يتذكر كبار السن جيدًا تجاربهم مع الضرب الذي تلقوه على أيدي الوالدين ومن المعلمين، بل ربّما من بعض الأقارب. فالكل كان يرى أن من حقه أن يُسهم في عملية التربية. ولعلَّ ما يواسي هؤلاء أن يعلموا أن هذا النمط من التربية لم يكن مقصورًا عليهم، بل كان منتشرًا على مستوى العالم في الماضي.
وحتى اليوم، وفي الدول الرائدة في علم النفس وإطلاق النظريات في التربية الحديثة، لا يزال الضرب مسموحًا في بعضها، كما هو الحال، على سبيل المثال، في 17 ولاية أمريكية. ولا يزال عدد من خبراء التربية والمفكرين يكافح لإنهاء هذه العادة، ومن بينهم طبيبة الأطفال والأستاذة المساعدة في جامعة أوريغون للصحة والعلوم، جايمي أندرسن، التي تؤكد أن الضرب لم يزل يُمارس حتى في الولايات التي تمنعه، ولو على نطاق ضيق لا يجري الإبلاغ عنه دائمًا. كما أن الدول التي تمنعه، تعترف بأنه ما زال مستمرًا، لكن بعيدًا عن الأعين.
تناقضات الصورة في ذهن الطفل
من المبالغات الظالمة أن يصوِّر البعض طفولتهم وكأنها كانت عبارة عن سنوات من التعذيب المتواصل. بل على العكس من ذلك؛ إذ لا بدَّ للذاكرة من أن تستعيد لحظات كثيرة كانت مليئة بالحب والحنان، ومواقف لا حصر لها كان الآباء والأمهات فيها يلاعبون أطفالهم ويضحكون معهم.
لكن يبدو أن هذه اللحظات والمواقف الإيجابية، هي التي كانت تجعل كثيرًا من الأطفال، آنذاك، يتساءلون هل كان من يعنّفهم ويضربهم بقسوة في هذه الليلة، هو الشخص نفسه الذي كان يحنو عليهم ويلاطفهم في الليلة السـابقة. وكان ذلك يسبب لهم الحيرة والتوتر المستمر؛ لأنهم لا يستطيعون توقُّع أي الشخصيتين سيكون موجودًا في الليلة التالية.
بعض الآباء والأمهات تنتابهم نوبة من الندم على فعلتهم، حين يرون فلذات قلوبهم ينظرون إليهم بخوف وريبة، حتى إذا أرادوا أن يُربِّتوا عليهم، فزع الأطفال ونفروا منهم، فيسعى الآباء والأمهات لتبرير العنف الذي ارتكبوه بعبارات تزيد من ألم الطفل بدلًا من أن تخفف عنه، من قبيل: “إنما نفعل ذلك من أجل مصلحتك”، أو “إنما نضربك لأننا نحبك، ونريدك أن تصبح أحسن الناس”. ولكن عقل الطفل لا يستوعب هذا المنطق المتناقض.
وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن البعض الآخر من الآباء والأمهات كانت تعتريهم نوبات متزايدة من الغضب، حين يدركون فشل محاولاتهم في تهدئة الطفل، فيلجؤون إلى أسوأ الممارسات على الإطلاق، وهي استئناف الضرب عقابًا على البـكاء والصراخ، فكأنهم يرون أن عدم التوقف عن البكاء هو نوع من التحدي لهم.
لماذا الضرب؟
لأن هذا ما كان يفعله الجميع
من المؤكد أن الغالبية العظمى من الأهل، الذين كانوا يمارسون الضرب بوصفه أسلوب تربية، لم يكونوا يستمتعون بذلك، بل كانوا يفعلون ذلك لأسباب عديدة، على رأسها الاعتقاد السائد، آنذاك، بأن هذه الطريقة ناجحة وتُؤتي ثمارها بأسرع وقت. فالطفل الذي يتلقى صفعة على وجهه، أو ضربات متوالية بالعصا على جسده؛ لأنه لعب في الشارع بعد المدرسة، بدلًا من العودة مباشرة إلى المنزل، للقيام بالواجبات المدرسية؛ سيفكر في المرة القادمة ألف مرة، قبل أن يطيع أصحابه باللعب معهم.
هذا ما تعلمه الوالدان من قبل على أيدي والديهما، وتوارثا هذا الأسلوب من التفكير. ولم يكن من المعتاد أن يفكر الناس في الآثار السلبية للضرب، الذي لا يجعل الطفل يقتنع، بل يكسر إرادته، ويزرع الخوف داخله، ويقلل ثقته بنفسه؛ بل ربَّما يؤدي هذا الضرب إلى ترسيخ قناعة لدى الطفل أنه إنسان سيئ يستحق هذا العقاب؛ لأنه هو المسؤول عن تحوّل أبيه وأمه عن الشخصية الطيبة اللطيفة، إلى هذين الشخصين اللذين يشعر بالقشعريرة منهما في هذه اللحظات.
لا يزال الضرب مسموحًا حتى في بعض الدول الرائدة في علم النفس وإطلاق النظريات التربوية الحديثة، ولا يزال الخبراء والمفكرون يكافحون لإنهاء هذه العادة.
كانت هذه هي الثقافة السائدة في المجتمع، والكل يكرر عبارات من قبيل “العصا لمن عصى”، وما كان يقال للمعلمين من نوعية “لكم اللحم ولنا العظم”. ولم يكن هناك من يعترض على هذا النهج من التربية، كأن يطالب أحد ما الأب أو الأم بالتوقف عن ذلك؛ لأنه كانت هناك قناعة بأن الطفل ملك لوالديه، يفعلان به ما يرونه في صالحه.
لم تكن الدراسات التي تناولت التأثيرات النفسية على الطفل الذي يتعرض للعنف، قد شقَّت طريقها إلى الرأي العام بعدُ. ربَّما نشرت بعض الصحف مقالات، وربَّما سعت برامج تلفزيونية لتوضيح ذلك، لكن الغالبية العظمى لم تكن تحب أن تطلع على ما يخالف قناعاتها وموروثها الذي تلقته من الجيل السابق، فضلًا عن أن المكانة والسلطة التي كان الوالدان يتمتعان بها، لم تكن تقبل الانتقاص منها.
إذًا، ليست الرغبة في الانتقام محرك هذا العنف من الوالدين على الأطفال، بل قلة المعرفة بوجود وسائل تربية بديلة أفضل من الضرب، وكان التركيز على الهدف، مع عدم مراعاة عواقب الوسيلة المستخدمة. وكانت هناك رغبة في السير مع المجتمع في الطريق الذي تسلكه الغالبية، إضافة إلى ضغوط الحياة الهائلة، آنذاك، والفهم الخطأ لمعنى احترام الوالدين.
هل الطفل نصف إنسان؟
لعلَّه آن الأوان أن يدرك الجميع أن الطفل ليس أحد ممتلكاتنا، بل هو إنسان يتمتع بالكرامة، كاملة غير منقوصة، من دون أن يقلل ذلك من مسؤولية الوالدين، وحقوقهما الأصيلة في تربيته. بل من المؤكد أن الوالدين هم أكثر الناس حرصًا على كرامة طفلهما وإنسانيته، والرغبة الأكيدة في تحقيق الأفضل له، على الأقل بحسب فهمهما لما هو أفضل للطفل، وهو ما قد يتسبب أحيانًا في الخلط بين ما هو الأفضل له، وما هو الأفضل لهما.
وإذا كانت الغالبية العظمى من دول العالم قد وقَّعت على اتفاقية حقوق الطفل، الصادرة عن الأمم المتحدة، والتي دخلت حيز التنفيذ منذ 2 سبتمبر 1990م، فإنه ليس من المتوقع أن يكون كل الراغبين في الزواج قد سمعوا عنها، وسعوا إلى الاستفادة من محتواها، الذي يشير، مثلًا، إلى أنه يجب على الحكومات حماية الأطفال من العنف والإساءة على أيدي المسؤولين عن رعايتهم، وأنه ينبغي للبالغين الاستماع إلى الأطفال والتعامل بجدية مع آرائهم.
والحل؟! قبل التفكير في معاقبة الطفل، وقبل الإبداع في أساليب العقاب، مثل حرمانه من مصروف الجيب، أو إلغاء السفر إلى الخارج في العطلة الصيفية، يجب البدء بترسيخ القيم، بالتعريف بما هو صواب وما هو خطأ، وشرح المبررات والأسباب، والاستماع إلى رأي الطفل، بما في ذلك أكثر الآراء استفزازًا؛ لأن ذلك يعطي الأبوين الفرصة للرد عليها، وهذا ما يعني ضمنًا أنه وثق بهما، وأطلعهما على ما يفكر فيه، بدلًا من أن يناقش أموره مع صديقه، الذي غالبًا ما سيؤيده، بدافع الصداقة، أو لأنه لا يملك المعارف اللازمة.
الضرب لا يجعل الطفل يقتنع، بل يكسر إرادته، ويزرع الخوف داخله، ويقلل ثقته بنفسه، ولربَّما أدى إلى ترسيخ قناعته بأنه إنسان سيئ وسيبقى كذلك.
الخطأ الذي يقع فيه الطفل ليس المشكلة، بل كيفية التعامل مع هذا الخطأ، مثل أن يسأل الأب نفسه أولًا، هل كان قد أوضح من قبل لابنه أن هذا السلوك خطأ؟ وهل كان هو وزوجته حريصين على أن يكونا مثلًا أعلى وقدوة في هذا السلوك؟ ثم يسأل عن الدوافع التي جعلت طفله يرتكب هذا الخطأ، ليس بهدف إيجاد المبرر له، بل لفهم الخلفية، وهو ما يساعد على التعامل مع الخطأ، وتربية الأطفال من دون اللجوء إلى العنف.
لا يمكن للضرب أن يكون الحل السحري لكل المشكلات، بل هو في المقام الأول دليل على عجز الوالدين عن توضيح الخطأ، من خلال لغة التواصل الطبيعية بين البشر، وهي الكلام. والضرب هو أفضل وسيلة لكسر إرادة الطفل، وجعله سهل الانقياد. ولكن هذا الانقياد لن ينتهي عند حدود باب البيت، بل سيلازمه في الخارج، فيطيع رفيق السوء، ولا يقدر على رد الظلم الذي يقع عليه من الآخرين، وربَّما يظل على هذه الوتيرة في الكبر ليكون إمعة في محيطه. فهل هناك من يريد ذلك لابنه أو ابنته؟
اترك تعليقاً