قبل الحضارة، كانت حياة الإنسان البدائي تشبه حياة باقي المخلوقات إلى حَدٍّ ما، فإذا سقط وكُسرت عظمة فخذه مثلًا سيواجه احتمالات رهيبة للبقاء على قيد الحياة، فلن يستطيع المشي لجمع الطعام والماء في تلك الظروف الصعبة، وكذلك تقل قدرته على الدفاع عن نفسه أو الهرب من الحيوانات المفترسة. وفي هذا السياق، تقول عالمة الأنثروبولوجيا المؤثرة “مارغريت ميد” (1901م – 1978م): “إن الحضارة بدأت عندما وجد هذا الشخص العاثر من يسعفه”، إذ بيّنت وجهة نظرها في ذلك خلال محاضرة لها، بأن أظهرت عظمة فخذ بشرية من تلك الحقبة، وأشارت إلى منطقة سميكة للغاية، حيث كُسرت العظمة، ثم شُفيت بصعوبة.

نظرة تاريخية

ترافقت القفزة الحضارية التالية مع بداية التطبيب عن بُعد قبل حوالي 2500 عام، وذلك عندما تم “استخدام رسل بشريين لنقل المشورة الطبية والأدوية، باستخدام إشارات الدخان وانعكاس الضوء من أماكن مرتفعة لتوصيل المعلومات الطبية، مثل إشارات تفشي الأوبئة والإخطار بالمواليد أو الوفيات”، وهذا كما جاء في بحث قام به عدد من العلماء، ونشرته مجلة المكتبة الوطنية الأمريكية للطب، في أغسطس 2020م. وقد تعزَّز ذلك لاحقًا بظهور الطباعة والتلغراف والتلفون.

دخل التطبيب عن بُعد مرحلة نوعية بظهور شبكة الإنترنت وانتشارها حول العالم. ولا يزال كثير من الذين عملوا سابقًا في الحقل الطبي يتذكرون المعاناة المرهقة في التفتيش عن مقالة معينة في ما كان يُعرف بـ”إندكس ميديكوس” (Index Medicus)، وهي دورية بحجم ورقيّ ضخم يُفهرس عناوين وموضوعات الأدبيات الطبية. فقد كان الطبيب أو موظف المكتبة، آنذاك، يصرف وقتًا طويلًا ليجد المعلومات التي يريدها، ثم عليه الانتظار أيامًا أخرى كي تصله بالبريد من خارج المركز أو البلد الذي يقيم فيه. أما اليوم فكل المعلومات متوافرة للطبيب وللمريض على حد سواء بواسطة لمسة على جهاز هاتفه الذكي.

من فوائد الجائحة

التطبيب عن بُعد بالمعنى الحديث هو تقديم الخدمات والمعلومات المتعلقة بالصحة عن طريق التقنيات الرقمية، مما يتيح التواصل بين الطبيب والمريض رغم المسافة، فيسهل بذلك تقديم الخدمات العلاجية مثل التشخيص والمتابعة. وهو مزيج من البرامج والأجهزة المستخدمة، مثل المواعيد الافتراضية والوصفات الإلكترونية ونقل الملفات الطبية وغيرها. وقد دفعت جائحة كوفيد 19 العاملين في المجال الطبي إلى تطوير هذه الخدمات الصحية في جميع أنحاء العالم، والارتقاء بها إلى مستويات جديدة، إذ عززت تدابير التباعد الاجتماعي، كما ساعدت المراكز الطبية في إدارة فترات الانتظار الطويلة وتقنين خطر انتشار المرض من خلال تقليل الزيارات الشخصية، والحد من الحاجة إلى الاتصال المباشر بين الأطباء والمرضى. 

أنواعه

وهناك أنواع عديدة من الرعاية الصحية عن بُعد، منها: الزيارات الافتراضية، وهنا تُقدم العيادات الطبية زيارات افتراضية يمكن أن تسمح بالتواصل مع مقدِّم رعاية صحية أو مستشار صحة عقلية أو ممرضة، عبر الفيديو أو الإنترنت أو بواسطة المحادثات الهاتفية، وتسمح هذه الزيارات بالحصول على الرعاية من مقدِّم الخدمة عندما لا يتمكن المستفيد من الحصول على زيارة شخصية.

النوع الثاني من هذه الخدمة هو متابعة الحالة الصحية للمريض عن بُعد، وتقوم هذه الخدمة على عديد من التقنيات الحديثة، إذ تسمح لمزوِّد الخدمة أو فريق الرعاية الصحية بفحص صحة المريض عن بُعد باستعمال تقنيات مثل: تطبيقات مستندة إلى الإنترنت أو تطبيقات محمولة على الهاتف الجوال. على سبيل المثال: إذا كان المريض مصابًا بداء السكري، فيمكنه تحميل سجلات الأطعمة ومستويات السكر في الدم والأدوية التي تقوم الممرضة بفحصها. 

أما من جانب المريض فيمكنه استخدام الأجهزة التي تقيس البيانات وترسلها لاسلكيًا، مثل ضغط الدم وسكر الدم، ومستويات الأكسجين، ومعدل ضربات القلب وغيرها. 

وفي نوع آخر من التطبيب عن بُعد، يمكن توفير تقرير الصحة الشخصية تقنيًا وبسرعة، وهو يحوي التفاصيل الأساسية المهمة للمستجيبين في حالات الطوارئ، مثل التشخيصات والوصفات الطبية، وتفضيلات المواد ومعلومات الاتصال بالطبيب. وقد تم تطوير تطبيقات هذه التقنية لمساعدة العملاء في تنظيم سجلاتهم الطبية بشكل صحيح وفي مكان واحد آمن. 

ومن زاوية أخرى، يستخدم التطبيب عن بُعد أحدث التطورات في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وذلك لمساعدة الأطباء على العمل بشكل أكثر فاعلية، ويمكن تفعيل هذه التقنية من خلال تزويد المرضى بالأجهزة القابلة للارتداء وغيرها من الموارد التي تقوم بتتبع المرضى عن بُعد. 

ريادة سعودية

وقد اهتمت وزارة الصحة السعودية بالتطبيب عن بُعد كجزء من مساعيها الحثيثة في إحراز التقدم الملموس في مجال الصحة الإلكترونية، ويأتي هذا من خلال الإستراتيجية الوطنية للصحة، والتحول نحو المعاملات الإلكترونية تحقيقًا لطموحات رؤية 2030.

من أهم إنجازات الوزارة في هذا المجال، وخلال فترة الجائحة تحديدًا، هو إضافة خدمة طبية سميت “عيادات عن بُعد”، حيث أتاحت للمرضى استشارة الطبيب عبر الإنترنت من خلال تطبيقي “أناة” و”صحتي”. ومن مزايا هذه الخدمة الافتراضية أنها تقدِّم المشورة الطبية والخدمات الصحية للمستفيدين بكل سهولة وفي وقت قياسي، بالإضافة إلى تقليل عدد الزيارات الشخصية، مما ساعد في وقت سابق على إبطاء انتشار مرض كوفيد 19 في المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى. وقد نجحت وزارة الصحة بامتياز في نشر التطبيقات الرقمية الصحية المتنقلة، والرعاية الصحية عن بُعد، والعيادات والروبوتات الافتراضية، وغير ذلك من مثله في هذا المجال.

المركز الوطني للمعلومات الصحية

من جانب آخر، يُعدُّ المركز الوطني للمعلومات الصحية مركز اتصال رئيسًا لتوفير وتنظيم وتبادل المعلومات الصحية آليًّا بين أجهزة القطاعات الصحية كافة. وهذا المركز السعودي هو عضو في الجمعية الدولية للتطبيب عن بُعد والصحة الإلكترونية (ISfTeH)، ويرتبط بالمجلس الصحي السعودي، ويتصل بشبكة آلية للمعلومات الصحية مع وزارة الصحة وغيرها من الأجهزة الحكومية ذات العلاقة.

وقد أطلق المركز مبادرة الشبكة السعودية للطب الاتصالي؛ لربط مرافق الرعاية الصحية المتخصصة مع مراكز الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات في المناطق النائية بأنظمة الطب الاتصالي. وتعزز هذه المبادرة كفاءة خدمات الرعاية الصحية، كما تقدِّمها بجودة عالية وتكلفة فعّالة، بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو حجم المنشأة. 

علاوة على ذلك، أطلقت الهيئة السعودية للتخصصات الصحية (SCFHS) مؤخرًا برنامجًا للتدريب على التطبيب عن بُعد، وذلك بهدف التواصل مع المريض والاتصال به لهذا الغرض، والبرنامج مفتوح لجميع الممارسين الصحيين الذين يحصلون على ثلاث ساعات من التدريب على أدوات علاج المرضى عن بُعد باستخدام التكنولوجيا الرقمية.

التطبيب عن بُعد وموسم الحج

أدت خدمات التطبيب عن بُعد في المملكة العربية السعودية دورها في ضمان موسم صحي للحج، حيث نجح الأطباء في الرياض في علاج الحجاج في مكة المكرمة عن طريق  مستشفى “صحة الافتراضي”، ونتج عن  ذلك تشخيص أربع حالات سكتة دماغية، وإجراء تحليل أشعة سينية لست حالات، كما تم إنقاذ حياة أحد الحجاج الذين يحتاجون إلى رعاية حرجة عن بُعد. رُبطت الخدمات الطبية التي يقدِّمها مستشفى “صحة الافتراضي” بمستشفيات المشاعر المقدسة في مِنى وعرفات ومزدلفة تحت إشراف فريق من الاستشاريين العاملين على مدار الساعة، وكان ذلك ضمن ثلاثة أقسام رئيسة: الأشعة الافتراضية، والسكتة الدماغية الافتراضية، والعناية المركزة الافتراضية، وهكذا قدَّمت الأقسام الدعم لـ 13 مستشفى تعمل داخل الحرم الشريف.

حدود تقدُّمه   

رغم تسارع وتيرة تطور التطبيب عن بُعد واندفاعها القوي وأهميتها، إلا أن هذا النوع من الطبابة له حدود، وثمة تساؤلات تواجهه بصفته وسيلة طبية: فهل واجهت هذه الوسيلة صعوبات العمل بكفاءة؟ وهل تجاوزت تحديات الظروف العامة بجدارة؟ وهل يوجد ما سوف يعيق تطورها وتقدمها؟ وماذا عن استمراريتها؟ وكيف سيكون حال حاضرها ومستقبلها في ضوء التطورات التقنية المتسارعة؟

تتمثل القيود الأكثر أهمية ووضوحًا في التطبيب عن بُعد بمجموعة من العناصر يتقدمها الافتقار إلى تقييم العلامات الحيوية، مثل الإحصاءات عن ضغط الدم وحرارة الجسم وغيرها، والفحوصات الجسدية المحدودة. ومن تلك القيود كذلك أنها منصة قائمة على الإنترنت في المقام الأول، وبالتالي سيكون من الصعب على الناس في البلدان النامية استخدام التطبيب عن بُعد، لا سيما حين تنخفض إمكانية وجودة الوصول إلى الإنترنت.

ومن زاوية أخرى، فإن نسبة كبيرة من المرضى المسنين منقطعون عن الإنترنت ولا يستطيعون استخدام التقنيات الحديثة بشكل صحيح. كما تُعد خصوصية البيانات وأمنها تحديًا آخر للتطبيب عن بُعد. ورغم أن التطورات في الطب سهلت استخدام التكنولوجيا، إلا أن انقطاع الجهاز عن الشبكة قد يحدث من وقت إلى آخر، فضلًا عن التكاليف الإضافية لتقنيات الاتصال، والتي تشكِّل عبئًا على المستفيدين خاصةً أولئك الذين يسكنون في المناطق النائية أو النامية.

من خلال التجربة السابقة في الولايات المتحدة الأمريكية لوحظ أن التكنولوجيا، وعبر معظم التخصصات، يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التفاوت في الوصول للسكان المعرَّضين للخطر، بما في ذلك الأقليات العرقية والإثنية، وغير الناطقين باللغة الإنجليزية، وكبار السن، وذوي الدخل المنخفض، وغيرهم. جاء هذا في مجلة “هارفارد بيزنس ريفيو” 20 نوفمبر 2020م. ومن الملاحظات كذلك معاناة الأطباء من إجهاد العمل عبر الفيديو، وأيام العمل الطويلة، وتآكل الحدود بين العمل والحياة، إذ تمثل هذه تحديات للرفاهية في مهنة تعاني بالفعل من معدلات عالية من الإرهاق.

في الممارسات السابقة ظهرت مشكلات كثيرة فيما يخص سداد تكاليف التطبيب، وأن مستقبل التطبيب عن بُعد واستدامته يعتمد على قدرة المستفيد على سداد هذه التكاليف. 

وفي السياق نفسه، فإن أمن البيانات قد يشكِّل قلقًا كبيرًا لكثير من مستخدمي التطبيب عن بُعد في دولة ذات ثقافة محافظة، مثل المملكة العربية السعودية. فقد لا يشعر الناس، وخاصة النساء، بالراحة في مشاركة تاريخهم الطبي أو إظهار أجسادهم من خلال الكاميرات، وقد يمتنعون عن إرسال صور تظهر آفاتهم أو أمراضهم للسبب نفسه، مما يعيق مستقبل التطبيب عن بُعد في البلاد.

إن آخر التحديات والقيود وأعظمها هو إقبال المجال الطبي على “الطب الشخصي” أو الطب الدقيق أو ما يسمى أحيانًا بالطب الطبقي في المستقبل القريب، وهذا التخصص الطبي الحديث هو أنموذج يقسم الناس إلى مجموعات مختلفة من حيث القرارات والممارسات والتدخلات أو المنتجات الطبية المصممة خصيصًا للمريض استنادًا إلى الاستجابة المتوقعة أو خطر الإصابة بالمرض.

رغم كل ذلك، ورغم حداثة عهده، سَجّل التطبيب عن بعد نجاحات عديدة، كما واجه معوقات كثيرة كما ذُكر سابقًا، لكنه استمر بعد جائحة كوفيد 19، ولو بوتيرة بطيئة. ومن المتوقع أن يستمر على هذا النمط مع الاستفادة من الأخطاء ومحاولة تجنبها. ويؤكد النموذج السعودي الرائد إمكانية تخطي معظم هذه العقبات بتدخل الدولة ودعمها وإدارتها الفعالة.