مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

في جعل الحوار منهج حياة


د. محمود حلمي

إن منهج الحوار البنّاء هو السبيل الأذكى والأنجح لكسب أشرس الجولات، التي قد يجد المرء فيها نفسه محتاجًا إلى المعونة أو الاسترشاد. وفوق أساس الحوار الراقي والمُثمر والعقلاني، يمكن تشييد نهضة عملاقة في كل المجالات التي يمكن أن نتخيلها.

إن منهج الحوار يُشير في دلالته الأصلية إلى معنى تبادل الآراء والتصوّرات من خلال الكلمات المُثمرة وأسلوب النقاش المُتبادَل، فهو الشكل الأكثر وضوحًا من أشكال التواصل اللغوي، الذي يقوم على أساس تبادل الرؤى ووجهات النظر والمواقف لتحقيق التوافق والتفاهم.

كما أن لفظ “الحوار” في مفهومه الفلسفي يرتقي إلى مرتبة الشرط الأساس لكل تفكير أو قرار، بل هو التعبير الأسمى عن قدرة العقل الإنساني في سعيه الحثيث إلى إظهار نور الحقيقة من خلال استقراء بقية الأفكار المُحيطة.

تتنوع أشكال الحوار وتختلف بنياتها، بدءًا من الحوار بين العقول الفردية، وصولًا إلى الحوار بين الكيانات الثقافية والأطراف السياسية والاقتصادية والحضارات المختلفة. غير أن العامل الجامع بين كل أنماط الحوار، هو أن أغلبها تحتمل قدرًا من الاختلاف في الآراء أو وجهات النظر بين المتحاورين.

وقد يتراوح هذا الخلاف من مُجرد سوء فهم ليصل إلى التضاد والتقابل والتصارع، إن صح التعبير. فتنوُّع الرؤى والمواقف قد يُفضي إلى أنواع من الصراعات، حين يغلب التعصب الأعمى على العقول والعيون معًا، فتبتعد بذلك عن مغزى الحوار وآدابه المُتعارف عليها.

إن التحاور في أساسه يُبنى على مبدأ الاستعداد لفهم الآخر والتعامل معه على أنه قد يكون مُصيبًا وليس مُخطِئًا على الدوام. فمعرفة الإنسان بكينونته وطبيعته الفطرية التي قد تخطئ وتصيب، هي الباب الأول لساحة الحوار.

كما أن الصِفة الأساسية، التي يرتكز عليها منهج التحاور، هي التسامح وسعة العقل في فهم الآخر واستيعاب اختلافاته الفكرية التي قد لا تعجبنا في بعض الأحيان. وكذلك الانتصار على غريزة النفس البشرية في حب التفوق الدائم وهزيمة الآخرين في المُطلَق.

إن اتخاذ منهج الحوار في حياة الإنسان الفرد وكذلك المجموع، هو علامة قوة لا علامة ضعف، فهو لا يوجب على المرء التخلي عن معتقداته أو الامتناع عن إظهارها والدفاع عنها، بل يوجب عليه الامتناع عن نشر آرائه بالقوة والخداع. فليس ترك الناس وما هم عليه من عاداتهم واعتقاداتهم فضلًا نجود به عليهم، وإنما هو واجب أخلاقي ناشئ عن احترام الذات الإنسانية وتقدير طبيعة اختلاف البشر بعضهم عن بعض. وبهذا المعنى، فإن الحوار يتجاوز كونه مُجرد قيمة طيّبة أو أسلوب لصنع القرارات؛ ليُصبِح شرطًا أساسًا لبناء المجتمع الإنساني الناهض بشكل عام.

 إن إشاعة استخدام منهجية الحوار في مجتمع من المجتمعات، تُنبئ بسير هذا المجتمع على الطريق الصحيح، الذي يبزغ من شمسه أفضل الأفكار التي تُسهم في بناء نهضته العملاقة.

بالمحاورة والنقاش، يمكن استخلاص أفضل الأفكار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويجب على المُتحاورين استيعاب حق كل إنسان في اعتناق الآراء التي يريدها والتعبير عنها مع احترام الاختلاف بشتى أنواعه وأشكاله، ومن ثَمَّ حل كل الخلافات عن طريق منهجية الحوار.

ويمكن في هذا الإطار، أن نُلقي نظرة على التجربة الأوروبية، حيث تَعلّمت أوروبا كيف تتسامح وتتحاور فيما بينها بعد قرون من الحروب سادها الحقد والازدراء المتبادل والتعصب للرأي الواحد دون التراجع أو التخلي عنه. وبعدئذٍ أدرك الجميع أن التقارب والتحاور والتنازل عن بعض المُعطيات في مقابل نيل مكاسب أخرى، هو السبيل لتحقيق النهضة والتقدم والسلام.

ولا ننسى النموذج العربي الواعد والباهر في المملكة العربية السعودية، حيث يُعد منهج الحوار في مختلف الطبقات وعلى الصُّعد كافة، من أبرز الأسس التي ترتكز عليها نهضة المملكة، التي تُسابق الريح لتصل إلى العالمية في سنوات معدودة. وبالحوار الذكي والمثمر أضحت المملكة شمسًا تُنير الشرق كله.

أسلوب الحوار يُربي النفس على تقبل الآخر، ويلغي من النفس فكرة الصواب المُطلق، ويبرز احتمالية الخطأ. وهذا كله يؤدي إلى صقل أفضل الأفكار في كل المحاور لتبرز إلى النور وفوق الساحة؛ فتكون بحق هي أفضل ما قد جال في العقول، أو تخاطر في القلوب.

على أنه لا ينبغي يكون الحوار مُطلقًا في كل المواقف على الدوام، فالحوار هو المنهج الأساس والمبدأ الأول في حل الخلافات واستشفاف أفضل البيانات والوقوف على أحسن النتائج. لكن رغم ذلك هناك بعض المواقف قد تتطلب أكثر من مُجرد الحوار. فالعدو أحيانًا إذا عدا أو اعتدى يجب ألا يرى مجرد تحاور إذا كان لا يفهم سوى لغة القوة أو الغشم. وهنا يدور منهج الحوار بين الأشقاء لاختيار طريقة التعامل الصحيحة، وليس طريقة التحدث مع من لا يحترم التحاور أو يفهم لغة الحوار الراقية.

منهجية الحوار في الحياة من أبرز عوامل النجاح للفرد والمجتمع على حد سواء. فقد تُوّجت إنجازاتُ الأشخاص والقيادات البارزة عبر التاريخ بالحوار البنّاء والمُثمر فيما بينها وبين من حولها على الدوام. لذا، فإن جعل الحوار منهجية حياة يُعَد من أفضل السُبل للنجاح والتقدم معًا.


مقالات ذات صلة

هل تتصور أنك تعيش حياة كريمة طبيعية في عالمنا اليوم إذا لم تكن تعرف القراءة؟

التصنيف الأدبي مرتبط بشكل رئيس حول ما يستثيره من مشاعر لدى المتلقي. ولكن، هل هناك حد فاصل وعازل بين الأجناس الفنية؟

نستطلع في هذا المقال رأي بعض من خاض تجربة العيش في قرية عما تمثِّله الحياة في القرية لهم.


0 تعليقات على “في جعل الحوار منهج حياة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *