عندما تبدأ السيارة بالنزول من أعلى قمة في قرية السودة لتسلك عقبة “الصمّاء” التي تربط بين جبال السروات ومحافظة رجال ألمع في تهامة، تخطر في البال كلمات الشاعر رسول حمزاتوف وهو يكتب مقدِّمة رائعته العالمية “داغستان بلدي”. فمعالم الطبيعة الخلابة والجبال الشاهقة التي تتميز بها محافظة رجال ألمع لا تختلف كثيراً عما رواه حمزاتوف حول جمال المكان الآسر. والتساؤل الذي شغل حمزاتوف شغلنا أيضاً، وهو: كيف يستطع الإنسان الكتابة بتجرد عن بلده أو مسقط رأسه؟ سؤال لم نجد له إجابة آنذاك، ولكننا قرَّرنا ألا ننشغل به كثيراً…
من ينزل من أعالي عسير، وتحديداً من السودة التي ترتفع أكثر من 2800 متر عن سطح البحر، إلى بلدة رجال ألمع في تهامة عسير، عليه أن يعرف الطريقة المثلى للتعامل مع الانحدار المخيف والخطر لعقبة “الصمّاء”، وهي العقبة التي رغم أن طولها لا يتجاوز الـتسعة كليومترات، فإن صخورها الصلبة الصمّاء التي تتراص باتجاه السماء، كانت درعاً تتكسر عليه أطماع الغزاة، ومثّلت قديماً تحدياً كبيراً للحملات العثمانية المتكررة على منطقة عسير، التي كان من أشهرها حملة عام 1872م.
إن الجبال الشاهقة لا تعترف إلا بالرجال الأشداء، الذين يجمعون قواهم وسط أهازيج “دمة الحرب”، وهي لون شعبي حماسي كان يؤدى في أيام الحروب للتحشيد ورفع الهمم. وقد اعترف بذلك أحد القادة العثمانيين في تلك الحملة، حيث قال في مذكراته التي نقلها الدكتور محمد آل زلفة في كتاب “الحملة العثمانية على عسير 1288هـ/1872م”، إن الجنود الأتراك كانوا يستشعرون خطر الهجوم عليهم من أهالي رجال ألمع ومنطقة عسير بشكل عام، عندما كانوا يسمعون أهازيج “الدمة” تصدح في سفوح الجبال أو بطون الأودية”.
الوصول إلى رجال ألمع
عندما تشعر أن بإمكانك الاستغناء عن الاستعمال المفرط لمكابح السيارة، فهذا يعني أنك وصلت إلى أول نقطة في رجال ألمع، وهي وادي العوص الذي تتوزع على جنباته مزارع الذرة والدخن وبعض المنتجات الزراعية الأخرى مثل الخضار التي تزرع حول آبار حديثة العهد حُفرت خلال السنوات الأخيرة. وبمواصلة السير شمالاً، تمرّ بقرية مندر العوص والشعبين التي تُعدَّ المركز الإداري للمحافظة منذ القدم.
ومن الدوار الذي يتزيّن بمجسم عالٍ يشبه برج ساعة الحرم المكي الشريف، يمكن للزائر الاتجاه جنوباً إلى نفق الشعبين الذي يخترق جبل رَز، ويربط شمال المحافظة بجنوبها. وإن رغب الزائر في الاتجاه شمالاً فهو سيمر ببلدتي الرصعة والجرف اللتين تشكلان عمق المحافظة الإداري والتجاري.
بعد تجاوز نفق الشعبين الذي يُعد من أطول الأنفاق في السعودية (حوالي 1000 متر)، يكون الزائر أو السائح قد وصل فعلاً إلى إحدى أشهر وأعرق القرى التراثية في المملكة، وهي قرية “رُجال” التراثية التي تستعد حالياً لتسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي، حيث زادت وتيرة العمل فيها خلال الأسابيع الأخيرة، فتحوّلت إلى خلية نحل وورشة عمل لا تهدأ ليلاً أو نهاراً.
قصور وفنون ناطقة
ليس فن العمارة البديع في قصور بلدة “رُجال” التراثية، وتعدد طبقاتها حتى ستة أدوار وربما أكثر، وتلاصقها المثير على مساحة صغيرة على ضفاف الوادي، هو وحده ما يلفت النظر. بل أيضاً عراقة تاريخها الحضاري والعلمي الذي يعود إلى 500 عام تقريباً بحسب بعض الباحثين.
فقد اشتهرت قرية “رُجال” بوجود علماء وقضاة من أشهرهم علماء آل الحفظي الذين كانوا على تواصل مستمر مع علماء نجد وصاحب الدعوة الإصلاحية الشيخ محمد بن عبدالوهاب. كما كانت هناك مراسلات بين علماء الدرعية وعلماء قرية “رُجال” تم تحقيق بعضها من قِبل عدد من الباحثين والمؤرخين.
إلا أن القرية عُرفت منذ القدم بالفنون اليدوية التي تجيدها بعض السيدات، ولعل أبرزها فن “القَط العسيري”، وهو فن تزيين جدران المنازل من الداخل، والذي سُجِّل ضمن قائمة التراث غير المادي العالمي في منظمة اليونيسكو عام 2017م.
وبفضل موقعها السياحي والثقافي على مستوى المملكة والعالم العربي، أصبحت “رُجال” مقصداً لمعظم زوار المنطقة من داخل المملكة وخارجها، وخصوصاً الباحثين والفنانين الغربيين الذين بهرتهم منطقة عسير بفنونها، وبعضهم ألّف فيها عدة كتب مثل الفرنسي تيريه موجيه.
عروق الماء
في جنبات مسجد القرية الذي كان مقصداً لطلاب العلم من مختلف قرى منطقة عسير قبل عشرات السنين، ارتفع أذان العصر، وكان هذا إيذاناً لنا بالبدء في سباق جديد مع الوقت للوصول إلى هدفنا النهائي من تلك الزيارة، وهو صعود جبال قيس وصلب وبني جونة، وهي من الأماكن الشهيرة بمناظرها الخلّابة وطبيعتها الساحرة إضافة إلى قرى جبل غمرة وجبل المدرقة.
وقبل الصعود إلى تلك القمم العالية الموشّحة برداء أخضر، يمكن لمن يشاء من الزوّار أن يجول في أودية تحف بها غابات من أشجار السدر والجمّيز والأثب؛ مثل أودية “رُجال” و”رحب” و”الصليل” و”الميل” و”راده” “محلية” و”العاينه”، و”ريم”. وكل هذه الأودية هي روافد لوادٍ ضخم يدعى “عرمرم” يصبّ في البحر الأحمر.
والمتنزه في هذه الوديان لا يحتاج إلى أجهزة تشغيل الموسيقى لكي تكتمل متعته، فالمكان يضج بموسيقاه الخاصة، التي تتداخل فيها نغمات طيور “الوغا” وهو المعروف في أماكن أخرى بـ”السنونو”، مع “القمري” المعروف بزقزقته الفريدة، وتكمل الجوقة بأصوات طيور”العقائب” وهي من أنواع الحمام البرّي.
وتتناغم هذه الموسيقى الطبيعية مع عروق الماء التي تشكِّل شلالات صغيرة تخترق مسافات كبيرة من الأودية نتيجة كثافة الأمطار، حيث يمكن للزائر أو السائح مجاورتها في تخوم الأودية والمنحدرات السحيقة بمجرد دخول موسم “سهيل اليماني” الذي عُرف عند العرب بغزارة أمطاره.
أشجار المنطقة وغابات تتخللها الحصون
ولأن متعة الرحلة لا تكتمل من دون الصعود إلى أعالي جبال رجال ألمع التي يزيد ارتفاع بعضها على 2500م عن سطح البحر، كانت رحلتنا هذه إلى أعالي جبال “حسوة” و”صلب” عبر طريق ما زال تحت الإنشاء، تكاد تختنق داخله حركة السيارات خلال شهور أغسطس وسبتمبر وأكتوبر نظراً لكثرة قاصدي تلك الأماكن الساحرة.
نسأل مرافقنا ذي المعرفة الواسعة بعلم النبات عن أسماء الأشجار والشجيرات التي تحف بالطريق، فيقول مشيراً إلى غابة كثيفة إلى اليمين: الأشجار التي تشكل نسبة كبيرة من الغطاء النباتي هنا هي “الضهياء” و”السيال” ” والقرض” و”السلام” و”الغلف” و”الوشايه” و”التين الشوكي”، كما يوجد كثير من شجر “العتم”، وهو نوع من الزيتون البرّي.
عند وصولنا إلى أعلى نقطة في جبل” قيس” برجال ألمع، وأصبحنا نطل على سلاسل جبلية من جميع الجهات، كشف لنا المنظار المقرّب وسط شواهد حضارية قديمة قائمة وسط هذا الاخضرار، وهي عبارة عن حصون قديمة عالية الارتفاع، مبنية بالكامل من الحجر الصوّاني، ومزينة بحبات من حصى “المرو”.
المثير للاهتمام أكثر، هو العدد الكبير من المباني الحربية القديمة التي يطلق عليها اسم “القصبات”. وهي مبانٍ حجرية على شكل مخروطي، تحتل مواقع استراتيجية على رؤوس الجبال، وتوجد في جدرانها فتحات صغيرة كانت تستخدم لإطلاق الرصاص على الأعداء.
وتؤكد معظم المصادر التاريخية أن بناء هذه القصبات بدأ مع الحملات العثمانية على عسير ما بين عامي 1814 و1872م.
قرص العسل الألمعي
عندما بدأت الشمس بالاختباء خلف الجبال الخضراء، قرَّرنا الإسراع في العودة نزولاً إلى الطريق الرئيس الذي يربط محافظة رجال ألمع بمحافظتي الدرب ومحايل، حيث يمكننا تلافي ازدحام السيارات في الطريق من أعالي جبال حسوة إلى قرية البتيلة التي لا تبعد عن قرية “رجال” التراثية سوى بضعة كيلومترات.
وفي منتصف الطريق، فاجأنا مرافقنا بإشارة كي نخرج عن مسار الطريق باتجاه إحدى المناحل الخاصة، لتذوق العسل الألمعي الشهير.
مرحباً ألف
اتجهنا إلى صاحب المنحل الذي كان “محتبياً”، والاحتباء هو الجلوس القرفصاء شاداً رجليه وظهره بلحافه التراثي المسمى “الدريهمي”.
تحدثنا وإياه عن العسل وأنواعه وقادنا الحديث مرة أخرى إلى عالم النبات في المنطقة. فعندما سألناه عن سبب نقل الخلايا من مكان إلى مكان آخر مع تغير الفصول وخصوصاً في الصيف والشتاء. قال لنا العم محمد: يهدف التنقل بخلايا النحل إلى الحفاظ عليها من تأثير حرارة فصل الصيف الشديدة في تهامة. كذلك توجد هنا أشجار يحتاجها النحل لإنتاج أنواع جيدة من العسل من أهمها أشجار” الطلح” و”الضرم” و”الطباق” و”الشرم” و”السحاء”. أما في فصلي الشتاء والربيع فسهول تهامة أفضل للخلايا، حيث تتكاثر فيها أشجار “السدر” و”السمر” و”الضهياء” و”السيّال” وهي من الأشجار المفضلة لإنتاج أجود أنواع العسل.
وبعد أن التفت مطمئناً إلى خلاياه من هجوم عدد من الدبابير التي كانت في المكان، قال: “النحل يتكاثر في المواقع التي توجد فيها أشجار وشجيرات مثل الأثل والأراك والعرفج والعليق، وهي تتواجد بكثافة هذه الأيام في جبال وأدوية رجال ألمع نتيجة غزارة الأمطار”.
وقبل أن نسأل العم محمد عن سعر قرص العسل، سألناه عن الدعم الذي يحصل عليه النحّالون من الجهات الداعمة؟ فقال: في بعض الأحيان يتم الكشف على مناحلنا وتقييمها تمهيداً لإعطائنا قروضاً زراعية، كما نتلقى مساعدة في جلب العمالة اللازمة تحت مسمّى “مربي نحل”، وكذلك تُنظّم من حين لآخر بعض المعارض الإرشادية التي نستفيد منها”.
ثم ناولنا قرصين من العسل الألمعي، ورفض أن يأخذ أي مقابل مادي، قائلاً:
“مرحباً ألف، أنتم ضيوفي اليوم”.
تصوير: رشود الحارثي
المملكة العربية السعودية.?? قرية رجال المع فى الجنوب جميلة جدا بمحيطها من القرى والمناظر الخلابة وبعض الشلالات وضبابها وسماحة اهلها وعسلها المشهور لتستحق الزيارة لبضعة أيام للتمتع وممارسة رياضة المشى ويوجد بالقرية للاساسية كامل الخدمات العامة.ويكفى ان تستيقظ الصبح ورائحة الاشجار والاكسجين وبعض الاشجار العطرة تترك الاثر فى الجسم من الهدوء والسكينة ويوجد طريقان لها ولكن اذهب من الساحل للتمتع ببقية القرى وبالله التوفيق