تتغلغل الأحداث المهمة في شخصية المدينة وتبنيها تدريجيًا، وتُعدّل من جوهرها التاريخي وتُقدّم لها تاريخًا جديدًا يصنع لها حياة مغايرة عن تلك التي كانت تُقدّمها لسكانها. ويبدو أن المملكة مقبلة على هوية عمرانية وثقافية تحركها الأحداث الكبيرة التي تتطلب عمرانًا يتحدى العمران الحالي ويطوعه، كي يستوعب صورًا تفوق كل الصور التي اعتادتها المدن السعودية في السابق.
من المعروف، في وقتنا المعاصر، أن المدن تسعى إلى خلق بصمتها الخاصة، وهي بصمة تمتزج فيها العمارة مع النكهة الاجتماعية والثقافية للمدينة، وتظهر فيها الشخصية التاريخية والحرفية في الأمكنة الصغيرة والكبيرة. فما الذي سيتذكره الزائر من الرياض عندما يعود إلى بلده؟ وما الانطباع الذي لن ينساه من يُمضي أيامًا بين أزقة المدينة وفضاءاتها؟ هذه الأسئلة مجتمعة يمكن أن نوجهها إلى إكسبو الرياض الذي سيسهم، دون شك، في خلق بصمة جديدة للعاصمة، لن تتوقف عند فضاء المعرض، بل ستمتد إلى المدينة برمّتها، بل ربَّما إلى مدن أخرى في المملكة. ومع ذلك، يجب أن نذكر أن المسألة هنا تتجاوز الجانب التسويقي إلى الجانب الثقافي العميق، وهو ما يجب أن نضعه في حساباتنا دائمًا.
ولأن رؤية المملكة تتوافق مع موعد الاستضافة، فسيكون لوجود إكسبو في الرياض معنى رمزي مهم يعبّر عن التحوّل الكبير الذي تعيشه المملكة اليوم، ويُفترض أن يظهر بجلاء في المعرض. وهذا ما يجعلنا نبحث عن الأسباب التي تجعل المملكة حريصةً على أن تكون الرياض إحدى محطات هذا المعرض المهم، الذي استمر أكثر من 170 عامًا، والذي يُعتبر أحد السجلات المهمة لتطور العمارة والتقنية والصناعة، وحتى الثقافة التي أسهمت بها شعوب العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ولنا أن نفكر في الفضاء العمراني الذي سينتُج من المعرض. فكما هو معروف، تركت جميع المعارض السابقة أثرًا عميقًا في المدن التي نظمتها، لكنها كذلك تركت أثرًا أعمق على الفكر والممارسة المعمارية وعلى الحرف والصناعات الصغيرة. إذ مثّل إكسبو دائمًا حالة عميقة لتوسيع حدود الأفكار والممارسات المعمارية والتقنية، وقدّم أفكارًا غيّرت من وجه العالم. والتصوّر الذي قدّمته الرياض لمعرض 2030، هو قرية من المستقبل فائقة التطور، ترتكز على تقنيات غير تقليدية، وتمد جذورها بثقة إلى الأصول التي قامت عليها المدن السعودية التاريخية ذات النظام الفراغي المتسلسل والصارم. إنه تصوّر يخاطب العالم بلغة السعوديين المعمارية والعمرانية، ويفترض أنها لغة جديدة لكنها عميقة وتفتح آفاقًا غير مسبوقة.
تميّز الإكسبو عن غيره من المناسبات العالمية
هناك مناسبات يلتف حولها الملايين والمليارات من البشر في العالم، تجعل العيون متعلقة بالدولة المنظمة. من تلك المناسبات كأس العالم والدورة الأوليمبية، وأقل منها مهرجانات الثقافة والسينما الكبيرة. لكن الإكسبو يختلف عن أي من هذه التجمعات؛ لأن لا يُقدم صورة البلد من وجه واحد، بل من كل الوجوه الحضارية، من الاقتصاد إلى الثقافة والفنون والإرث العمراني, كما يختلف عن المناسبات الأخرى بالأثر المستدام الذي يتركه خلفه للدولة المنظمة، ممثلًا في عمارة المعرض التي تبقى للأجيال التالية، وبترسيخ مكانة الدولة والأمة بين الأمم وتعزيز حضورها كوجهة للسياحة والاستثمار.
لم يكن إكسبو، منذ بدايته، مجرد معرض للدول ومنجزاتها التقنية والثقافية، بل كان تأريخًا لتطور الحضارة الإنسانية كل خمسة أعوام، الأمر الذي يجعل كثيرًا من الدول تحرص على أن تقدم أفضل ما لديها على المستوى المعماري والتقني والثقافي. ومن دون شك، هو مجال مفتوح للتنافس على المساهمة في خدمة البشرية. ولذا، فإن حصول الرياض على فرصة تنظيم “إكسبو 2030” ، هو نوع من تقديم “المملكة الجديدة” للعالم بكل ثقلها الحضاري والديني والتقني والاقتصادي.
وثمة اتفاق على أن فوز الرياض بتنظيم “إكسبو 2030” ، يستدعي الكثير من القضايا التي تتقاطع مع العمارة والتطوير الحضري، خصوصًا تلك التي تمس شخصية العمارة السعودية. ويُفترض أن يحث إكسبو على تغيير ثقافة ممارسة العمارة في المملكة من جذورها. والحدث يقول إننا مقبلون على مرحلة مختلفة من التفكير العمراني. فرغم أن إكسبو هو استعراض لعمارة العالم وثقافاته وتقنياته، فإن شخصية البلد المضيف يجب أن تكون الأبرز، خصوصًا إذا ما كان هذا البلد بحجم المملكة العربية السعودية وتأثيرها. هذا يعني أن “البصمة” الثقافية والتسويقية يجب أن تكون حاضرة في الأذهان في كل تفاصيل المعرض. ففي حين أنه حدث يمكن اعتباره حافزًا للسياحة، كذلك هو حدث يستدعي أن نفكر فيما يجب أن نقدمه للعالم، وما الجديد لدينا الذي سنجعل العالم يذكرنا به، مثلما حدث في بعض نسخ المعرض التي مثّلت منعطفات تاريخية في تطور الإنسان الحديث.
اترك تعليقاً