مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

وصفة علاج من الطبيعة

وإليها أشجـار المـانغروف

أمين نجيب وصهيب الحاج حسين وهشام الزهراني

قبل نحو ألفي عام، أشار عالم الطبيعة الروماني بلينيوس الأكبر (23 – 79م) إلى أشجار المانغروف بقوله: “توجد أشجار ذات طبيعة رائعة على شاطئ البحر الأحمر”. وعرفها العرب وكتبوا عنها الكثير، وسمُّوها “القَرْم”. ومن المعروف أيضًا أن الطبيب ابن سينا عُرف في المجتمعات الغربية، بجانب شهرته الطبية، لوصفه الشائق لدورة حياة شجرة المانغروف، فسمُّوها علميًا على اسمه ( Avecinnia Marina).

ومع ذلك، فإن هذا الاهتمام التاريخي يتناقض مع الإهمال الذي تعرضت له هذه الشجرة في الحضارة المعاصرة. فالتحضر الواسع، ولا سيَّما على الشواطئ حيث تنمو، أدَّى إلى تدهور غاباتها حول العالم. لكن العلم الحديث يحاول من خلال الأبحاث المكثفة حولها إعادة الاعتبار لأهميتها بوصفها عنصرًا رئيسًا في الحلول المعتمدة على الطبيعة لمواجهة الكوارث الناتجة عن التدهور البيئي.

إن قدرة أشجار المانغروف الفريدة على التكيُّف تمكّنها من العيش والازدهار في البيئات الساحلية والمياه المالحة، وتوفر موئلًا مهمًا لأنواع برية وبحرية أخرى. وتشكِّل في الوقت نفسه حواجزَ طبيعية ضد العواصف وتآكل التربة وارتفاع مستوى مياه البحار وحتى موجات التسونامي. وهي توفر موائل حيوية لعدد لا يُحصى من الأنواع؛ فبحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة 2023م، فإن 1400 نوع من النبات والحيوان تعتمد على هذه الأشجار.

إضافة إلى ذلك، توفر أشجار المانغروف مجموعة واسعة من الفوائد الحيوية لكل من البيئة ورفاهية الإنسان. إذ تمتص أنظمة جذورها الكثيفة طاقة الأمواج وتقلل من تأثيرها على المجتمعات الساحلية، فتحمي الأرواح والبنية الأساسية وسبل العيش. كما تعمل مثل حاضنات حيوية للحياة البحرية، وتوفر المأوى ومناطق التكاثر للأسماك وسرطانات البحر، وهو ما يعزِّز التنوع البيولوجي ويدعم مصايد الأسماك.

ومن الفوائد المهمة التي تتمتع بها أشجار المانغروف أنها تعدُّ مرشحات طبيعية. فهي تحبس الرواسب والمعادن الثقيلة والملوّثات من جريان المياه على الأرض، وتمنع هذه الملوثات من الوصول إلى الشعاب المرجانية وغيرها من البيئات البحرية الحساسة. ومن خلال عزل ثاني أكسيد الكربون، تؤدي أشجار المانغروف دورًا لا يُستهان به في معالجة تغير المناخ، وهو ما يجعل الحفاظ عليها أمرًا ضروريًا، كما جاء في برنامج الأمم المتحدة للبيئة: تفاصيل حول احتجاز الكربون بواسطة أشجار المانغروف، 2024م. ولمزيد من المعلومات عن خصائص أشجار المانغروف، وأماكن نموها حول العالم وأنواعها المختلفة يمكن مطالعة مقالة “المانغروف”، التي نشرتها “القافلة” في عدد نوفمبر – ديسمبر 2010م.

تشكِّل أشجار المانغروف، بالنسبة إلى مجتمعات عديدة، خط الدفاع الأول ضد الفيضانات والعواصف. إذ يمكن للموجة التي تمر على بعد 100 متر فقط من غابة المانغروف أن تفقد ثلثي طاقتها، كما تقول منظمة “التحالف الدولي للمانغروف” 2021م. في فلوريدا، على سبيل المثال، كانت أشجار المانغروف حجر الأساس للتخفيف من الكوارث. وبحسب تقرير “منظمة الحفاظ على البيئة” عام 2019م، فإن أشجار المانغروف حمت أكثر من نصف مليون شخص خلال إعصار “إيرما” في عام 2017م.

كما خلُصت دراسة واسعة أجرتها جامعة كمبريدج مع بعض منظمات البيئة إلى: “أن الدور الذي تؤديه أشجار المانغروف في حماية سواحلنا من المخاطر الطبيعية، مثل العواصف وأمواج التسونامي وتآكل السواحل، مُعترفٌ به على نطاق واسع”. كما ذكرت مقالة “القافلة”، المشار إليها آنفًا، أن أبحاثًا عديدة استنتجت أن أشجار المانغروف تستوعب بين %70 و%90 من قوة أمواج تسونامي. فعند حدوث التسونامي الكبير في شرق آسيا عام 2004م، “لقي شخصان فقط حتفهما في قرية كابوهينوالا في سري لانكا، التي يحيط بها 200 هكتار من غابات المانغروف الكثيفة، في حين أن قرية أخرى اسمها واندوروبا، ومحاطة بغابات مانغروف متدهورة، عانت خسائر كبيرة قدّرت بما يُراوح بين 5,000 و6,000 حالة وفاة”.

بالنسبة إلى 1.5 مليار شخص، تعدُّ الأسماك المصدر الأهم للبروتين. وفي البلدان ذات الدخل المنخفض التي تعاني عجزًا غذائيًا، يأتي نحو %20 من متوسط تناول البروتين الحيواني من الأسماك. ومن هذه الناحية، يؤدي اختفاء أشجار المانغروف إلى عواقب وخيمة على مصايد الأسماك في البلدان النامية. وعلى العكس من ذلك، فإن استعادة هذه الأشجار من شأنها أن تضيف إلى المياه الساحلية كل عام 60 تريليون سمكة ولافقاريات صغيرة صالحة للأكل وذات قيمة تجارية، مما يوفر دفعًا كبيرًا للأمن الغذائي، وفقًا لما ذكره برنامج الأمم المتحدة للبيئة في مقالة نُشرت في 25 يوليو 2023م.

في شرق آسيا، حيث توجد النسبة الكبرى من غابات المانغروف، تعتمد المجتمعات المحلية مباشرة على هذه الغابات. فعلى سبيل المثال، في منطقة أيياروادي في ميانمار، توفر المنتجات التي يجري جمعها من غابات المانغروف مثل: الحطب والأسماك وسرطانات البحر والجمبري، %43 من إجمالي دخل كل أسرة. وفي كمبوديا تستمد المجتمعات المعتمدة على غابات المانغروف، مثل مجتمع صيد الأسماك “بيم كراسوب”، نحو %90 من الأسماك و%85 من إجمالي دخلها من الأنواع المرتبطة بالمانغروف. بينما في منطقة سونداربانز الهندية، يعتمد أكثر من %21 من الأسر كليًا على المانغروف في معيشتهم، وحوالي %46 على نصف دخلهم من الغابة، كما جاء في دراسة نشرها موقع “ريسرش غيت” (Research Gate) في ديسمبر 2023م.

وعلى الرغم من كل تلك الفوائد، أعلن الاتحاد الدولي لصون الطبيعة ومواردها في تقييمه الأخير في مايو 2024م: “أن %50 من النظم البيئية للمانغروف التي خضعت للتقييم معرضة لخطر الانهيار”. فالتهديدات من التوسع الحضري مستمرة، وتتطلب جهودًا عاجلة للحفاظ على هذه الشجرة. فحماية أشجار المانغروف واستعادة حيويتها أمرٌ ضروري ليس فقط للتنوع البيولوجي، ولكن أيضًا لسبل عيش تلك المجتمعات التي تعتمد على هذه النظم البيئية. ومن المؤسف أن تكون المنطقة التي تحتوي على أكبر غابات المانغروف، والتي توفر فوائد متنوعة لمختلف المجتمعات الساحلية في جنوب شرق آسيا، هي التي تظهر أعلى معدلات فقدانها على مستوى العالم.

وعلى الرغم من وجود كثير من المجتمعات الساحلية جنبًا إلى جنب مع نظام غابات المانغروف البيئي منذ فترة طويلة، فإن الدراسات التي تستكشف قيمتها بوصفها موطنًا “بيوثقافيًا” لا تزال مفقودة. والموطن البيوثقافي، مثل غابات المانغروف، هو المكان الذي لا يؤوي الأنواع فحسب، بل يحمل أيضًا المعرفة والخبرات المحلية المميزة حول الإدارة العملية للتنوع البيولوجي وخدمات النظام البيئي والزراعة وما يخلفه أثر الإنسان على الطبيعة. واستمرار تدهور غابات المانغروف في جنوب شرق آسيا، قد يؤدي أيضًا إلى خسارة محتملة لأنظمة المعرفة المختلفة، واختفاء الثقافات الإثنية. وقد أصبحت هذه المشكلة العالمية واضحة، وبدأ العلماء التحذير من التهديدات التي تتعرض لها أنظمة المعرفة الأصلية كما جاء في المصدر السابق.

لهذه الأسباب جميعها أولت المملكة العربية السعودية، ومراكز الأبحاث في جامعات المملكة وخارجها، أهمية خاصة لمواجهة خطر تدهور غابات المانغروف. ففي سياق إستراتيجية المملكة للتنمية المستدامة، ومن ضمنها “مبادرة السعودية الخضراء”، يأتي التركيز على أشجار المانغروف في الوقت المناسب. إذ تدرك المملكة أهمية أنظمتها البيئية الساحلية، كما تدرك أن حماية هذه الأشجار لا تعزِّز التنوع البيولوجي فحسب، بل تعزِّز أيضًا قدرة المجتمع على الصمود في مواجهة تأثيرات المناخ. ويتماشى هذا النهج مع الأولويات الوطنية وأهداف الاستدامة العالمية، مما يُظهر الالتزام بمستقبل أكثر خضرة ومرونة، كما جاء في رؤية المملكة 2030.

ويبرز في هذا السياق إسهام أرامكو السعودية في تعزيز هذه الغابات، حيث استثمرت أرامكو السعودية في حلول المناخ الطبيعية للتعويض عن الانبعاثات الكربونية إلى جانب أهداف عديدة أخرى. وبنهاية عام 2024م، يكون عدد إجمالي أشجار المانغروف التي زرعتها الشركة قد بلغ أكثر من 40 مليون شجرة على سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، في إطار الهدف المرحلي الذي وضعته الشركة لزراعة 300 مليون شجرة مانغروف في المملكة بحلول 2035م.

كما صمَّمت الشركة متنزه المانغروف البيئي في رأس تنورة المخصص لتثقيف المجتمع المحلي، من تلاميذ المدارس إلى العائلات والسياح الزائرين، حول أشجار المانغروف وفوائدها البيئية والاقتصادية، حيث بُني ممشى خشبي يمكّن الزوار من التجوُّل ومشاهدة غابة المانغروف عن قُرب.

وأسهمت الجامعات ومراكز الأبحاث العلمية السعودية في الجهد العالمي لتعزيز أشجار المانغروف من خلال عشرات الأبحاث والدراسات العينية، التي نُشرت في المجلات العلمية العالمية المرموقة، والمشاركة في تنفيذ كثير من المشاريع المتعلقة بتعزيز غابات المانغروف في المملكة. وتجدر الإشارة هنا إلى دراسة مهمة أجراها باحثون من جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية “كاوست”، مع آخرين من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في عام 2020م، حول العلاقة بين أشجار المانغروف وارتفاع مستوى مياه البحار الخطير الذي يهدد مئات ملايين البشر حول العالم بالنزوح. ووجدت الدراسة أن معدلات ترسُّب التربة حول جذوع المانغروف وجذورها على الشواطئ تفوق معدلات ارتفاع مياه البحار على المدى القصير. هذا إذا لم يكن هناك نشاط بشري معاكس.

توضح هذه النتائج بجلاء أن كثيرًا من المشكلات البيئية التي تعانيها الكرة الأرضية قابل للحل بواسطة الحلول المعتمدة على الطبيعة، ومن بينها الاعتناء بأشجار المانغروف.


مقالات ذات صلة

“بالنسبة إلى مخلوقات صغيرة مثلنا، لا يمكن تحمُّل هذا الاتساع الهائل للكون إلا من خلال الحب”.

السفر قد يكون إحدى أفضل الوسائل لإبطاء الشيخوخة.

السير مايكل عطية من أهم الأسماء في مجال الرياضيات في النصف الثاني من القرن العشرين.


0 تعليقات على “أشجار المانجروف”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *