مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

تروي التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة

6400 نقش ورسم على الصخور في ِحمى نجران


علي مهدي آل بوغبار - تصوير: ناصر سعيد الربيعي

يقع حِمى نجران في جنوب غرب المملكة، وهو عبارة عن موقع أثري ضخم مشهور بنقوشه ورسومه الصخرية التي تصوِّر الإبل. وتشكِّل هذه المنطقة نافذة فريدة على الجوانب الفنية والثقافية والاقتصادية للمجتمعات العربية القديمة.

ومن خلال الفحص المُسهب لهذه النقوش والرسوم الصخرية، تمكَّنا من إلقاء نظرة على حياة السكان الأوائل في هذه المنطقة القاحلة، وكشفنا عن ارتباطهم العميق بالإبل، وطرق التواصل الخاصة بهم وإنجازاتهم الفنية.

ترتبط الأهمية التاريخية لمنطقة حِمى نجران ارتباطًا وثيقًا بدورها، نظرًا لكونها مركزًا تجاريًا رئيسًا على طول طرق التجارة العربية القديمة؛ إذ كانت نقطة وصل رئيسة للتجارة والتبادل الثقافي، ربطت شبه الجزيرة العربية بالمناطق المجاورة. ويعود تاريخ هذا الموقع إلى حوالي 1000 سنة قبل الميلاد، وهي الفترة التي ازدهر فيها بوصفه مركزًا للنشاط الاقتصادي والثقافي. 

الاكتشاف والبحث المبكر 

جرى توثيق الرسوم الصخرية في بئر حِمى، أوَّل مرة، من قبل بعثة فيلبي – ريكمانز – ليبين في عام 1951م، وسلَّط هذا الاستكشاف الأولي الضوء على الأهمية الفنية والثقافية للرسوم الصخرية، التي تمثِّل في كثير منها مشاهد من الحياة اليومية، ولا سيَّما الدور البارز للإبل. ومع ذلك، لم تتضح القيمة الحقيقية للموقع وتاريخه، إلا بعد البحث الذي أجراه إي. أناتي (1969 – 1972م)، والذي كشف أن بعض الرسوم الصخرية، ومنها تلك التي تصوِّر الإبل، كانت منقوشة على الحجر الرملي في وقت مبكر في الفترة الواقعة ما بين 300 و200 سنة قبل الميلاد. 

في عام 1976م، بدأت مديرية الآثار في المملكة بالبحث الجاد في الموقع، وأبرزت جهودها أهمية الرسوم الصخرية، وخاصة في فهم التاريخ الثقافي والاقتصادي للمنطقة، الذي أدَّت فيه الإبل دورًا محوريًا. 

في يوليو 2021م، صنَّفت منظمة اليونسكو بئر حِمى نجران ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، اعترافًا بقيمته الثقافية والتاريخية الاستثنائية على نطاق عالمي. ويسلِّط هذا التصنيف الضوء على أهمية حِمى نجران في فهم الوجود البشري المبكر في شبه الجزيرة العربية، وخاصة من خلال فنها الصخري الفريد. 

الأهمية الفنية والثقافية للرسوم الصخرية للإبل  

كانت الإبل، التي غالبًا ما وُصِفت بسفن الصحراء، ضرورة لا غِنى عنها لسكان شبه الجزيرة العربية القديمة. وامتدت أهميتها إلى أبعد من أنها مجرد وسيلة نقل؛ فقد كانت الإبل عنصرًا أساسًا في نمط الحياة البدوية وناقلات للسلع ومصدر رزق، حتى إنها عُدَّت شكلًا من أشكال العملة. ويتجلى هذا الدور متعدد الأوجه للإبل بوضوح في النقوش والرسوم الصخرية التي عُثر عليها في حِمى نجران، وهو ما يسلِّط الضوء على أهميتها المركزية للحياة اليومية والاقتصاد في المنطقة. 

من بين حوالي 6400 رسم ونقش في موقع حِمى نجران، هنالك أكثر من 1800 رسم منها يصوّر الإبل. ووفقًا لهاريجان وبيورستروم عام 2002م، فإن التصاوير المفصلة للإبل تُسلِّط الضوء على دورها المركزي في جوانب مختلفة من المجتمع العربي القديم. 

صنّفت منظمة اليونسكو بئر حِمى نجران ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، اعترافًا بقيمته الثقافية والتاريخية الاستثنائية على نطاق عالمي.

تشكَّلت الرسوم الصخرية في حِمى نجران باستخدام تقنيات عدة، مثل النقر والطحن والنحت. وجرى توظيف هذه التقنيات للوصول إلى أعماق وبُنى مختلفة في المنحوتات، وخاصة في تصوير الإبل، التي تعدُّ من بين أشهر الموضوعات هناك. وتُظهر بعض الرسوم الصخرية درجة عالية من الواقعية، حيث تصوِّر السمات التشريحية للإبل وحركاتها بدقة ملحوظة، وهو ما يعكس الألفة العميقة لهذه الحيوانات وأهميتها في الحياة اليومية للسكان القُدامى. بينما تبدو المنحوتات الأخرى أكثر تجريدية؛ إذ تركز على التصاوير الرمزية أو المنمقة للإبل، وربَّما تُشير إلى أهميتها الثقافية أو الروحية بما يتجاوز استخداماتها العملية. ويُظهر هذا التنوع في التعبير الفني، وخاصة في كيفية تصوير الإبل، الممارسات الثقافية والفنية المتطورة على مرِّ القرون. 

وتعرض بعض النقوش تفاصيل معقدة عن تشريح الجمل وسلوكه، وهي لا توضح الخصائص الجسمانية للحيوان فحسب، بل توضح أيضًا دوره في أنشطة مثل التجارة والنقل. وتستخدم منحوتاتٌ أخرى أشكالًا مجردةً وأنماطًا هندسية، وأحيانًا تدمج الإبل في تصميمات أكثر تعقيدًا. ويُشير التنوُّع في الأنماط إلى أن هذه الرسومات الصخرية قد نُفّذت على مدى فترة طويلة سمحت بتطور التقنيات الفنية والتصاوير الرمزية. 

النقوش.. كنز لغوي ثمين 

بالإضافة إلى الرسوم الصخرية، تعدُّ منطقة حِمى نجران موطنًا لكثير من النقوش المكتوبة بمختلف أنواع الخطوط القديمة. وهذه النقوش مكتوبة، في المقام الأول، بالخط العربي الجنوبي والخط الثمودي، اللذين استخدمتهما القبائل القديمة في شبه الجزيرة العربية. وتوفر النقوش رؤى قيّمة حول السياق اللغوي والثقافي، آنذاك. 

ومن الأمثلة المعبِّرة عن ذلك، النصوص التي عُثِر عليها، وتُفصّل ملكية الإبل وتجارتها، وتتضمَّن معلومات حول نَسب قطعان الإبل ومعاملاتها التجارية. ولا توثِّق النقوش القيمة الاقتصادية للإبل فحسب، وإنما تقدِّم أيضًا لمحة إلى الحالة الاجتماعية المرتبط بملكية الإبل، وهو ما يُشير إلى أن هذه الحيوانات كانت جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد والتسلسل الاجتماعي. 

إن استخدام الكتابة العربية الجنوبية، التي تطورت من الأبجدية القديمة، أمرٌ بالغ الأهمية لفهم التطوُّر اللغوي في المنطقة. وتكشف النقوش عن أنظمة متطورة للاتصال وحفظ السجلات، وهو ما يعكس تعقيد التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية في شبه الجزيرة العربية القديمة. وتوفر هذه السجلات رابطًا قيِّمًا بين الثقافة المادية التي تمثِّلها الرسوم الصخرية، والتقاليد المكتوبة التي تقدِّم رؤى أعمق في حياة وأولويات الناس الذين عاشوا وازدهروا ذات يوم في هذه المنطقة القاحلة. 

نقوش تعود إلى ثلاثة آلاف عام، تروي قصة سفينة الصحراء. 
أدوات الفنان القديم 

وتكشّف الموقع أيضًا عن قطع أثرية مهمة، مثل الأدوات المستخدمة في تشكيل النقوش الصخرية. وتدلّ هذه الأدوات المصنوعة من مواد مثل الكوارتزيت والأنديسايت والصوان على القدرات التكنولوجية والفنية للسكان القُدامى. وفي عام 1990م، ذكر كلوتون بروك هذه القطع الأثرية في بحثه بشكل مفصل، مُسلِّطًا الضوء على دورها في إنتاج الرسوم الصخرية وأهميتها في فهم التقدم التكنولوجي، آنذاك، وخاصة فيما يتعلق بالتصاوير التفصيلية للإبل. 

تُقدِّم القطع الأثرية مثل الساطور وأدوات الحصى أدلة على الأساليب التي استخدمها الفنانون في تنفيذ المنحوتات المعقدة. والمهارات المطلوبة لتصوير الإبل في أشكال مختلفة، بدءًا من التصوير الواقعي ووصولًا إلى التصاوير التجريدية، تشير إلى المستوى الرفيع للحرف التي كانت سائدة في تلك الفترة.  

الحفاظ والوضع الحالي 

يُشكِّل الحفاظ على الرسوم الصخرية في حِمى نجران تحديًا كبيرًا بسبب عوامل التعرية الطبيعية والتنمية الحديثة. فالبيئة الصحراوية القاسية، بدرجات حرارتها الشديدة وعواصفها الرملية المتكررة، تهدِّد طول عمر هذه الأعمال الفنية القديمة. 

تشارك هيئة الترات السعودية بشكل نشط في الجهود المبذولة للحفاظ على التراث، مع التركيز على مراقبة الظروف البيئية، والتحكم في الوصول إلى المناطق الحساسة، وإجراء الصيانة الدورية. وتُولي الهيئة اهتمامًا خاصًا لرسوم الجمل الصخرية، التي تُعدُّ أساسية لفهم التاريخ الثقافي للمنطقة. وعلى الرغم من هذه الجهود، فإن اتساع الموقع وازدياد أعداد الزوار يُشكِّلان تحديات مستمرة. وتُعدُّ إستراتيجيات الحفاظ المحسنة، مثل التكنولوجيا الحديثة للرصد والتوثيق، ضرورية لحماية هذا التراث الثقافي الذي لا يُقدَّر بثمن. 

بيئة الصحراء القاسية تجعل الحفاظ على حِمى نجران أمرًا صعبًا يحتاج إلى تدابير حفظ متقدمة. 
توصيات للحفاظ على حِمى نجران 

مع احتفال المملكة العربية السعودية بعام 2024م باعتباره “عام الإبل”، من الضروري أن يمتد هذا الاحتفال إلى الحفاظ على الرسوم الصخرية النفيسة في حِمى نجران. يُسلّط هذا العام الضوء على الأهمية الثقافية للإبل وإرثها الدائم، وهو ما يجعله وقتًا مناسبًا لتعزيز الجهود الرامية إلى حماية هذا الموقع التاريخي ودراسته. 

ولضمان الحفاظ على حِمى نجران، ينبغي تنفيذ تدابير حفظ متقدمة. ويُمكن لاستخدام تقنيات مثل التصوير بالأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار البيئية، أن يُسهم في مراقبة التعرية والتجوية ومعالجتهما. ويُمكن للحواجز المادية أو الملاجئ أن تحمي الرسوم الصخرية من التعرُّض المباشر لعوامل التعرية مع الحفاظ على سلامة الموقع الجمالية. 

إن التحكُّم في الوصول أمر بالغ الأهمية لمنع الضرر. كما أن إنشاء مسارات مخصصة وتوفير لافتات تعليمية من شأنه أن يعزِّز احترام الموقع. بالإضافة إلى ذلك، فإن التوثيق الشامل، مثل التصوير عالي الدقة والتصميم ثلاثي الأبعاد، يُمكن أن يساعد في جهود البحث والحفاظ المستمرة. 

يجب إعطاء الأولوية للتوعية العامة والمشاركة. ويُمكن للبرامج التعليمية والمشاركة المجتمعية أن تعزِّز المسؤولية المشتركة عن الحفاظ على التراث. كما سيعمل التعاون الدولي مع منظمات التراث على تعزيز مبادرات الحفاظ والبحث. ومن خلال دمج هذه التوصيات، يمكننا تكريم إرث الإبل وضمان استمرار تقدير وحماية حِمى نجران للأجيال القادمة. 

أهمية الإبل في الثقافة العربية القديمة 

لطالما كانت الإبل مُوقَّرة في الثقافة العربية؛ إذ كانت ترمز إلى البقاء والتحمُّل والثروة في بيئة صحراوية صعبة. وفي حِمى نجران، تصوِّر الرسوم الصخرية الإبل في أوضاع وسياقات مختلفة تعكس أهميتها في التجارة والنقل وكسب الرزق والمعيشة. وتنوُّع الرسوم والنقوش، سواء أكانت تمثل حيوانات منفردة أم في إطار قوافل، يُعبِّر عن مكانة الإبل في بيئتها الصحراوية وأهميتها لبقاء الإنسان وازدهاره.  

تشمل الجهود المبذولة لحماية حِمى نجران تعزيز المراقبة، وحملات التوعية العامة، وزيادة التمويل لمبادرات الحفاظ على التراث. وتُعدُّ هذه التدابير أساسية لحماية تصاوير الإبل، فهي تشكِّل مفتاحًا لفهم الحياة الثقافية والاقتصادية للمجتمعات العربية القديمة. إن دعم منظمات الحفاظ المحلية والدولية، والدعوة إلى مزيد من التمويل، وتشجيع المشاركة العامة، من الأمور الضرورية لضمان استمرار هذا التراث الثقافي


مقالات ذات صلة

هل إذا كانت المرأة المثقفة جميلة في الوقت نفسه، تبقى بالدرجة الأولى جميلة، ومن ثَمَّ مثقفة؟ وأي عقبة يمثلِّها جمال المرأة فيما لو قرَّرت أن تُصبح كاتبة أو شاعرة أو روائية؟

المدينة المنورة أوَّلَ مدينة صديقة للتوحُّد في الشرق الأوسط والرابعة عالميًا، هدفها توفير بيئة داعمة للأفراد المصابين باضطراب طيف التوحُّد (ASD)، وتعزيز شمولية المدينة وإمكانية الوصول إليها للأفراد المصابين بالتوحُّد وأسرهم.

لسلطة السرعة سليبات عديدة، ليست أقلها أن تصبح حياتنا سطحية، فعندما نتسرع لا ندرك إلا ظاهر الأمور، ونفشل في إقامة اتصالات حقيقية مع العالم.


رد واحد على “النقوش في حِمى نجران ”

  • منطقة نجران تزخر بالتاريخ العميق والأثار المطوية التي يجب ابرازها للعالم ومدينة الأخدود خاصة.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *