثمانية وبعد زوالها) الخرافات والشعوذة والبدع التي كانت معاول هدم للمنهج العلمي، بالإضافة إلى انتشار الجهل والأمية، مما جعل الحركات العلمية نخبوية وفي نطاقات ضيقة وما زال الوطن العربي فاقداً للأمان العلمي والتقني، منذ غزوة نابليون وحتى غزوة بوش الابن، رغم الجهود التي ظهرت بعد منتصف القرن العشرين إلا أن جذور الضعف العلمي تبقى قائمة.

وقد صار الحديث عن قلة الإنفاق العربي على البحث والتطوير وندرة مصادر التمويل وارتباطها بالحكومات موضة دارجة، وهي حقيقة واقعة. غير أن الحديث عن الحلول نادر جداً. وأعتقد أن جزءاً من الحل يكمن في شريعة الوقف الإسلامي المعطلة حالياً والتي تكفل مشاركة المجتمع بالإنفاق المباشر والعمل التطوعي في مراكز الأبحاث، وتحرر الباحثين من الاتكالية السقيمة على الموازنات الحكومية.

إن عوامل الضعف الذي يعتري العلم في الوطن العربي يرجع لأسباب ثقافية في الدرجة الأولى مع أن الإسلام يشمل كنوزاً من المحفزات الداعية للعلم والبحث، لكن المسلمين يبقون مترددين في مجال البحث، متجاهلين الدعوة الإلهية والتوجيهات النبوية التي جعلت من العلم فريضة وليس ترفاً كمالياً.

مصادر الثقافة العلمية
ليس هنالك من منهج محدد لبناء الثقافة العلمية، لارتباطها بالرغبات الذاتية للفرد، ولتأثير التخصصات العلمية والإنسانية في تشتيت القولبة الهيكلية، وهذا اختلاف سنني إيجابي لأهمية كل فرع علمي. وسأعرض هنا بعض المصادر التي كان لها أثر في تغذية الثقافة العلمية عموماً.

أول مصادر المعرفة العلمية هي الكتب. ولاشك في أن الكتاب المدرسي له تأثير بنائي مهم، والجميع يدرك سلبيات مناهج العلوم والرياضيات العربية ولا مجال للخوض فيها الآن. ويكفي أن نعرف أن مناهج العلوم هي أداة لتكوين منهج عقلاني لدى الفرد، وليس المنهج المدرسي وحده كفيل بخلق ثقافة علمية، لكنه يؤسس قاعدة لوجود مجتمع علمي عريض يملك ثقافة تولد حراكاً فاعلاً يسهم في المسيرة الحضارية.

ولفهم الكتاب العلمي، لابد من مفاتيح، وكلما ملكت مفاتيح أكثر حصلت على معرفة أكبر. واللغة هي المفتاح الأول. فلو أتقنت اللغة الإنجليزية مثلاً، فتح لك باب واسع من المعرفة. والرياضيات هي ثاني المفاتيح التي تدخلك عالم المنطق والتفكير المجرد.. عالم مجاله الذهن وأبعاده لا حدود لها، تستطيع وصفه على الورق بالأرقام والرموز والرسوم وهو من آيات الأنفس التي جعلها الله في العقل البشري. وثالث المفاتيح هي مهارات البحث والاتصال، ومن ذلك مهارات البحث على الإنترنت ومهارات القراءة السريعة التي باتت ضرورة في خضم هذا الانفجار المعلوماتي، بالإضافة إلى تكوين علاقات مع المجتمع العلمي. وربما امتلك البعض هذه المفاتيح ولكنه فاقد للرغبة المعرفية.. إن الإرادة هي المحرك الحقيقي لبناء المعرفة الذاتية والقراءة وقودها والكتابة قيدها.

لكن ماذا تقرأ؟ المجالات عديدة وشيقة فهنالك كتب لتبسيط المفاهيم العلمية وهذه المداخل تعطي معرفة مختصرة، وهي من أساسيات الثقافة العلمية. أذكر منها كتاب الفيزياء للأدباء للعالم السعودي خضر الشيباني وهو ناشط في مجال تبسيط العلوم. وهنالك كتب فلسفة العلم التي قد تتطلب قراءة عميقة وأذكر منها كتاب صلاح الجابري بعنوان فلسفة العلم ، وكتاب الفيزيائي السعودي جاسم العليوي بعنوان العالم بين العلم والفلسفة . والثقافة العلمية تقتضي معرفة تاريخ تطور العلوم كإرث إنساني شاركت فيه كل الحضارات. ومن المهم الاطلاع على كتب المستقبليات التي أبدعها الأمريكي ألفين توفلر والياباني ياما جوشى. كما أن التقنية لها تأثير مباشر على الاقتصاد، ويبين ذلك كتاب موجز مثل تاريخ الفكر الاقتصادي: الماضي صورة الحاضر . أما كتب الخيال العلمي فيمتزج فيها العلم بالأدب، وتكشف جوانب الخطر لبعض الأبحاث العلمية وتحوي تنبؤات للمستقبل العلمي بطريقة منهجية.

والمصدر الثاني للمعرفة العلمية هو الدوريات العلمية والتقنية التي تتميز بإيضاح الجديد من المكتشفات والأبحاث، وتعّرف الجمهور بالعلماء والمخترعين وتسهم في إيجاز وتبسيط العلوم. ونذكر منها مجلة نيوساينتست (Newscientist). أما الدوريات العربية فلمجلة العربي وقع خاص لدى المثقفين العرب لمحتواها الأدبي والعلمي. وقد اكتسبت مقالات الدكتور أحمد زكي شهرة واسعة، وقد كان رحمه الله رائداً في تبسيط العلوم. وهنالك أيضاً مجلة الفيصل العلمي، ومجلة العلم المصرية، والعلوم الكويتية، ومجلة القافلة الصادرة عن أرامكو السعودية. والجدير بالذكر أن عدد المجلات العربية ذات التوجه العلمي لا يتجاوز عشرين مجلة، كما أن مجلات المنظمات المهنية تقدِّم أحياناً مادة علمية وتقنية لا بأس بها, لكن ينقصها الاحترافية والاستمرار.

والمصدر الثالث هو البرامج الإعلامية الوثائقية مثل القنوات التلفزيونية كقناة ديسكفري ووثائقيات بي بي سي المتميزة والتي كان يعلق على مقاطع مختارة منها الدكتور مصطفى محمود في برنامج العلم والإيمان, وكان تعليقه بسيطاً ومباشراً.

والمصدر الرابع والأهم هو الإنترنت التي أصبحت متنفساً حقيقياً ومصدراً لا غنى عنه لأي مثقف، لما تحتويه من مواد كان الحصول عليها سابقاً غاية في الصعوبة والكلفة. إنها منحة علمية مجانية لمن يعرف استغلالها. فتصور أنك تستطيع حضور درس في معهد MIT لأفضل العقول المتخصصة، ولو فات وقت الدرس بإمكانك تحميل الملف الصوتي أو الفيديو، وقد تقرأ النص لتنتقل بعدها بين صفحات أفضل معاهد وجامعات العالم وشركات التكنولوجيا ودور النشر والجمعيات والمنظمات غير الربحية التي تزودك بالكتب والمجلات المجانية. ليس ذلك فحسب، فقد أصبح العلماء والمفكرون ينشرون أبحاثهم مباشرة على مواقعهم الشخصية أو في مدوناتهم والأهم من ذلك إمكانية التفاعل والتحديث، حيث تستطيع أن تسأل وتعلِّق على ما بدا لك، إلا أن المستخدم هنا عليه أن يفحص المواد بنفسه ويتأكد من منفعتها وصدقها فلا رقيب سوى الذات. وخدمات الشبكة في تطور متسارع، فهنالك المجموعات البريدية والمنتديات والمدونات والموسوعات والمنشورات الإلكترونية مما يجعل المتابع في حيرة. عندها، لابد من تحديد الهدف وإدارة الوقت للوصول لمحتوى ذي قيمة نافعة.

ختاماً أقدِّم خلاصة لأفكار قد تفيد في بناء وعي علمي ذاتي:
1. 
الحرص على امتلاك مفاتيح المصادر المعرفية.
2. 
طلب المصادر العلمية ومتابعة جديدها.
3. 
الوعي بالعملية الهندسية التي تبدأ من حاجات الناس الحياتية، التي توجه البحث العلمي المؤدي للتطبيق التقني والتسويق فالاستهلاك، ثم العودة للبحث والتحسين من جديد. إن المثقف علمياً يدرك أهمية تفاعله مع حلقات العملية الهندسية والتي هي مفككة عربياً نظراً لانفصال البحث الأكاديمي عن حاجات المجتمع، ولاستيراد تقنيات الثقافات الأخرى دون مواءمتها واستيعابها في العملية الهندسية المحلية. مما يؤدي إلى استمرار الاستهلاك بلا إنتاج فاعل.
4. 
تمثل السلوك العلمي بفهم التقنيات التي نتعامل معها يومياً.. أليس من الغريب أن نستخدم الفاكس وآلة التصوير والمايكروويف من دون وعي لمبادئ عملها؟ ثم نتسلق المنابر لإلقاء الخطب عن العلم والتقانة!

أضف تعليق

التعليقات