مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

وِرش الكتابة

هل تصنع مبدعين؟


فريق القافلة


 كانت الجامعات الأمريكية الأولى في العالم التي بدأت تدريس الكتابة الإبداعية أكاديميًّا، في برنامج بدأته جامعة هارفارد أواخر القرن التاسع عشر والتحق بها أكثر من 150 طالبًا. لكن التاريخ المعتمد الذي يعود إليه الدارسون هو عام 1936م، عندما أطلقت جامعة “أيوا” برنامجها الشهير، والمستمر إلى اليوم. ومن ثَمَّ، أصبحت فصول تعليم الإبداع أمرًا واقعًا في كثير من جامعات العالم. ومع ذلك، لم تزل معارضته قائمة؛ إذ يشكك كثير من كبار النقاد والمبدعين في جدوى هذه الدروس.

 الكاتب الإنجليزي كولن ولسون (1931م – 2013م) كان حاسمًا في رفضه تدريس الإبداع بعد تجربة له في هذا المجال. ففي كتابه “حلم غاية ما”، الذي ترجمته إلى العربية لطفية الدليمي، كتب صاحب “اللامنتمي” مقالًا مطولًا عن صنعة الإبداع. حكى فيه عن تجربته في تدريس منهج كتابة إبداعية بجامعة “روتغرز” في نيوجيرسي عام 1947م، واقتنع بفعلها أن الإبداع مادة عصية على التدريس!

يعدُّ ولسون الكتابة عملية شاقة كارتقاء تلة عالية، حيث يواصل الأقوياء الصعود على مهل ليصبحوا كتَّابًا جيدين، في حين يتساقط الضعفاء على الجانبين، ويقول: “إن تشجيع هؤلاء الذين يمكن لهم أن يكونوا كتَّاب المستقبل عملية شبيهة بوضع السماد في مزرعة تمتلئ بالأعشاب الضارة”.

هذه الأعشاب الضَّارة، في رأي كولن ولسون، هي الأعداد الكبيرة من الكتَّاب الذين أنعشوا نشر الكتب وبيعها، لكنهم في الوقت نفسه حوَّلوها إلى “صناعة”.

بلغ حجم سوق النشر الأمريكية في عام 2023م نحو 44.3 مليـار دولار، وفقًا لشركة الأبحاث الصناعية (IBISWorld). وتدير هذه الصناعة مجموعة محدودة جدًا من المؤسسات الكبرى، والورشة ومحرر الدار ركنان أساسان فيها. وكثيرًا ما يجري تكليف الكاتب بموضوع تقترحه الدار، وترى أنه الرائج في هذا التوقيت. ولذا، نجد تكرارًا للموضوع بحبكات مختلفة في الكتب.

تاريخيًّا، كانت عملية نشر الكتب في العالم القديم تقوم على الهواية والولع، ويُقبل عليها قلة من الناس بروح التطوع أكثر من روح الربح. فكثير من تجارب النشر في القرنين التاسع عشر والعشرين قادها أدباء، مثل الأخوين جاليمار في فرنسا. وفي العالم العربي، كان سعيد جودة السحَّار، مؤسس “مكتبة مصر” كاتبًا، ومثله كان سهيل إدريس مؤسس “دار الآداب”. والقائمة تطول.

  هناك الآلاف من الكتَّاب في الولايات المتحدة الأمريكية يلبُّون حاجات مصانع النشر من الروايات والكتب الخفيفة للقراءة في المترو، تتضمن حبكة فنية سليمة وجذابة كما تعلَّمها الكاتب، لكن بعيدة عن الابتكار. تلمع أسماؤهم ثم تخبو. ومن النادر وسط هذا المناخ التجاري أن يولد كاتب مثل هيمنغواي أو فيتزجرالد أو بول أوستر الذي رحل هذا العام.

من الورش التدريبية التي قدمها مهرجان أفلام السعودية في دورته العاشرة 2024.

على أن التفكير في أسرار الإبداع ونقل الخبرات ليس محظورًا. وكثير من الأدباء الكبار كتبوا نصائح للكُتَّاب، بعضهم يُعنون كتابه صراحة إلى جمهور من المتدربين، مثل ريلكه في “رسائل إلى شاعر شاب”، ومن بعده ماريو فاغاس يوسا في “رسائل إلى روائي شاب”، يتحدثون فيها عمَّا ينبغي للمبدع الشاب أن يفعل. وأهم رسالة في الكتاب على الإطلاق هي نقض الرسائل السابقة: نسيان النصائح!

لم يخرج شاعرنا محمود درويش عن مسار الكبار في قصيدته “إلى شاعر شاب”، حيث يحرّض الشاعر الشاب على مخالفة مسار الكبار، وينتهي إلى الخلاصة: “لا نصيحة في الحب، لكنها التجربة.. لا نصيحة في الشعر، لكنها الموهبة”.

 وفي تاريخ الكتابة في العالم كله، كانت هناك دائمًا المقاهي الأدبية ونوادي الأدب والصحف والمجلات. وكان العالم العربي في قلب الظاهرة. ففي القاهرة، على سبيل المثال، كانت هناك ندوات شهيرة في المقاهي مثل ندوة أنور المعداوي، وندوة نجيب محفوظ. وكان يحيى حقي يستقبل في مكتبه بمجلة “المجلة” الأدباء الذين يقدمون قصصهم ويجعلهم يقرؤونها أمامه ويناقشهم فيها. وبالتوازي معه كان عبدالفتاح الجمل في الملحق الأدبي لصحيفة “المساء” يقوم بالشيء نفسه. وليس هناك كاتب من جيل الستينيات لم يتعلم من الأستاذين بهذه الطريقة. والأمر نفسه يمكن أن يُقال عن “ملحق الثورة” الثقافي في دمشق إبَّان تولِّي القاص زكريا تامر له، وكذلك كانت مجلات مثل “الأقلام العراقية”، وغيرها.

أكاديميًّا، بدأت الجامعات العربية بتدريس الكتابة الإبداعية منذ بدايات الألفية الجديدة. وفي التوقيت نفسه، بدأت وِرش الكتابة بالقاهرة، وانتشرت في كثير من المدن العربية حتى صارت موضوع الساعة. فهناك من يراها ضرورية لتطوير المهارات الأساسية للكتّاب الجدد، وتعزِّز فرصهم في إيجاد أصواتهم الخاصة، والبعض يرى فيها ما رآه كولن ولسون!


مقالات ذات صلة

بمناسبة افتتاح “مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام في الرياض”، أضخم مشروع للنقل في العالم جرى تنفيذه دفعة واحدة، ولهذه المناسبة، تخصِّص “القافلة” قضية هذا العدد للنقل العام الحضري.

هناك كثير من الأسباب الاقتصادية التي تجعل الإنفاق على قطاع النقل العام ضرورة حيوية، أولها وأكثرها مباشرة تقليل تـكلفة الانتقال على الفرد، وتوجيه ما ينفقه على السيارة الخاصة من صيانة ووقود وتأمين وخلافه إلى بنود أكثر فائدة، خصوصًا لدى الأسر محدودة الدخل والخيارات.

منذ البداية، أدركت الهيئة الملكية لمدينة الرياض الحاجة إلى نظام نقل عام متكامل وعلى مستوى عالمي، قادرًا على منافسة السيارات الخاصة بوصفه وسيلة مريحة واقتصادية وممتعة للتنقل في العاصمة النابضة بالحياة والمتنامية باستمرار.


0 تعليقات على “وِرش الكتابة.. هل تصنع مبدعين؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *