مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر - ديسمبر 2023

يون فوسه

تباطؤ الكتابة في عالم متسارع


د. عبدالفتاح عادل

يُعد الكاتب النرويجي يون فوسه الفائز بجائزة نوبل للعام الحالي 2023م، أحد أبرز كتاب النثر البطيء المعاصرين، وقد أشارت حيثيات منحه الجائزة إلى ما تميز به من أسلوب نثري صاغ به المسكوت عنه. هذا الأسلوب النثري هو ما يفضل فوسه أن يُصنف تحته، كما ذكر في مقابلة له خُيِّر فيها بين عدة ألقاب تجمع نتاجه الأدبي، فاختار أن يطلق عليه “كاتب النثر البطيء”. فما هو هذا النثر البطيء؟

نال عالمنا المعاصر من صفات السرعة وسماتها كل أوجهها وطباعها، فأصبحت أجياله تتخطى التفاصيل للوصول إلى المختصر المفيد، وترفض كل ما يُصنع على مهل، لتحصل على ما سَرُعَ إعداده واستهلاكه. وكان للتقنيات الحديثة، خاصة في عالم التواصل بشتى صوره، أثرها في تسريع إيقاع الحياة وتململ البشر من البطء والتأني. وقد حاولت الكتابة كبح جماح هذه النزعة إلى التسرّع بنمط يلفت انتباه قارئها إلى دقائق اللحظة البشرية في واقعها اليومي. يُسمى هذا النمط من الكتابة “النثر البطيء” لما يحدثه من إيقاع متأنٍ، وما ينشأ عنه من أجواء هادئة، وما يحدثه من تأثير تأملي عند قارئه.

يصف الكاتب الأمريكي بريان دولي (1956م – 2017م) النثر البطيء بأنه حركة تصحيحية للإيقاع السريع لحياة تشتت فيها الانتباه، وقلّ فيها التركيز. فيقول: “النثر البطيء طريقة للكتابة تدعو القارئ إلى الإبطاء وتذوق اللغة والاهتمام بالتفاصيل”. ثم يمضي ليبين أهمية هذا النمط من الكتابة للقارئ والكاتب، فهي تحذق حرفية الكاتب، وتعمق مرامي أعماله، وفي الوقت ذاته تثري تجربة القارئ، وتعزز شعوره بالحياة.

وقبل أن يُعرف هذا النمط بهذا المسمى، ويُنظر إليه كنمط كتابي له خصوصياته الأسلوبية والثقافية، تميّزت بعض كتابات أدباء كبار بسماته، وإن لم ترتبط بالخصوصية الثقافية التي ارتبطت بها في العقود الأخيرة. فقد عُرفت كتابات فرجينيا وولف (1882م – 1941م) بوتيرتها البطيئة وتركيزها على الحياة الداخلية لشخصياتها؛ وصُنِّفت روايات مارسيل بروست (1871م – 1922م) ضمن النثر البطيء بتفاصيلها وعمق سردها، خاصة في استكشافها العميق لطبيعة الذاكرة البشرية والزمن والوعي. وظل هذا النمط يُوظّف بوتيرة مختلفة في كتابات متنوعة في طبيعتها ومذاهبها، لكنها تشترك جميعًا في الرغبة في استكشاف دقائق الفروق في التجربة الإنسانية، ونسج روابط تواصل شعوري عميق مع القراء.

الغوص في معاناة الإنسان المعاصر

يُرجع فوسه وسم نتاجه بهذا النمط إلى تحوّل متعمد قام به في كتاباته، وأراد به التمييز بين أسلوبه في الكتابة المسرحية، التي يميل فيها إلى قصر العبارة والكثافة الشديدة، وأسلوبه في الكتابة السردية، التي أراد أن يفرد فيها لكل لحظة ما تستحقه من مدى زمني تتدفق خلاله اللغة في سكينة وروية. فالكتابة المسرحية لا تسمح بهذا التباطؤ في معايشة اللحظة. ومن ثَمَّ، لا نعجب أن وُصفت كتابات فوسه بـ”الناعسة” و “الحالمة”. فقد جمعت بين النثر البطيء، وأسلوب كتابة تيار الوعي الذي يغوص في العالم الداخلي لشخوص رواياته.

لكن ذلك لا يعني أنه تناول موضوعات خيالية أو غارقة في الرومانسية العاطفية. فقد غاص بأسلوب كتابته في لب معاناة الإنسان المعاصر. إذ تمزج رواياته بين عدة قضايا تدور حول الحب والفقد والغربة والبحث عن مغزى الحياة، وهي موضوعات تُذّكر بحداثة موضوعات مسرحيات مواطنه النرويجي هنريك إبسن، كما ورد في خطاب منح جائزة نوبل؛ وتميّز بجرأة في الخوض في المسكوت عنه، تُذّكر بالكاتب والفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. لذا، دائمًا ما تبحث شخصيات رواياته عن شيء تفتقده، من دون أن تدري ما هو، فتحيا تائهة مشتتة من دون أن تفقد الأمل فيما تبحث عنه، أو تستسلم لما يعوق وصولها لمبتغاها الذي لا تدرك كنهه.

في رواية “ثلاثية” (2014م) صاغ فوسه ثلاث أقاصيص متصلة (سُهاد، وأحلام أولاف، وتعب الليل)، مع غياب ملحوظ ومقصود لعلامات الترقيم. تتبع الرواية رحلة العاشقين الشابين “أسلا” و “أليدا” اللذين اضطرا إلى ترك قريتهما والسفر إلى المدينة بحثًا عن حياة أفضل. فقريتهما الصغيرة من مجتمع الصيادين لم توفر لهما ولمولودهما القادم أبسط مقومات الحياة. ورغم فشل تلك الرحلة بنهاية الرواية، فإن خيبة الأمل لم تنتج من ظروف خارجية فقط، بل من زلات وقرارات خاطئة تودي بحياة “أسلا”، فيترك “أليدا” مجبرة على الرضوخ للأمر، وإكمال مسيرتها في الحياة من دونه مع طفلها وذكريات قصة حبها التي لم تنطفئ جذوتها، رغم المصاعب والآلام التي مرّت بها. بها.

السرد المفصل لكل لحظة معيشة

يسرد فوسه تجوال العاشقين في شوارع مدينة بيورجفين تحت المطر، بلا مأوى وبلا نوم، في محاولة لكسب عيشهما، وهما ينتظران مولودهما؛ سردًا بطيئًا شاعريًا لا ينبئ فقط بما يحدث، بل يبني أجواء المكان وإحساس الزمان لرحلة بطلي القصة ليعايش القارئ تجربتهما، وليرتبط بهما ويتعاطف معهما، رغم النقص والعيوب التي يعانيانها، والأخطاء التي يرتكبانها وتنتج عنها مأساتهما. تنتج هذه الأجواء عن سرد مفصل لكل لحظة معيشة وتكرار قد يبدو للبعض مملًا. في المقطع التالي يصف فوسه بطلي قصته مشردَين في الشارع تحت المطر يكرران حديثهما الذي طالما قالاه، ويعيد الراوي تكرار تفاصيله:

“ثم يتوقفان وينظر أسلا إلى أليدا وهو لا يعرف ماذا يقول لها كي يواسيها، لأن كل واحد منهما كان يواسي الآخر بالفعل ولمرات عديدة وذلك بتبادل الحديث عن الطفل القادم: أبنت أم ولد؟ ذلك ما كانا يتحدثان عنه. وكانت أليدا ترى أن التعامل مع البنات أسهل، أمَّا هو فكان يرى العكس: التعامل مع الأولاد أسهل. ولكن سواء أكان ولدًا أم بنتًا، فهما يشعران بالسعادة والامتنان لهذا الطفل، وقريبًا سيكونان أبًا وأمًّا. هكذا قالا، فهما يواسيان نفسيهما بالتفكير في الطفل الذي سيُولد عما قريب”.

يجبر السرد هنا القارئ على الدوران معه في زمان الحدث ومكانه لإطالة زمن معايشة اللحظة التي تمر بها الشخصيات وتعايشها بين المعاناة والانتظار، ولا أدل على ذلك من تكرار “المواساة”، و “ولدًا أم بنتًا”، و “أسهل”.

وهكذا تطول اللحظة على الشخصيات، وتطول معها على القارئ. وقد لا يروق مثل هذا النمط من الكتابة لبعض القرّاء بما يضعه من تحديات أسلوبية وتمهل لا يتوافق مع النمط السريع لحياته. لكن القارئ الصبور سيخرج بتجربة قرائية تعيد له مذاق الحياة اليومية البسيطة التي غالبًا ما يتجاوزها في يومه.

تفسير التكرار وغياب علامات الترقيم

تأخذ الحوارات في الرواية إيقاعًا متباطئًا مع تكرار قد يراه البعض لا داعي له، لكنه يقوم بوظيفته في النص. تتكرر كلمة “قارب” في الحوار التالي الذي يقع في نقطة مفصلية يبحث فيها بطلا القصة عن وسيلة للانتقال إلى مكان جديد أملًا في بدء حياة جديدة.

“عندما سألته أليدا كيف سيصل إلى بيورجفين، قال أسلا إن عليهما إيجاد قارب يبحران به إلى هناك

 قالت أليدا: نجد قاربًا

 قال أسلا: نعم

 قالت أليدا: أي قارب

 قال أسلا: هناك قارب يرسو أمام كوخ الصيد

 قالت أليدا: لكن هذا القارب

ثم رأت أسلا ينهض ويخرج وتستلقي ليدا على السرير هناك في الغرفة العلوية ثم تتمدد وتغلق عينيها وهي متعبة جدًّا ومتعبة جدًّا”.

تتكرر كلمة “القارب” خمس مرات في نص بلا علامات ترقيم تحده، ثم ينقطع الحوار بخروج “أسلا”، وكأن دور الحوار هو إبراز الوجود الملح للقارب في هذه اللحظة من حياتهما. يخرج أسلا بلا حل، ويتركها فريسة لشعورها بالتعب الذي يتكرر التعبير عنه مرتين متتاليتين “متعبة جدًّا ومتعبة جدًّا” تسبقه سلسلة من الأدوات اللفظية المتكررة، كما عبر عنها النص العربي، مثل: “و” و “ثم”.

فقد حرصت الترجمة العربية التي قامت بها شيرين عبدالوهاب وأمل رواش على الاحتفاظ، قدر الإمكان، بسمات النص النرويجي، مثل التكرار واستخدام المفردات والعبارات البسيطة، وقد نوّه الناشر بذلك في مفتتح الرواية المترجمة، حيث اضطرت الدار إلى القبول بالخروج عن قواعدها المتبعة في الصياغة العربية، خاصة علامات الترقيم. ومع هذا، فإن سمات “النثر البطيء” لا تتضح بشكل تام إلا في النص الأصلي. وهو ما حدث أيضًا في الترجمة الإنجليزية، إذ حاولت المترجمة المحافظة على نمط كتابة فوسه، فكررت أداة الربط (and) حوالي أربعة آلاف مرة بما يعادل 8% من مجمل النص تقريبًا، وهو أسلوب غير معتاد في الكتابة باللغة الإنجليزية.

إطالة أمد اللحظة

يظهر المقطع التالي لحظة استيقاظ أسلا وإشعال الموقد في ليلة من ليالي هيامهم في المدينة، تلك اللحظة قد لا تستغرق وقتًا، ولن يكون لها مغزى في سرد تقليدي، لكن فوسه يطيل أمد اللحظة حتى نستشعرها وندرك ثقلها في تكرار كلمة “ينامان” أربع مرات متتالية، وكلمة “يتذكر” ثلاث مرات متتالية ومتفرقة، مع التكرار المعتاد لأدوات الربط:

“يستلقي أسلا وأليدا على الدكة التي في مطبخ بيت صغير هناك في شارع أنستا في بيورجفين، وينامان وينامان، وينامان وينامان ويستيقظ أسلا ويفتح عينيه وينظر إلى الغرفة. ولا يستوعب الأمر في الحال، فأين هو، وهو يرى أليدا راقدة هناك إلى جواره، نائمة وفمها مفتوح ثم يتذكر والطقس بارد ورمادي في المطبخ وينهض ويوقد القنديل ثم يتذكر ويتذكر ثم يضع الخشب في الموقد ويشعله ويعود إلى السرير ثانية وينام تحت البطانية بجوار أليدا، ثم يرقد هناك بالقرب من أليدا ويسمع الموقد طقطق ويدمدم ويسمع هَزِيم المطر في الشارع وعلى سطح البيت ويشعر بالجوع…”.

ساعد “النثر البطيء” فوسه في التعبير عن الحالة البشرية في العصر الحديث، إذ أجبر من خلاله متلقيه على التأني والوقوف على تلك التفاصيل التي يمر عليها في حياته اليومية، من دون أن يدرك كنهها بالعمق المطلوب، كما أخذ بيده إلى معايشة لحظات عادية بأبعادها المختلفة. وهكذا استحالت صفة “البطء” بما تحمل من مدلولات تغلب عليها السلبية والضعف إلى أداة تعبيرية قوية. ولعل هذا النمط من الكتابة يحظى بدراسات عن شيوعه واستخدامه في السرد العربي.


مقالات ذات صلة

المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.

وقت الاستبدال قد حان، ودورة الحظ التفتت أخيرًا!

طيران
أبي الذي لا يشبهُ الطيورَ
ليسَ يشبهُ الرياحْ
ورغم هذا
طارَ للسماءِ دونما جناحْ!…


0 تعليقات على “يون فوسه: النثر البطيء”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *