مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير - فبراير 2023

نوبل الأدب: حفلٌ سنوي في مقهى غربي


لطفية الدليمي

لم تعُدْ جائزة نوبل للآداب التي عرفناها من قبلُ كما كانت، فقد أصبحت نوبل أخرى هجينة وغريبة على ذائقتنا الأدبية وهواجسنا الفلسفية. وبالرغم من أن التغيّر من سمات التطور البشري، إلا أنه ليس كلّ تغيّر ارتقاءً نحو الأعالي المتقدمة نوعيًّا عمّا سبقها. 

لطفية الدليمي

ذهب جيلُ المعلّمين الكبار الذين تشرّفتْ نوبل بأن حفرت أسماءهم على لوائحها. كانوا أساطين أدب على شاكلة هرمان هسّة وغابرييل غارسيا ماركيز ودوريس ليسنغ، وانقلبت الرصانة الأدبية ملاعبةً خفيفةً للأفكار من بعيد تحت قناع أدب ما بعد الحداثة، واستحالت الدسامة الفلسفية حفرًا في تراكمات السيرة الشخصية، التي قد لا تعدو كونها حفنةً من الوقائع العادية التي يمكنُ أن تحصل لكثيرين منّا. أليس هذا توصيفًا دقيقًا لأعمال آني إرنو المتوّجة على عرش نوبل الأدبية للعام 2022م؟ أنا أحسبه كذلك. 

دعونا ننطلق في رحلة فكرية متخيلة. هل كان يمكن لآني إرنو أن تقطف جائزة نوبل الأدبية قبل خمسين أو أربعين أو حتى عشرين عامًا؟ هل تكفي شجاعتها وجرأتها في الكشف عن مناطق شديدة الغور من حياتها الشخصية لأن تحوز نوبل الأدب؟ متغيراتٌ كثيرة لحقت بنوبل وجعلتنا نفقدُ حماستنا السابقة في التطلّع إلى من سيفوز بها كلّ سنة كما كنا نفعلُ في سنوات سابقات. صار أمرُ الجائزة والفائز بها يمرُّ بنا وكأنه إعلان يومي عابر من الإعلانات التسويقية التي صارت تنهمرُ علينا مثل شلالٍ لا يتوقف. 

ربما الخصيصة الوحيدة التي لا تكاد تفارقها جائزة نوبل للآداب هي دورانها في مدارات الثقافة الغربية، قلتُ: الثقافة الغربية ولم أقل الأدب الغربي؛ لأنّ أباطرة نوبل شاؤوا توسيع تخوم مملكة الأدب فضمّوا لها أقاليم من ألوان ثقافية شتى، كانت كتابة أغاني البوب واحدة منها. إنه بعضُ سمات التجديد الذي أرادته نوبل الأدب. 

نوبل الأدبية ونوبل غير الأدبية .. الإشكالية التأسيسية

نوبل غير الأدبية هي جوائز نوبل الممنوحة في حقول الطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد والسلام. هذه “النوابل” غير الأدبية تختلف نوعيًّا عن نوبل الأدبية، ويمكن توضيح طبيعة هذا الاختلاف بحكاية صغيرة. 

حصل قبل بضع سنوات، وبالتحديد عام 2016م، أن أنجِزَتْ انعطافةٌ علمية باكتشاف الموجات الثقالية Gravitational Waves، وهو اكتشاف ذو طبيعة ثورية لارتباطه الجوهري بمفاهيمنا الحاضرة عن نظرية النسبية العامة. وبعدما أعلنت جوائز نوبل للفيزياء ذلك العام لم ترد أسماء الفيزيائيين مكتشفي تلك الموجات في أسماء الفائزين؛ فساد الوجوم واللغط بين الناس العارفين بشأن الفيزياء وخفاياها. وعندما سُئل المسؤولون عن جائزة نوبل في الفيزياء عن السبب قالوا إنّ الاكتشاف جاء قريبًا من موعد إعلان الجائزة، ولم يتسنّ لهم مراجعته والتدقيق في كلّ تفاصيله. بعد عام واحد فحسب، أي عام 2017م، تقاسم الفيزيائيون الثلاثة مكتشفو الموجات الثقالية جائزة نوبل. هذا دليل واحد فحسب على المديات العالية لنزاهة نوبل في غير ميدان الأدب.

إنّ أصل إشكالية نوبل الأدب ليس ذا علاقة بطبيعة التأسيس المفاهيمي لكلّ من العلم والأدب، ذلك التأسيس الذي يوضع في إطار عبارة اختزالية مفادُها “موضوعية العلم وذاتية الأدب”؛ بل يعود أصلُ الإشكالية إلى نمطية مختلّة في نزاهة شبكة العلاقات التي تشكّل البنية البيروقراطية لكلّ من المؤسسة العلمية والأدبية؛ إذ لو أعملنا ذاكرتنا في إحدى جوائز نوبل غير الأدبية عبر السنوات السابقة لرأينا غياب المراهنات ومزادات التصويت للأسماء المرشّحة؛ بل على العكس هناك شبه إجماع على الأسماء الجديرة بالفوز في حقول الطبّ والفيزياء والكيمياء والاقتصاد، باستثناء جائزة السلام التي ستظلّ مَثلبة ووصمة معيبة في تاريخ نوبل. واضحٌ أنّ وراء تسخين مزادات الخيول الأدبية شبكة من دور النشر والعلاقات التجارية المعنية باعتبارات التوزيع وتحقيق أقصى الأرباح المأمولة.

تذهبُ معظم جوائز نوبل غير الأدبية إلى غربيين، مع استثناءات محسوبة في حقلي الاقتصاد والسلام، وهو أمرٌ يمكن تفهّمه وبالتالي تسويغه. صار العلمُ والتقنية مناشط تتطلبُ تخصيصات مالية متضخمة لا تقدرُ على تحمّل أعبائها سِوى الدول الغنية، وهي في معظمها دولٌ غربية؛ لذا لم ترتفع أصواتٌ ترى في جوائز نوبل غير الأدبية انحيازًا للغرب. ذلك واقعُ حال نشهده على الأرض، وما مِن سبيل لنقضه أو تكذيبه أو الالتفاف عليه. 

جائزةٌ ترى مالا نرى

يؤكّد أباطرة نوبل الأدبية أنّ المعيار الأساس في الجائزة هو الجدارة الأدبية. لن أقتنع يومًا، وأحسبُ أن كثيرين يشاركونني قناعتي هذه، أنّ آني إرنو أعلى قيمة أدبية من مارغريت آتوود أو ميلان كونديرا؛ المقارنة غير واردة بأي مقياس من المقاييس. ربما سيقول هؤلاء الأباطرة أنهم يرون غير ما نرى، ولو فعلوا فأحسبهم سيتّكئون على قاعدة الذائقة الذاتية للأدب، وتلك مخاتلة بيّنة لأنّ الميزة الذاتية لا تنفي التميّز الحِرَفي والصنعة المجوّدة في الكتابة. من جانبي أرى، لو أنّ المعايير النوبلية حقيقية، فربما سيكون الروائي والكاتب البنغالي ضياء حيدر رحمن الذي كتب روايته المبهرة (في ضوء ما نعرفه In the Light of What We Know) مستحقًا لنوبل الأدب لو كانت معايير الجدارة الأدبية هي الفاصلة. 

ماذا يعني أن تكون كاتبًا عالميًّا؟

تعني جائزة نوبل في الأدب أنّ حائزها يفي بشروط العالمية؛ أي صار يقاربُ موضوعات ذات اهتمامات عالمية، بدلًا من الانزواء في قعر المحلية الضيقة. هذا أمرٌ له تبعاته الخطيرة، التي يتطرق لها باستفاضة الكتاب المترجم (الرواية العالمية: التناول الروائي للعالم في القرن الحادي والعشرين)، للكاتب الأمريكي آدم كيرش. تتمظهر السطوة الغربية على الأدب العالمي في سطوة الموضوعات المحببة للمؤسسة الأدبية الغربية؛ إذ منذ اللحظة الأولى التي يدركُ فيها الكاتب أنه يخطط لكي يخاطب جمهورًا عالميًّا بدل الجمهور المحلي الذي اعتاده فإنّ طبيعة كتابته ستكون عرضة لتغيير جوهري. ويلحظ المرء بخاصة ميلًا طاغيًا للكتّاب لإزاحة كلّ العوائق المحلية المفترضة التي تقف عائقًا أمام الفهم العالمي. ولطالما تردّدت هذه التهمة الأدبية غالبًا وأشهرت بوجه أعمال الكاتب هاروكي موراكامي، الذي صار يعتمد لغة تبسيطية موغلة في الاستسهال الأدبي على حدّ زعم مجايليه من الكتّاب اليابانيين الآخرين. 

إنّ أيّ منتج أدبي ينال حظوة واحتفاءً من جانب النظام الرأسمالي العالمي لا بدّ أن يتمّ تحييده ومن ثمّ تدجينه من جانب النسق النيوليبرالي المتغول الحاكم في العالم؛ إذ في التحليل الأخير سنعرف أنّ كلّ ناشري الكتب هم في الغالب أذرع صغيرة للتجمعات الرأسمالية العملاقة، وأنّ الاحتفاليات الأدبية التي تحتفي بالأدب العالمي إنما تحصل بفعل التمويل السخي لكبريات الشركات الرأسمالية في العالم. كيف يمكننا أن نتوقع في حالة مثل هذه أن يحظى عمل ذو رؤية أصيلة أو مخالفة للسائد أو خارجة عن السياق العام بمباركة وتعضيد مثل هذه القوى المالية المتغولة؟

بهذا الفهم، وطبقًا لهذه الرؤية، يمكنُ اختصار الأمر بالمعادلة الشرطية التالية: إذا سعيتَ لجائزة نوبل الأدبية يجبُ عليك أن تتناول موضوعات تبدو عالمية الطابع، لكنها تدور في الفضاء الغربي (على شاكلة: الأقليات، التجارب الجنسية الذاتية، التحولات الجندرية، إشكاليات الهوية الذاتية والمجتمعية.. إلخ)، وأن تحظى هذه الكتابات بمباركة وتسويق مؤسسات النشر العملاقة، أما إذا فكّرت خارج هذا الصندوق، فانسَ أمر نوبل، فلا أحد سيهتمّ لأمرك.

نعرفُ العبارة التي تترددُ في أدبيات التنمية المستدامة: “تصرّف محليًا، فكّرْ عالميًّا”. يمكن للمخيال الأدبي البشري توظيف هذه العبارة في تناول معضلات قد تبدو غارقة في محليتها لكنها قد توفّرُ حلولًا ناجعة لمعضلات ينوء بها الغرب. المؤسسة الأدبية الغربية لا تقبلُ هذا الأمر. قانونها الحاكم هو: تصرّفْ محليًّا كما تشاء أنت؛ فكّرْ عالميًّا كما نشاء نحنُ! 

هذه هي الجدارة الأدبية التي يريدون. 

اشتباك السياسة ورأس المال والثقافة

تعدّت نوبل الأدب، بالتحديد، كونها امتيازًا فرديًّا لتصبح إكسسوارًا لازمًا تسعى له الدول لاستكمال مستلزمات هيبتها الجيوسياسية. صارت بعضُ الدول، وخاصة ذات الاقتصادات الصاعدة، ترى في نوبل الأدب موازيًا للقنبلة الذرية. باعتبار أنّ القنبلة الذرية إشارة إلى القدرة العلمية الضاربة، ونوبل الأدب إشارة إلى التسامي الروحي في نطاق الرأسمال الرمزي؛ ولأجل نيل الامتياز الروحي النوبلي توظفُ بعض الدول كلّ قدرة متاحة لها للحصول على نوبل الأدب.

وثمة حكايات في هذا الشأن قد تطعن في نزاهة نوبل الأدب يمكن للقارئ أن يعرف بعضًا منها لو شاء. وسأتركُ الأمر له لكي يتابع هذه التفاصيل بجهوده الشخصية، وسيكون في مستطاعه، لو اعتمد الجدية والمثابرة، قراءة حيثيات مدعومة بشهادات من أفراد ينتمون للإمبراطورية النوبلية.

مقترحٌ لحلّ إشكالية الانحياز الغربي

غالت نوبل الأدبية كثيرًا في الانحياز لفضاء الأدب الغربي والدوران في أفلاكه. قد تكون بعضُ مسوّغات هذا الانحياز مفهومة، مثلما أوضحـتُ في فقرات سابقة، لكنها تظلُّ غير مقبولة وتشكّلُ ثُلْمة في نزاهة الضمير النوبلي.

هل من مخرج لهذه الإشكالية؟ أقترحُ حلًا لهذه الإشكالية وهي أن تعتمد نوبل الأدب إستراتيجية المحاصصة النوبلية الثلاثية إيفاءً بمتطلبات العدالة الجغرافية والتكافؤ بين الجنسين؛ بمعنى أن تتوزّع الجائزة كلّ سنة على ثلاثة أسماء أدبية: واحدة لكاتب، وثانية لكاتبة، وثالثة لكاتب أو كاتبة من الجغرافية الموصوفة بغير الانتماء لعالم الغرب، ممثلًا في حواضره الكوسموبوليتانية، ويمكنُ حصرُ هذه الجغرافية في آسيا وإفريقيا والبحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية حصريًّا. التسويغ لهذا المقترح واضحٌ: لماذا ينفرد اسمٌ واحد كل سنة بهذه الجائزة بدلًا من اسمين أو ثلاثة مثلما يحصل مع نوبل الطب أو الفيزياء أو الكيمياء أو حتى أحيانًا السلام والاقتصاد؟


مقالات ذات صلة

المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.

وقت الاستبدال قد حان، ودورة الحظ التفتت أخيرًا!

طيران
أبي الذي لا يشبهُ الطيورَ
ليسَ يشبهُ الرياحْ
ورغم هذا
طارَ للسماءِ دونما جناحْ!…


0 تعليقات على “نوبل الأدب: حفلٌ سنوي في مقهى غربي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *