مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2024

سينما سعودية

هجّان

التجسُّد الإيجابي للسينما الكلاسيكية


أحمد شوقي

يتنقل نقّاد السينما العرب من مهرجان إلى آخر، يشاهدون أحدث الأفلام العالمية، ويبحثون باستمرار عن الأفلام العربية. ومع تزايد عدد الأفلام المنتجة عربيًا، وظهور منصات دعم ساهمت في خروج المزيد من الأفلام للنور أحدثها وأبرزها صندوق البحر الأحمر، وتمرّس قطاع كبير من صنّاع الأفلام العرب في لعبة الإنتاج المشترك مع الغرب؛ بات عدد تلك الأفلام العربية في تزايد مستمر، وصار النقاد العرب لا يذهبون إلى مهرجانات كان أو برلين أو تورنتو من دون أن يكون ضمن جدول أعمالهم مشاهدة عدة أفلام تنتمي إلى منطقتنا.

تطرح هذه الحالة تساؤلات ضرورية حول ما يمكن أن نسميه فِلمًا عربيًا. فهل يُمكن أن نضع في قائمة واحدة فِلمًا روائيًا سعوديًا أنتجته منصة مثل نتفليكس “ناقة” مع فِلم وثائقي إبداعي مغربي “كذب أبيض”، مع دراما جماهيرية مصرية “أنف وثلاثة عيون”؟ كلها أفلام عربية الإنتاج وعُرضت في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، فهل هناك حقًا قواسم مشتركة تجعل من المنطقي تصنيفها ضمن عنوان عريض اسمه السينما العربية؟ هل لأن صنّاعها ينتمون إلى دول عضوة في جامعة الدول العربية، أم لأن لغة الفِلم الأصلية هي العربية؟

قد تبدو هذه الأسئلة لوهلة بعيدة عن موضوع المقال الذي يشير عنوانه بوضوح إلى فِلم “هجّان”، ثاني الأفلام الروائية الطويلة للمخرج المصري أبو بكر شوقي بعد فِلمه المُشارك في مسابقة مهرجان كان الرسمية “يوم الدين”. لكننا إذا تأملنا بدقة، فسنجد أن الفِلم الذي أنتجه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، يُمثل التجلي الأبرز خلال السنوات الأخيرة لما يُمكن أن نسميه الاتجاه التوافقي في السينما العربية.

بين الفردانية والتوافقية

قبل الحديث عن الاتجاه التوافقي في السينما العربية والتعرض لفِلم هجّان نقديًا، نجيب عن السؤال المطروح في المقدمة بأن تصنيف الأفلام العربية، وفقًا لدول إنتاجها، هو تصنيف إعلامي بحت، غرضه تسهيل الأمور على من يتابع المهرجان من بعيد، وتقريب المسافة للقارئ بالحديث عن الأعمال التي قد يجد فيها ما يهمه أو يرتبط بثقافته. وعلى الأرجح، سيستمر النقّاد في انتهاج ذلك التصنيف لأسباب تتعلق بالنشر، لكنه لا يعني الكثير على المستوى الفني. فأساليب الأمثلة الثلاثة المذكورة وجمالياتها هي بالفعل شديدة التباين، وما يتشاركه كل منها مع أفلام غير عربية مختلفة أكبر بكثير مما تتشاركه الأفلام بعضها مع بعض. لكن كلًا منها يبقى فِلمًا عربيًا؛ لأنه آتٍ من عقل فنان نشأ في إحدى دول المنطقة، ويُعبر من خلال السينما عن نفسه أولًا، بغض النظر عن تعبيره عمَّا هو أوسع من ذلك.

عبدالمحسن النمر في دور “جاسر”.

وبينما تتباين الأفلام الثلاثة في كل شيء، فهي تتفق في أن كلًا منها يخاطب جمهورًا محددًا. فلم يتمكن قطاع عريض من التفاعل مع منطق الكابوس الذي يحكم ليلة بطلة “ناقة”، ووجد البعض “أنف وثلاثة عيون” دراما مصرية عتيقة لا تلبي احتياجاتهم، وبالطبع يُعد “كذب أبيض” فِلمًا خاصًا، يحتاج على روعته مشاهدًا متمرسًا كي يُدرك منجزه السردي ويتفاعل مع ما ترويه المخرجة عن عائلتها وبلدها.

يقودنا هذا كله إلى “هجّان”، الذي يأتي كنغمة نادرة تُغرد خارج السرب، وتُذكرنا أننا خلال مسيرة إيماننا بسينما المؤلف، ودعمنا للأصوات الخاصة والصياغات السينمائية غير المعتادة، نسينا أن هناك شكلًا كلاسيكيًّا للسينما يُمكن أن يتوافق عليه الجميع؛ شكلٌ يخاطب الجمهور العريض بكافة قطاعاته، من دون أن يرتبط هذا الخطاب بأي ابتذال أو ترد، أو حتى تنازل عن حق صانع الفِلم في طرح أفكار مركبة، ولكن في صياغات غير متكلفة، لا تحتاج إلى أن تمتلك ذائقة خاصة، أو تكون قد شاهدت مائة فِلم فرنسي كي تفهمها وتهضمها وتتفاعل معها.

عوامل نجاحه الثلاثة

لم يتوقع بعض النقاد الكثير من فِلم “هجّان” في أي لحظة خلال فترة صناعته، التي امتدت إلى قرابة ثلاثة أعوام منذ مرحلة إطلاق مركز إثراء للفكرة في ديسمبر 2020م، بل كانوا يرون أنه يقوم على معادلة إنتاجية أسفرت في أغلب التجارب المشابهة السابقة عن كوارث فنية لا داعي لذكرها. ففي كل مرة يجتمع فيها إنتاج عربي سخي، مع فريق من عدة دول، مع موضوع مرتبط بالثقافة المحلية ونص كُتب بالمشاركة بين عدة مؤلفين، كانت تلك هي الوصفة المثالية لصناعة عمل شكلاني، مستشرق، يعجز عن الولوج إلى جوهر المجتمع الذي يتناوله الفِلم.

كيف تمكّن فريق “هجّان” إذًا من تفادي ذلك المصير؟ وكيف تمكن صنّاعه، بنفس الأدوات والشكل الإنتاجي، من تقديم عمل كان ليلة عرضه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي إحدى الليالي التي لا تُنسى؟ إذ تَمكّن فيها الفِلم من إحكام السيطرة على المشاهدين، فارتفعت أصوات صيحاتهم الداعمة للأبطال، وضحكاتهم وتأثرهم باللحظات المفصلية في الحكاية، وهو شكل من التفاعل يندر اختباره في مهرجانات السينما تحديدًا بجمهورها النوعي المتمرس على مشاهدة الأفلام.

يُمكننا أن نعزو هذا النجاح إلى ثلاثة أسباب رئيسة سنتناولها تباعًا، وهي: عالمية الحكاية، ومحلية البيئة، وإتقان الصنعة.

البعد العالمي لحكاية الهجّان مطر

بالرغم من أن أحداث “هجّان” تدور داخل عالم لا يكاد أحد يعرف عنه الكثير، أللهمَّ إلا المهتمين من سكان الجزيرة العربية، وهو عالم سباقات الهجن، غير أن النص الذي كتبه مفرج المجفل وعمر شامة وأبو بكر شوقي يحوّل العالم مكانًا مألوفًا عبر الابتعاد عن أي شكل من الألاعيب السردية، انطلاقًا من إدراك حقيقة أن الحكاية في جوهرها هي مزيج بين الفِلم الرياضي وفِلم النضج.

“مطر” المراهق لا يهتم كثيرًا بعالم السباقات وإن كان متعلقًا بناقته “حفيرة”، يرتبط بالعالم بقدر ما يتيحه له ارتباطه بشقيقه الهجّان “غانم”، غير أن تطور الأحداث يدفع مطر إلى دخول العالم بكل ما يملكه من قدرات وتصميم، ليُحاول إثبات جدارته بأن يكون رجلًا، وأن يكون بطلًا داخل هذا العالم الذي تحكمه قواعده الخاصة.

باختصار، هي قصة نضج مطر من الطفولة إلى البلوغ، ومغامرة دخوله عالم سباقات الهجن. فإدراك هذا المزيج يجعل صُنّاع الفِلم يبنون الحكاية وفق النماذج المعتادة لرحلة البطل في الأفلام المشابهة، مُفضلين استخدام بناء درامي مألوف، يمكن فهمه والتفاعل معه سريعًا لأي مشاهد من دون ارتباك أو حيرة.

يلتزم النص كذلك بالشكل القياسي للشخصيات الدرامية: البطل والخصم والصديق والداعم والعرّاب الحكيم، وبالطبع ذو المعسكر المتغير الذي يبدأ خصمًا، ثم يغدو حليفًا. وكأننا بصدد عمل يمكن بسهولة استخدامه في قاعات محاضرات السيناريو، لضرب الأمثلة على أنواع الشخصيات الدرامية المختلفة وكيفية توظيفها.

فمن جهة، يجعل ذلك المدخل الحكاية سهلة التوقع لمن يمتلك الرصيد الكافي من المشاهدات، فيسهل تصوّر مسارها وكيفية تطور أحداثها. ولكن من جهة أخرى، يُتقن المخرج في كل مرحلة أن يشحن ذلك المسار المتوقع بالأحداث المؤثرة والمواجهات المثيرة، محققًا بذلك شكلًا من الإشباع كدنا ننساه: إشباع الأفلام الكلاسيكية التي أوقعتنا في حب السينما؛ الأفلام التي لا تنشغل فيها كثيرًا بأسلوب المخرج أو بشكل السرد، وإنما تنغمس في الحكاية كليًا، فتتماهى مع الشخصيات وتخوض معها المغامرة، وهو شكل كوني للسرد السينمائي القابل للتماس مع الجميع؛ شرط أن ينجح صانع الفِلم في تجاوز عقبة سهولة التنبؤ عبر إحداث الأثر المطلوب، وهو ما نجح فيه “هجّان” بالتأكيد.

عالم سينمائي جديد

أحد أهم أسباب هذا النجاح هو أن أحداث الِفلم، وإن كانت كلاسيكية البناء، فإنها تدور في عالم جديد تمامًا على السينما. صحيح أننا شاهدنا عشرات الأفلام الرياضية التي يجد المشاهد فيها ترتيب السباقات نفسه من حيث القيمة أو الأثر الدرامي، لكن تلك الحكايات دارت دائمًا في مضمار سباقات “الفورمولا 1” أو ملاعب كرة القدم الأمريكية أو غيرها من “الرياضات السينمائية”، لكن أن تدخل السينما عالمًا ثريًا كسباقات الهجن بكل تفاصيله، فذلك أمر جديد يستفيد منه الفِلم كليًا.

ولا يقتصر الأمر على نضارة الصورة أو شكل السباقات وما فيها من إثارة، ولكن قيمته تنبع أساسًا مما يُمكن أن تحمله تفاصيل ذلك العالم من دلالات، بما فيها من تراتبية اجتماعية واقتصادية تُعبر عن المجتمع (فالفائز في السباق هو مالك الهجن، أمَّا الهجّان الذي يفوز حقًا في السباق فلا ينال تقديرًا يستحقه)، وذكورية واضحة لأنها رياضة تكاد تكون مغلقة على الرجال، وعلاقة مليئة بالتساؤلات بين الإنسان والحيوان، لن تجد فيها أبدًا إجابة قاطعة عمَّا إذا كان الجمل أو الناقة صديقًا وشريك رحلة، أم أداة يستخدمها الإنسان لتحقيق المجد.

من خلال تلك الخصوصية الثقافية والبصرية تمكّن المخرج من سرد حكاية مليئة بالتفاصيل الجديدة حتى وإن قامت على قالب كلاسيكي، حافلة بالأفكار التي يُمكن حتى أن نصنف بعضها بالشائك، فمالك الهجن الذي يرشو المذيع ليُلمّع صورته، وسؤال من هو صاحب المجد الحقيقي: من قام بالفعل أم من موّله، هي أفكار وثيقة الصلة بكثير مما يحدث اليوم في العالم بشكل عام.

قيمة العناصر الفنية

لم يكن كل ما سبق أن يُنتج فِلمًا بهذا الأثر إلا إذا اقترن بجودة تنفيذ عالية، وهو ما ينجح المخرج فيه بوضوح خلال كل عناصره تقريبًا، بداية من الصورة التي تتراوح بين الحس الشعري في مشاهد البادية والإيقاع الرياضي اللاهث في مشاهد السباق، إلى التنفيذ المتقن للسباقات الذي يُمكن بسهولة وصفه بأنه لا يقل أي شيء عن أي سباق رياضي في فِلم أمريكي، إلى التفاصيل البصرية والسمعية للبيئة المحيطة بالشخصيات.

يتوّج كل ذلك اختيار مدهش للممثلين؛ فكل ممثل وممثلة في المكان الملائم تمامًا، بما في ذلك الشخصيات الفرعية والأدوار الصغيرة التي عادةً لا يتم اختيار أصحابها بالدقة نفسها التي يتم من خلالها انتقاء الشخصيات الرئيسة. فكما أبدع الشابان عمر العطوي وتولين بربود في دوريهما، وظهر صاحبا الخبرة إبراهيم الحساوي والشيماء طيِّب بصورة تليق بمسيرتهما، فإن مستوى أداء الممثلين الآخرين لم يقل عن مستوى الفِلم.

غير أن الظهور الذي يستحق التوقف عنده بحق هو أداء عبدالمحسن النمر لدور “جاسر الصقّار”، مالك الهجن الشرير وخصم بطل الحكاية. النمر وهو الممثل التلفزيوني ذائع الصيت يخرج تمامًا من جلده ليؤدي دور عمره بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ. ليس فقط لأن شخصية “جاسر” تحمل الجاذبية المعتادة لأشرار الأفلام، لكن لأن عبدالمحسن النمر يُمسك بجوهر الشخصية الحقيقي، فتحت سطح كل ما يُقدم عليه من أفعال بالغة الشر والتجبر، يكمن طفل ضعيف مكبوت، يشعر بالدونية والانكسار أمام النجاح والتقدير الذي يناله كل من حوله، فيُكرس حياته ويسلك أي طريق ممكن كي ينال الاعتراف من الآخرين، وهي المفارقة الذهبية التي تمنح الشخصية جاذبيتها: التناقض بين مظهر “جاسر” ومخبره، وبين قسوته الشيطانية وداخله الهشّ الذي يخفيه وراء هيئته الطاووسية.

قد لا يكون “هجّان” فِلمًا استثنائيًا بشكل مجرد، لكنه عمل شديد الإتقان والإمتاع، وقبلهما شديد الأهمية لظهوره في الوقت الملائم تمامًا؛ ليزيح عنّا بعض التشاؤم، ويخبرنا أن بإمكاننا صنع أفلام كبيرة وكلاسيكية، قادرة على التواصل مع الجمهور العريض وتحريك مشاعره ودفعه للتفكير. أفلام لا تحتاج إلى مُشاهد خاص كي يقدرها، بل هي سهلة التلقي وعميقة الأثر، صُنعت بالمقادير الصحيحة وبمزيج بين الموهبة والوعي، لتمنحنا تجربة سينمائية ممتعة، وجوهر السينما هو الإمتاع، حتى لو نسينا تلك الحقيقة أحيانًا.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “هجّان.. التجسُّد الإيجابي للسينما الكلاسيكية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *