مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

هل تحتاج الثقافة إلى قراءة؟!


د. محمد الرميحي

في وقت ما منذ زمن رسخ في ذهني رأي يقول: “إن العالم سوف يحكمه من يقرأ”، وهي مقولة قريبة من العقل. أمَّا المجتمع الذي لا يقرأ، فسوف يكون محكومًا من الآخرين. ثم مررت بتجربة شخصية مؤخرًا رسخّت الفكرة السابقة، فقد وصلني كتاب موضوعه له أهمية في واقعنا العربي المعاصر. ولأهميته التي رأيتها، كتبت عنه تغريدة في منصة إكس (تويتر سابقًا)، وبعد أيام كتبت عن نفس الكتاب دراسة مختصرة في إحدى الصحف اليومية في حوالي 800 كلمة، ووضعت الدراسة على منصة إكس. الذي لاحظته أن من اطلع على التغريدة المختصرة كان حوالي 14,000 شخص من المتابعين. أمَّا من اطلع على المقال، وفيه معلومات أوفى، فلم يتعدَّ ألف مشاهد على نفس المنصة، وفي نفس التوقيت!

الرسالة التي خرجت بها، أن هناك شرائح واسعة من قرّاء العربية تفضّل القراءة السريعة والمختصرة، وربَّما معظمهم من الجيل الشاب، الذي تربّى على الأجهزة الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي. أصبح الأمر كمثل الوباء في إدمان المختصرات، ليس فقط المقروءة، بعد أن صارت هناك ملخصات سمعية ومرئية على الشبكة العنكبوتية، وهي قد لا تقدِّم معلومات وافية، وكثير من القليل الذي تقدِّمه مشوّه؛ لأن من يقدمه تلقاه بالطريقة المتعجلة نفسها.

نشاهد في حياتنا اليومية أعدادًا من الناس، طلابًا وموظفين وسيدات وحتى سياسيين، يشغلهم هذا الجهاز السحري المحمول باليد، في العمل أو المقهى أو حتى في المواصلات العامة والجلسات الاجتماعية، يقدّم لهم المعلومات والأخبار. وفي ظني أن كثيرًا منها غير صحيح أو غير دقيق في أحسن الاحتمالات، وبعضها لها أغراض تشويهية أو تشهيرية.

من لا يقرأ في موضوعات جادة، وقراءة مكثفة ومنهجية، هو في الغالب يحصل على معلومات سطحية. وكثير من المختصرات متناقض ومتعاكس، يُخرج لنا جيلًا مشوهًا ثقافيًّا في الغالب لا يحمل ذلك العمق الذي حملته الأجيال السابقة، وتفرز هذه الظاهرة عجزًا ملحوظًا في كفاءة الأجهزة الإدارية في منطقتنا العربية. فمن يعمل، مثلًا، مراسلًا لوكالة أنباء أو صحيفة أو محطة تلفاز، وهو متعود على الاختصار المضر، ينقل في الغالب ذلك الاختصار المضر لمن يقدم له الخدمة، فيزداد الجهل ويتعمق وكأنه سلسلة تعزز نفسها، وذلك ينطبق على معظم المهن.

مثل تلك الفئة من الناس يسهل تضليلها سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، ويسهل أخذها إلى مكان يضر المجتمع، من التشدد والغلظة، بل حتى الإجرام؛ لأنها تفتقد ما يمكن أن يسمَّى بـ “المناعة الثقافية”. وهي على استعداد لتصديق ما يأتيها من تلك المختصرات دون القدرة على امتلاك أدوات منهجية ومعرفية لاختبار تلك المعلومات، لذلك خرج مصطلح ما يُعرف بـ “الشبكة السوداء” في وسائل الاتصال.

هذا ينعكس على تدني الخدمات في المجتمع وبالتالي تدهور المنظومة العامة للإنتاج والخدمات. والأدهى أن تشيع بين كثيرين فكرة مدمرة عن القراءة بوصفها عملًا معيبًا! وقد يتعرض الشاب والشابة اللذان يقرآن إلى التنمر، واعتبارهما منعزلين أو منطويين، أو غير اجتماعيين، فتتشكل قيمة سلبية لممارسة القراءة. في الجامعات أو معظمها ومن واقع خبرة لصيقة، أول سؤال يسأله الطلاب في أول محاضرة هو الآتي: أستاذ ما هو الملغي من المقرر! هكذا وبسهولة ودون تردد! ويزداد الأمر سوءًا مع تسارع الثورة في الذكاء الاصطناعي، الذي يستخدمه الطلاب اليوم لكتابة الموضوعات المطلوبة منهم، بل حتى الكتَّاب؛ مما يقلل الاعتماد على البحث الذي هو أحد سبل الغنى المعرفي للشخص.

كل ما نشاهد من تخلف وتراجع، وحتى هوان في مجتمعاتنا، سببه ازدراء القراءة الجادة من الكتب، وهو يظهر بشكل واضح لمن يريد أن يتابع في الكثير من المظاهر، فهو ظاهر في كتابات الكثيرين التي تميل إلى التفاهة والسطحية، وهو ظاهر على محطات التلفزة التي نشاهد كل مساء، كما هو ظاهر في النقاشات العامة، خاصة تلك المتعلقة بالسياسة أو الدين أو الاجتماع. يصاحب ذلك ما ابتدع من أسلوب القراءة السريعة، التي أصبحت مهارة يجري تعليمها.

وفي الحقيقة، فإن القراءة السريعة تقترب من عدم القراءة. الإبداع، على سبيل المثال، يحتاج إلى الاندماج إلى حد مغادرة الواقع والدخول إلى عالم الرواية أو القصة أو القصيدة، وهذا الارتحال يستحيل أن يحدث بالقراءة السريعة. وأمَّا الفكر، فتحتاج قراءته المفيدة إلى لحظات تأمل وتذوق للأفكار، ومن الأفضل أن يصحبها قلم يعلّق على الهوامش ويمحّص الفكرة.

في الفضاء المتعجل تنشط الشخصيات “الفهلوية” والدعاة المزيفون والسياسيون السطحيون، بل حتى الأساتذة السذّج غير القادرين على الوفاء بأقل متطلبات المهنة التي يمارسونها.

من ناحية أخرى، واستجابة لمطالب السوق، نرى أن المؤسسات الصحفية الكبرى بدأت تتبع ذلك التوجه بإنتاج فيديوهات قصيرة غالبًا يقوم بها “فاشنست” من أجل جلب الجمهور، كما تفعل مثلًا صحيفة النيويورك تايمز، وأيضًا غيرها في فضائنا العربي.

قلة القراءة أو فقرها وتشوّهها هو السبب الأصيل في تدهور الثقافة العربية، وبالتالي في تباطؤ التنمية وتراجع الوعي. ففي مجتمع يعلي الاختصار ويعشق “الأيقونات” و”الفاشنستات” تتدهور الجدية. ويتساوى الزبد بالجوهر، فتتدهور القيم وتتراجع المثل العليا.

بلا قراءة منظمة وجادة وعميقة ومنهجية، تتراجع كل أنظمة المجتمع، ويسقط في التخلف وتزدهر فيه الخرافة والشعوذة، فيكون عرضة لكل الأوبئة التي تصل إلى حد الحروب الأهلية كما نشاهد حولنا، ومنها غياب القانون، وعلى رأسها فقد الحرية!

*حول الكاتب: كاتب ومفكر كويتي


مقالات ذات صلة

ثمرت ظاهرة “صانع الأفلام” في السينما السعودية بعض الأفلام الناجحة من دون شك. لكن ماذا عن التجارب غير الجيدة؟ وكم عددها؟ فمن الخطأ القطع بنجاح ظاهرة صانع الفيلم متعدد المهام قياسًا على مثال واحد أو مثالين وبتجاهل إخفاقات عديدة.

ما الذي حلَّ بالبرامج الثقافية التلفزيونية؟

أطلقت “إثراء” المرحلة الأولى من الترجمة الصينية لكتاب “المعلقات الألفية”، والتي يُتوقع أن تستوفي كل المعلقات العشر عام 2025م.


0 تعليقات على “هل تحتاج الثقافة إلى قراءة؟! ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *