مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

Warning: Attempt to read property "name" on bool in /home/qafadmin/public_html/wp-content/themes/qafilah/header.php on line 45

وَلِنغتُن.. محطة الريح الكبيرة


باسم فرات

حين تغفو العواصف في خلجان “محطة الريح الكبيرة”، وتبدِّد خيوط الشمس الغيومَ عن سمائها شديدة الزُّرقة، تُظهر عاصمة نيوزيلندا وَلِنْغْـتُن جمالها المتفرد، بمرفئها الذي يُعدُّ أحد أجمل المرافئ في العالم، ومبانيها العصرية بارعة الإتقان، وشوارعها الأنيقة، وتلالها الساحرة والمتناثرة، وطبيعتها الخلَّابة.

لا يستطيع الوَلِنغتُنيّ إخفاء زهوه بجمال مدينته، مثلما يفخر، كحال بقية أهل البلاد من ذوي الأصول البريطانية، بأن أسلافهم لم يكونوا سجناء تخلَّصَ منهم مركز الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بل كانوا أحراراً قرَّروا بناء مجتمع يخلو من الطبقية الاجتماعية، مجتمع لا يجد الفقير فيه غضاضة أن يرتبط بابنة ثري، أو العكس، ولا يقف الآباء معترضين لانحدار أحد الخاطبين من طبقة مختلفة.

أجسام لا تتعرَّق
من الأمور اللافتة لكل من يزور المدن النيوزلندية، أن الأجسام فيها لا تتعرَّق، وذلك بسبب رياحها الباردة التي لا تهدأ، كما أن كثيراً من الناس يحرصون على حمل قناني الماء معهم أينما ذهبوا، ويتجنبون تناول الملح والزيوت في أطعمتهم. ومن الملاحظ هناك، أن السُّمْنة تجد طريقها إلى الأجسام بسهولة، خصوصاً أولئك الذين لا يتجنبون اللحوم والشحوم والزيوت والنشويات، وباقي أنواع الطعام المسبِّبة لتراكم الدهون.

أسطورة وَلِنغتُن
السكان الأصليون في نيوزيلندا هم شعب الماوري، وكلمة “ماوري” تعني العادي أو المألوف. وهناك كثير من الحكايات الشعبية في ثقافة الماوري التي تتحدث عن سرّ تكوين جزيرتهم الساحرة، أبرزها حكاية البطل الأسطوري “ماوي”، الذي يُروى عنه أنه في يوم من الأيام ذهب لصيد السمك مع إخوته، الذين رفضوا من جهتهم وجوده معهم في القارب، ولكنه أجبرهم على الرضوخ لرغبته بفضل قواه الخارقة، وكانت النتيجة أن تمكن من اصطياد سمكة عظيمة، أصبحت هي الجزيرة الشمالية، “تَي إِكا آ ماوي” ومعناها سمكة ماوي العظيمة، فيما يمثِّل رأس السمكة محافظة وَلِنْغْتُن، وعينا السمكة هما مرفأ وَلِنْغْتُن وبحيرة “وايرابا”، كما أن المرفأ نفسه كان في الأصل بحيرة أيضاً بحسب أسطورة أخرى. إذ تروي الحكايات الشعبية النيوزيلندية، أن في البحيرة الشمالية على الجزيرة – المرفأ اليوم – كان يعيش وحشا “تانيفا”، وهما وحشان يعيشان في المياه بحسب الأساطير الماورية، وذات يوم، قَرَّرَ أحدهما أن يغادر البحيرة بعد أن ضاقت عليه وشعر بِتَوْق للحرية، فصنع منفذاً إلى البحر وغادر البحيرة مستمتعاً بفضاءات المحيط وسعته، فحاول شريكه أن يلحق به لكنه فشل، فتشكلت منطقة “فَتايتاي”، وأخذت المنطقة اسمها من اسم “تانيفا فَتايتاي”، التي تعني وحش المياه. 

مرفأ وَلِنغتُن محاط بالمباني السكنية.

وَمِمَّا يحكى عن أسطورة ماوي، أنه جعل الشمس في أحد الأيام تُبطئ في مسيرها من المشرق إلى المغرب، ليصبح اليوم طويلاً جداً، بعد أن اشتكى أهل الجزيرة من قِصَر النهار، وأنهم بالكاد يمكنهم تناول فطورهم. وهو سارق النار، فبفضله أصبحت النار في متناول الجميع.

تسميات إنجليزية
“تي فانغانُوي آ تارا” هو الاسم الماوري للعاصمة وَلِنْغْتُن، ومنطقة وَلِنْغْتُن الكبرى، أي العاصمة وضواحيها والمدن القريبة لها، مثل “وادي هات، وبوريروّا”، تُسمى “تي أوبوُكوُ أُتي إكا آ ماوي”، كذلك منطقة “فَتايتاي”، فقد تغيَّرت التسمية في اللسان الإنجليزي إلى “هَتايتاي”، مثل غالبية التسميات “الماورية” غير الإنجليزية. إذ يمثِّل تغيير الأسماء ومنحها أسماء بريطانية وأوروبية، ظاهرةً شائعة في المناطق التي وقعت ضحية لفكرة مركزية الثقافة الأوروبية في تلك الأيام.

قبائل قديمة
يتميَّز الماوريون، سكان البلاد القدماء، بنظام اجتماعي قبليّ، شبيه بما كان عليه الحال لدى العرب، ولكلّ منطقةٍ قبائلها. وأشهر القبائل الماورية في العاصمة وَلِنْغْتُن هي “تي آتي آوا” و”نغاتي تاما”، و”نْغاتي مُتُنْغا”، وحرف الغيْنُ (g) يُلفظ رقيقاً في لغتهم، حتى إنه يكاد يختفي من بعض الكلمات، مثل لفظة نهر “ميكونغ” في جنوب شرق آسيا، إذ يَكاد يختفي الغيْنُ من ألسن السّكان هناك بكافة لغاتهم، وما أكثرها. 

وفي النصف الأول من القَرن التاسع عشر، قَدِمتْ قبيلتان هما “تَرَناكي” و”وايكاتو”، وهجم أفرادها على القبائل التي سبقتهم إلى الإقامة في المكان، وسيطروا عليه بعد أن أمعنوا القتل في السكّان الأوائل وهرب مَن هرب منهم. 

مرفأ وَلِنغتُن

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الصراع القبليّ يُعدّ من أساسيات التاريخ القبلي ليس عند الماوريين والعرب فقط، بل عند كافة الشعوب التي تتميز بنظامها الاجتماعي القبلي، وعندما جاء الأوروبيون إلى هذه البلاد وجلبوا الأسلحة النارية معهم، تسبب ذلك بكوارث ومجازر بين القبائل الماوْرية نفسها، لا سيما وأن الأوروبيين جلبوا معهم أيضاً أمراضاً كانت مجهولة تماماً عند الماوريين، ففتكت بهم فتكاً، بسبب عدم استعداد أجسادهم وأنظمة الحماية فيها للمقاومة، لتضيف الأسلحة المتطوِّرة في ذلك الزمن وباء آخر يحصد أرواح الماوريين على يد البريطانيين، وفيما بينهم على حدّ سواء.

نهضة اقتصادية
وفي عام 1825م، تم إنشاء “شركة نيوزيلندا” في لندن. وأخبرت الناس بأن الأراضي في وَلِنْغْتُن صالحة لزراعة القمح، لكن المزارعين والمستثمرين حين وصلوا اكتشفوا أن الأراضي ليست كذلك، وهذا ما تسبَّب في مشكلات مع السكَّان. كما واجهت المهاجرين البريطانيين مشكلة أخرى، وهي أن بعض شيوخ القبائل الماوْريّـة قبضوا ثمن أراضٍ ليست تابعة لقبائلهم، بل لقبائل أخرى، ما تسبَّب بنزاعات لم تنته حتى اليوم.

في السادس من فبراير عام 1840م، تم توقيع معاهدة “وايتانغي”، وبعد ذلك بخمسة وعشرين عاماً، أي في عام 1865م، انتقلت العاصمة من أكبر مدن البلاد أوكلاند الواقعة في شمال الجزيرة الشمالية إلى وَلِنْغْتُن الواقعة على مضيق كوك في أقصى نقطة في جنوب الجزيرة الشمالية نفسها، وهذا ما أدَّى إلى تطوُّرها بسرعة كبيرة، بسبب انتقال الوزارات والمكتبة الوطنية وأرشيف الدولة، وغيرها من المؤسسات.

مدينة متطوِّرة
قد لا يحتاج المواطنون والساكنون في مدن نيوزيلندا الرئيسة، إلى استخدام سيارات الأجرة أو حتى شراء سيارة يوماً، بسبب انتشار حافلات النقل العام. فنظام النقل العام في وَلِنْغْتُن الذي يُعدّ بحق من أفضل أنظمة وسائط النقل العام في العالم، وهذه إحدى مميزات العاصمة التي لا نكاد نجدها في مدن أخرى، لا سيما أكبر مدن البلاد مدينة أوكلاند.

من أكثر المباني التي تلفت انتباه الغرباء في وَلِنْغْتُن، وما نستطيع تشبيهه بخلية النحل، هو المبنى الذي يضم مكاتب رئاسة الوزراء والوزراء وكبار المسؤولين، وهو مجاور لمبنى مجلس النواب ومرتبط به، وقد بُني ما بين عامي 1969 و1979م، وهو من تصميم المهندس المعماري البريطاني “باسل سبَنس” (1907 – 1976م)، ويقع قريباً جداً من محطة القطارات وموقف الحافلات. وليس بعيداً عنه، في الجهة المقابلة من الشارع، يقع مبنى المكتبة الوطنية.

كاثرين مانسفيلد
عند الحديث عن وَلِنْغْتُن، لا بدّ من ذكر إحدى أهم وأشهر الكاتبات في تاريخ البلاد القريب: كاثرين مانسفيلد، هذه الشاعرة المبدعة وكاتبة القصة القصيرة التي خطفها الموت ولم تُكمل عامها الخامس والثلاثين. فقد ولدت في حيّ ثوُرندُن، في العام نفسه الذي وُلدَ فيه أحد أهم أدباء ومبدعي اللغة البرتغالية أنطونيو فرناندو نوغيرا دي سيابرا بيسوا (13 يونيو 1888م – 30 نوفمبر 1935م)، وهو يكبرها بأربعة أشهر ويوم واحد فقط، بينما كانت حياتها أقصر منه، فقد توفيت بمرض السل الرئويّ، في التاسع من شهر يناير من عام 1923م.

في عام 1903م، ذهبت كاثرين مانسفيلد مع عائلتها إلى إنجلترا، ومكثوا فيها ثلاث سنوات، قبل أن يعودوا إلى نيوزيلندا في عام 1906م، وبعد عامين، أي في عام 1908م، حين بلغت كاثرين عمر التاسعة عشرة، غادرت نيوزيلندا مرَّة أخرى إلى إنجلترا، لكنها هذه المرة لم تعد مطلقاً، وخلال مدة إقامتها في أوروبا تنقلت بين عدة أماكن، من بينها فرنسا التي توفيت فيها.

أصبحت مانسفيلد واحدة من أهمّ أدباء الحداثة في بريطانيا، وهو ما جعلها رمزاً مهماً عند النيوزيلنديين، الذين جعلوا من بيتها في حَيّ ثوُرندُن متحفاً، فيما تعدّ سيرتها اليوم جزءاً من منهاج دراسة اللغة الإنجليزية في نيوزيلندا.

مدينة الجَمَال
توجد عبارة مشهورة بين سكان وَلِنْغْتُن، وهي: “لا توجد مدينة في جمال وسحر وَلِنْغْتُن في يومٍ مشرق”. ولا يوجد مكان أفضل من “ماونت فيكتوريا”، الذي يرتفع 196 متراً فوق مستوى البحر، لمشاهدة ذلك الجمال، لكن متى يمكن أن تصادف يوماً مشمساً في وَلِنْغْتُن.. “المدينة العاصفة”؟. 

كادر:

وَلِنْغْتُن
• عاصمة نيوزيلندا منذ عام 1865م وثاني أكبر مدنها.
• تقدّر مساحتها بنحو 444 كيلومتراً مربعاً.
• أكبر مدن أوقيانوسيا من حيث عدد السكان، وتقع فى أقصى جنوب العالم.
• يُقدَّر عدد سكانها بنحو 420 ألف نسبة، وفقاً لإحصاء عام 2019م.
• %76 من إجمالي سكان وَلِنْغْتُن من أصل أوروبي، و%12.7 ماوريين، و%11.3 من أصول آسيوية، و%8.6 من سواحل المحيط الهادئ، و%1.6 من أصول مختلفة أخرى.
• اللغة الرسمية والأكثر شيوعاً بين السكان هي الإنجليزية، تليها الفرنسية.
• متوسط ارتفاع المدينة 31 متراً فوق مستوى البحر، وأعلى نقطة فيها هي قمة جبل فيكتوريا 196 متراً.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “ولنغتن.. محطة الريح الكبيرة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *