لقرون عديدة كانت نوردهافن، أو “الميناء الشمالي”، (وهي منطقة تابعة رسميًا للعاصمة الدنماركية كوبنهاجن، ولكنها تعدُّ مدينةً بسبب حجمها ونطاقها الواسع)، ميناءً حرًا مليئًا بسفن الشحن وصوامع الحبوب والحاويات المعدنية، وكانت المباني الموجودة فيه عبارة عن مستودعات ومنشآت شحن صناعية. ثم في عام 2008م، نُظِّمت مسابقة لإنشاء منطقة ذات طابع مستدام لمستقبل كوبنهاجن، فجرى تقديم 179 اقتراحًا من قبل شركات معمارية عديدة، فازت من بينها مجموعة من أربع شركات كانت قد وضعت تصميمًا لنوردهافن لجعلها منطقة حضرية مع خطة تطوير مستدامة. ولكن أكثر ما كان يميز تلك الخطة أنها ستجعل نوردهافن أول مدينة في العالم يمكن الوصول إلى جميع المرافق فيها في غضون 5 دقائق، بحيث سيكون كل ما يحتاج إليه؛ أي من الـ40 ألف نسمة المقيمين فيها، على مسافة 400 متر سيرًا على الأقدام.
يُعدُّ التنقل أحد أكبر التحديات التي تواجه الحياة العصرية؛ لأنه يستهلك كثيرًا من الوقت، إضافة إلى الروتين اليومي؛ ولذلك صُممت مدينة نوردهافن لجعل كل شيء فيها، من المدارس والملاعب إلى الشركات والأماكن الترفيهية، على مسافة قريبة وفي غضون خمس دقائق فقط. فهي نموذج لعالم حديث يُمكن للسكان فيه ممارسة التمارين الرياضية الصباحية قبل الانتقال إلى أماكن عملهم، وتناول الغداء في مقهى لطيف، والسباحة السريعة في الميناء، والعودة إلى المنزل في الوقت المناسب لاصطحاب أطفالهم إلى نزهة في الحديقة، كلُّ ذلك قبل الاستمتاع بعشاء مع العائلة في المساء.
في هذه المدينة يجري التركيز على مفهوم “التنقل الناعم”، وهو مفهوم يشير إلى أنماط النقل التي تعزز الاستدامة وتقلل من الاعتماد على وسائل النقل التقليدية مثل السيارات، بحيث يُعتمد على استخدام وسائل النقل الخفيفة والمستدامة، مثل: المشي وركوب الدراجات ووسائل النقل العامة. كما تبرز في تصميم المدينة فكرةُ المساحات الهجينة من حيث تجنب خلق مساحات بلا حياة، وتعزيز التفاعل الاجتماعي بين السكان والموظفين والزوار. وهكذا، في نوردهافن، قد يحتوي موقف سيارات متعدد الطوابق على صالة ألعاب رياضية على سطحه. وقد يشمل مبنى سكني مطعمًا عامًا. وقد يضم فندق متجرًا مفاهيميًا. ووفقًا للمهندس المعماري بيتر بور أندرسن، الذي أدّى دورًا حاسمًا في تقسيم منطقة نوردهافن، فإن الاستدامة في نوردهافن تتعلق بأكثر من مجرد تقليل استهلاك الطاقة؛ إذ يجب أن يأخذ كل مبنى يُشيَّد في الاعتبار تأثيره الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. على سبيل المثال، فقد بُنيت إحدى صالات السينما من مواد قابلة لإعادة التدوير مثل الألومنيوم في حالة جرى هدم المبنى في وقت لاحق لأي سبب من الأسباب. كما ترتبط الاستدامة بالحفاظ على الماضي من خلال إعادة استخدام المباني القديمة لأغراض حديثة. فقد جرى تحويل مستودع من عام 1918م، إلى فندق صغير، وما كان مصنعًا للأسلحة إلى سـوبر مـاركت، وأُنشئ مبنى سكني فاخر مكون من 17 طابقًا مع مطعم عام في إحدى صوامع الحبوب مع المحافظة على هيكلها السابق بكل عناصره بما في ذلك سقفها الفولاذي.
ومما لا شك فيه أن مفهوم نوردهافن، بوصفه “مدينة الدقائق الخمس”، فريد من نوعه، وذلك على الرغم من وجود عدد قليل من “مدن الدقائق العشر” قيد التطوير في أنحاء مختلفة من العالم، ومنها واحدة في سيول بكوريا الجنوبية. ولكن يُعدُّ مفهوم نوردهافن المشروع الأكثر طموحًا في مجال التنمية الحضرية، وهو الوحيد على مستوى العالم الذي حصل على شهادة ذهبية للاستدامة من مجلس البناء المستدام الألماني (DGNB)، الذي يُعد أكبر شبكة للبناء المستدام في أوروبا.
وعلى الرغم من أن مشروع نوردهافن لن يكتمل قبل عام 2060م، فإنه يجري تطويره على مراحل، مع مناطق رئيسة مثل نوردو وآرهوسجاد ويكفارتيريت، التي أصبحت مكتملة بالفعل ومليئة بالحياة، يقطنها السكان المحليون ويقصدها السيَّاح. وقد جرى افتتاح امتداد مترو إلى نوردهافن في عام 2020م، وهو ما يوفر سهولة الوصول إلى وسط المدينة.
في أوائل القرن العشرين، عندما قال المصمم الدنماركي الشهير أرن جاكوبسن: “إن العمارة لا تقتصر على إنشاء المباني، بل إنها تتعلق بتشكيل البيئة وتحسين حياة الناس”، كان ذلك مجرد كلام نظري. ولكن بعد مرور قرن من الزمان، فكلُّ من يتجول حول مدينة نوردهافن، قد يجد ما يثبت ما أشار إليه المصمم الدنماركي، عندما يختبر بكل تفاصيل الإقامة فيها، وبحميمية العيش والتفاعل الاجتماعي مع البقال واللحام والموظفين على مختلف المستويات ضمن دائرة جغرافية ضيقة، كيف يمكن أن تكون العمارة، بالفعل، أحد العناصر المهمة لخلق بيئة حضرية أكثر سعادة.
اترك تعليقاً