مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

نباتات ذاتية التسميد

العلماء يقتربون من تحقيق الحُلم

أمجد قاسم


قبل العصر الزراعي، كانت النباتات تنمو ثم تموت، فتعود المُغذِّيات التي جعلتها تنمو، وأهمها النيتروجين، إلى التربة لتنموَ أخرى من جديد. لكن الزراعة عطَّلت هذه الدورة؛ لأن البشر، والحيوانات التي بدؤوا بتدجينها، أصبحوا يأكلون هذه النباتات؛ فافتقرت التربة المزروعة إلى المُغذِّيات.

وللتعويض عن هذا النيتروجين المفقود، راح البشر، آنذاك، يُضيفون إلى التربة روث الحيوانات والطيور، الذي يحتوي على النيتروجين المستهلك من النبـات. وظلَّت هذه الطريقة صالحة لإنتاج الغذاء بالكميات المطلوبة حتى ظهور عصر الزراعة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر. إذ لم يتعدَّ عدد سكان الكرة الأرضية، حينذاك، المليار نسمة، وكانت الأراضي الجديدة الصالحة للزراعة متوفرة للتوسع.

بيْدَ أن دخول الآلات الزراعية إلى الحقول وتوسُّع الإنتاج الزراعي، ترافق مع تضاعف عدد السكان خلال القرن التاسع عشر، وهو ما اضطر المزارعين إلى استيراد النيتروجين من مصدره الطبيعي شبه الوحيد في تشيلي.

لكن في عام 1898م، ألقى رئيس الجمعية البريطانية لتقدم العلوم ويليام كروكس، خطابًا افتتاحيًا أثار موجة من القلق: “تواجه إنجلترا وجميع الدول المتحضرة خطرًا مميتًا لعدم الحصول على ما يكفي من الطعام. إن تربتنا المنتجة للقمح غير متكافئة على الإطلاق مع الضغط الواقع عليها”. وأشار إلى أن رواسب نترات الصوديوم في تشيلي، وهي المصدر الرئيس للنيتروجين القابل للاستخدام في النباتات، سوف تنفد قريبًا. وعرض بعض الحلول العلمية للحصول على مصادر غير مستغلَّة للنيتروجين، بما في ذلك تقطير الفحم والصرف الصحي. ولكن لم يكن أي منها على مستوى المهمة، وفق ما ذكرت صحيفة “نيويوركر” في 6 فبراير 2024م.

عملية هابر – بوش أو إنتاج الأمونيا

لم يمضِ وقت طويل حتى ابتكر الكيميائيان الألمانيان “هابر” و “بوش”، طريقة لتحويل غاز النيتروجين الموجود في الهواء إلى سماد زراعي، باستخدام ما أصبح يُعرف باسم عملية “هابر – بوش” التي ذاع صيتها في ألمانيا في تلك الفترة بالقول إن العلماء “يصنعون الخبز من الهواء”. وقد شكَّلت هذه العملية بالفعل ما يُعرف بـ “التحوُّل التكنولوجي” الذي غيَّر وجه العالم. إذ يُنتج العالم اليوم، بموجب هذه العملية حوالي 120 مليون طن من الأسمدة الزراعية سنويًا. وهذه الكمية هي المسؤولة إلى حد بعيد عن إطعام سكان العالم؛ لأن “نحو 50% من النيتروجين الموجود في الأنسجة البشرية اليوم، نشأ من عملية “هابر – بوش”، وفقًا لمجلة “أكسفورد ساينتست” في 1 يونيو 2020م.

ازدياد السكان مقابل ازدياد

استهلاك الأسمدة

1- معدل النمو السكاني 1.06% في السنة.

2- معدل النمو في استهلاك الأسمدة 1.43% في السنة.

في الواقع، إن عملية “هابر – بوش” بسيطة جدًا، فهي ترتكز على استخدام محفز لكسر الروابط القوية بين ذرات النيتروجين N2 في الهواء من خلال ضغط كبير، وجعلها ترتبط بذرات هيـدروجين بدلًا من ذلك؛ لتصبح أمونيا NH3، التي هي السماد. لكن من أين جاء النيتروجين قبل هذه العملية؟

النيتروجين ومصادره الطبيعية

يُعدُّ النيتروجين من العناصر الكيميائية الأساسية لكل أشكال الحياة، من النباتات إلى الإنسان. وهو يدخل في بناء البروتينات التي تتكوَّن من أحماض أمينية. وهذه البروتينات ضرورية لبناء الأنسجة العضلية والإنزيمات التي تسرِّع التفاعلات الكيميائية الأساسية، والهرمونات التي تنظِّم كثيرًا من الوظائف الحيوية في الجسم والأجسام المضادة. كما يدخل في تركيب الحمضين النوويين DNA وRNA اللذين يحملان المعلومات الوراثية للكائنات الحية.

وغاز النيتروجين من أكثر الغازات وفرة في الغلاف الجوي بنسبة تصل إلى 78% منه. لكنه موجود على شكل اتحاد ذرتي نيتروجين N2 برابط قوي جدًا، لا تستطيع خلايانا وخلايا النباتات فصلهما للاستفادة منها. الكائن الوحيد الذي استطاع ذلك، قبل “عملية هابر – بوش”، هو بعض البكتيريا التي تعيش في جذور البقوليات؛ إذ تثبت هذا العنصر في التربة بواسطة نوع من الأنزيمات بإمكانه تحويل النيتروجين N2 بعد تفكيكه إلى أمونيا NH3 الذي يستطيع النبات الاستفادة منه من خلال علاقة تكافلية مع هذه البكتيريا.

أمَّا المصدر الثاني، فهو ومضات البرق التي تعمل على تثبيت جزء من غاز النيتروجين الجوي في التربة. فالطاقة الهائلة الناتجة من البرق تحوِّل النيتروجين والأكسجين إلى أكاسيد النيتروجين، الذي يتفاعل مع الماء في الغلاف الجوي لتكوين حمض النيتريك HNO3. ويصل هذا الحمض إلى التربة مع الأمطار، وهناك يتفكك إلى أيونات هيدروجين وأيونات نترات تمتصها جذور النباتات وتحوِّلها إلى أمونيوم.

علاقة تكافلية بين نبات وبكتيريا

تعود العلاقة التكافلية بين بعض النباتات وبعض البكتيريا في التربة إلى نحو 100 مليون سنة، بحسب موقع مجلة “EOS” في يونيو 2024م. تبدأ هذه العلاقة عندما تواجه بكتيريا “الريزوبيوم”، (وجمعها الريزوبيا)، جذور البقوليات في التربة، عندئذٍ تدعو النباتات تلك البكتيريا لتستوطن عُقدًا توفرها لها على الجذور. وتتكاثر البكتيريا فيها وتحميها، لتنشأ علاقة تعايش تزوِّد النباتات بموجبها البكتيريا بالطاقة المتولدة من التمثيل الضوئي. وفي المقابل، تحصل النباتات على النيتروجين الذي أنتجته البكتيريا، والذي يُعدُّ عنصرًا مفيدًا لها.

ومن النباتات التي تُقيم هذه العلاقة البقوليات، كالفاصولياء والبازلاء والعدس والفول، وكذلك البرسيم الحجازي. وهي ليست مقتصرة على تلك النباتات، بل تبيَّن أن بعض النباتات البرية لا تزال تستخدم هذه العلاقة البدائية التكافلية للحصول على حاجتها من العناصر الغذائية الأساسية اللازمة لنموها وازدهارها، وهو ما يُعرف بـ”التخصيب الذاتي”.

لكن ما أحدثه الإنسان خلال ممارساته الزراعية واستخدامه للأسمدة النيتروجينية، أدى إلى تقويض هذه العلاقة التكافلية التي امتدت إلى آلاف السنوات، وهو ما أدى إلى تراجع تلك الصفات وجعلها خاملة أو غير مستغلة في نظام الزراعة في العالم. ومن ثَمَّ، جعلت المحاصيل الزراعية كالحبوب كسولة، ففقدت مع الوقت تلك العلاقة التكافلية التي استفادت منها البقوليات.

أبحاث واعدة

يسعى العلماء حاليًا إلى فهم كيفية تفاعل النباتات مع الكائنات الحية الدقيقة في التربة والقادرة على تثبيت النيتروجين الجوي في جذور تلك النباتات؛ وذلك لإعادة تنشيط تلك العلاقة التكافلية ونقل تلك الصفة إلى بعض المحاصيل الزراعية الأخرى، مثل القمح والذرة والأرز، بهدف زيادة الإنتاج العالمي من الغذاء، وتعزيز تلك الصفة لدى البقوليات لتكون أكثر كفاءة في إنتاج النيتروجين، فتنمو بشكل أفضل، كما جاء في موقع “ذا كونفرسيشن” (The conversation) في أكتوبر 2023م.

من جانب آخر، فإن فهم تلك العلاقة بين النباتات والكائنات الحية سيكون له دور في التغلُّب على بعض الأمراض النباتية؛ لأن كثيرًا من الجينات المشاركة في العلاقة بين البكتيريا والنباتات ضرورية أيضًا لتطوُّر الأمراض البكتيرية.

وتكشف الأبحاث الحديثة، ومنها الأبحاث التي أُجريت في جامعة “بريغهام يونغ”، عن الآلية الخلوية التي تستخدمها النباتات للحصول على حاجتها من العناصر الغذائية المهمة من البكتيريا، في عملية تُعرف بـ”التخصيب الذاتي للنباتات”. إذ تبيَّن أن مسار محاصيل الحبوب الجيني القديم هو نفسه الذي تملكه البقوليات حاليًا، ويمكّنها من التفاعل مع البكتيريا المثبتة للنيتروجين. وعلى ذلك، فإن الأبحاث التي تُجرى الآن تشير إلى أنه من الممكن نقل خصائص تثبيت النيتروجين الفريدة في البقوليات إلى محاصيل نباتية أخرى.

فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أُجريت تجارب عديدة في المختبرات العلمية لفهم كيفية تفاعل النباتات مع الكائنات الحية الدقيقة المفيدة لتحفيز محاصيل الحبوب على التفاعل بشكل فعال مع البكتيريا المفيدة، في ظروف تشابه بيئة الحقل الذي يحتوي كميات كبيرة من الأسمدة. ومن ثَمَّ، البدء في إعادة تفعيل آلية تثبيت النيتروجين التي نراها في البقوليات. وهذا يتطلب من الباحثين تدريب تلك النباتات وتحفيزها على التعرُّف على الكائنات الحية الدقيقة المفيدة، وهو ما يُعرف بـ”تطوير الوظيفة البيولوجية”.

وفي هذا الصدد، تبيّن الدراسات أن جميع النباتات لديها الآلية الأساسية الموجودة لدى البقوليات التي تستطيع الاستفادة من البكتيريا لتثبيت النيتروجين في جذورها. وما يسعى إليه الباحثون، الآن، هو تحفيز بعض المحاصيل الزراعية وتطويرها، وخصوصًا القمح والأرز وغيرهما؛ للاستفادة من تلك البكتيريا النافعة، ومن ثَمَّ، تسميد نفسها ذاتيًا بالنيتروجين من دون مساعدة الإنسان الذي يزوِّدها في العادة بالأسمدة النيتروجينية.

اكتشاف رائد في علم الأحياء البحرية

من أين جاء النيتروجين إلى البحار؟ كيف حصلت النباتات البحرية على النيتروجين الذي احتاجت إليه لتنمو تحت الماء؟ لم يستطع العلماء، على الرغم من الأبحاث العديدة منذ فترة طويلة، الإجابة عن هذه الأسئلة. وظهرت افتراضات كثيرة تبيَّن حديثًا أنها غير صحيحة. فقد اكتشف باحثون من معهد ماكس بلانك لعلم الأحياء الدقيقة البحرية، ومعهد ألفريد فيجنر، وجامعة فيينا، أن بكتيريا الريزوبيا، المذكورة آنفًا، هي المسؤولة عن تكوين شراكات مماثلة مع نباتات بحرية صغيرة تُسمَّى “الدياتومات”. هذه النتيجة المفصلة التي توصلت إليها هذه المؤسسات الثلاث، والتي نُشرت في مجلة “نيتشر” في 9 مايو 2024م، لا تحلُّ اللغز فحسب، بل تقدِّم أيضًا رؤى يمكن أن تؤدي إلى تقنيات زراعية ثورية، أهمها نباتات ذاتية التسميد.

بعد أن توصَّل هؤلاء العلماء، أخيرًا، إلى هوية مُثبِّت النيتروجين المفقود، ركَّزوا اهتمامهم على معرفة كيفية عيش البكتيريا والدياتوم في شراكة. فعرفوا، باستخدام تقنية تُسمَّى “nanoSIMS”، أن بكتيريا الريزوبيا تتبادل النيتروجين المثبَّت مع الدياتوم مقابل الكربون. وقال وِبكي موهر، أحد العلماء المشاركين في البحث: “من أجل دعم نمو الدياتوم، تقوم البكتيريا بتثبيت النيتروجين بمقدار 100 مرة أكثر مما تحتاج إليه لنفسها”، فتستفيد منه النباتات البحرية.

“بعد فهم العلاقة التكافلية بين بعض أنواع البكتيريا والنباتات، هل بتنا على مشارف عصر زراعي يُسمّد فيه النبات نفسه بنفسه؟”

أهمية هذه الأبحاث

تكتسب هذه الأبحاث أهمية حيوية في ضوء الجوانب السلبية التي بدأت تظهر للأسمدة المنتجة بواسطة عملية “هابر – بوش”. ومن أهم هذه الجوانب أن مركبات النيتروجين، مثل أكسيد النيتروز، إمَّا أن تتدفق مع مياه الأمطار من الأراضي الزراعية إلى الأنهار والبحار، فتعزّز نمو بعض الطحالب التي تحجب أزهارها ضوء الشمس بالقرب من السطح، وتقتل الأسماك الموجودة بالأسفل، فتصبح تلك مناطق ميتة. وإمَّا أن تغور في الأرض وتلوّث المياه الجوفية الصالحة للشرب. من ناحية أخرى، فقد أدى انتشار الجائحة في السنوات الماضية، والحرب في أوكرانيا، والتضخم، إلى ارتفاع أسعار الأسمدة بأكثر من الضعف في البلدان المستوردة، وهو ما أدى إلى انتشار الجوع في دول عدة من العالم الثالث.


مقالات ذات صلة

غالبًا ما نتصوّر أن الدماغ يؤثر في الجسد كالسائق بالسيارة، لكن الأبحاث الحديثة كشفت أن التأثر والتوجيه يحدث من الجانبين. فالجسد، من خلال نشاطاته الحسية والحركية، يؤثر بالدماغ أيضًا. 

تشير فرضيات عدة إلى أن السفر إلى الماضي أو المستقبل ممكن باستخدام طرق مختلفة؛ لكن جميعها واجهت ما يُعرف بـ “مفارقة الجَدِّ”؛ فإذا تمكن المرء من السفر عبر الزمن في الماضي وقتل جدَّه، فكيف سيكون موجودًا ليؤثر في الزمن الماضي؟

“الخيول هي من غيَّر التاريخ”، لكن الغموض كان يلف كثيرًا من فصول تاريخ الخيل. وفي هذا المقال نُجيب عن الأسئلة الصعبة التي كانت تُطرح بشأنه.


0 تعليقات على “نباتات ذاتية التسميد”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *