جاءت فكرة إنشاء متحف باسم الفنان التشكيلي ناصر الدين دينيه، الفرنسي الأصل، بإلهام وصيته بعد وفاته بتاريخ 24 ديسمبر 1929م في العاصمة الفرنسية باريس، عن عمر ناهز 68 عامًا. ففي السنة التي دُفنَ فيها بمدينة بوسعادة (260 كلم جنوب الجزائر العاصمة)، فكّر أهله في فرنسا، وأصدقاؤه في الجزائر، في طريقة للحفاظ على ذكراه وأعماله. غير أن إنشاء المتحف مرّ بمراحل عديدة إبّان الحقبة الاستعمارية، ولم يتجسّد المشروع في الجزائر المستقلة إلّا سنة 1993م، في حين تأجّل نشاطه بعد العمل التخريبي الذي أصابه سنة 1995م، إلى غاية السنوات الأولى من الألفية.
تُعدُّ الرسالة المكتوبة بخطّ يد الفنان الحاج ناصر الدين دينيه، في مارس من العام 1915م على ورقة فندق “الواحة” بالجزائر العاصمة، إلى صديقه ورفيق دربهِ سليمان بن إبراهيم باعامر (1871-1953م)، بمثابة الوصية المُلِحّة بالعودة ولو في شكلِ قبرٍ وهمي إلى مدينة بوسعادة، أو كما سمّاها “جنته على الأرض” والتي عاش فيها سنوات طويلة من حياته، وخلّدها عبر لوحات تتفجر بالألوان والضوء، وقد أصبح له بيت وحظوة بين أهاليها في أحد أعرق الأحياء الشعبية وهو “حي الموامين”.
الرسالة الوصية
بلغةٍ هي مزيجٌ من الفصحى والعامية المفهومة، وبخطّ متعلّم مبتدئ، كتب دينيه رسالته التي لم تخل من التشطيبات وبقع الحبر، مؤكدًا فيها رغبته في احتضان تراب مدينة بوسعادة لذكراه ولو على شكل قبر وهمي توضع فيه قطعة من ثيابه، إن حدث وتوفّي في فرنسا وتعذّر على مقرَّبيه إحضار جثمانه إلى الجزائر. توجه بالرسالة، قليلة الكلمات عميقة المشاعر، إلى صديقه الذي يصفه بالابن العزيز والمحب قائلًا: “إلى محبّنا وأعز الناس عندنا وليدنا سليمان ابن إبراهيم”، راجيًا منه أن يسعى إلى دفنه مسلمًا موحدًا، وبجنازة تؤكد إيمانه وصدقه في اعتناقه الإسلام، حيث تتكرر كلمة “فريستي” في الرسالة ويقصد بها “جثمانه”، وإصراره على أن يحمل القبر اسمه فكتب له: “تبني لي قبرًا… تكتبُ على شاهدته أني مسلم صادق”. وهذه لم تكن الأمنية المعلنة في الرسالة فحسب، بل جزءًا من وصيته لورثته، أو كما جاء في بداية الرسالة: “إذا أصابني الموت، لقد كتبت في كتيبة أو وصية وراثتي… أن يردوا جثماني إلى بوسعادة”، أي أن تكون تكاليف نقل الجثمان من تركته. وفعلًا دُفن الفنان في “واحته” الأثيرة على مشارف الصحراء، في ضريح بمقبرة “الدشرة القبلية” بجوار قبر رفيق دربِه باعامر الذي لم يفارقه حيًا وميتًا.
يُحكى أن دينيه تعرّض لاعتداء في عام 1889م، فتدخل لإنقاذه سليمان بن إبراهيم (أصله من بني ميظزاب)، وكان ضحية طعنات بالخنجر بسبب دفاعه عن صديقه الفنان، لتولد بينهما صداقةٌ امتدت على مدارِ أربعين عامًا، تعدَّدت أوجهها بين الحياة الاجتماعية والمعتقد والسفر والتأليف.
ليلى بوعزة : للمتحف أدوار
متعددة يسعى من خاللها
إلى التجذر في محيطه
الثقافي وتفعيل دوره
الحضاري .. وذلك بالعمل على
تكثيف األنشطة واأليام
والمعارض الفنية، واالنفتاح
على المحيط الخارجي.
مواقف
تُظهر الصوَر الأرشيفية في “المتحف الوطني العمومي ناصر الدين دينيه”، الجنازة المهيبة التي حضرها جمع غفير من الناس والأصدقاء، وأعيان مدينة الجزائر العاصمة وشيوخ الطرق والزوايا، والسُلطات الإدارية الاستعمارية، في مقبرة “الدشرة القبلية” ببوسعادة يوم 12 يناير 1930م. كما تُظهر إحدى الصور خروج جثمان الفنان من مسجد باريس يوم وفاته في 24 ديسمبر 1929م، بحضور أفراد من عائلته وأصدقائه وشخصيات فنية مرموقة آنذاك. فالفنان لم يقطع صلته بوطنه الأم، فمنذ استقراره في بوسعادة عام 1905م كان في الغالب يوزع السنة بين الرسم في ورشته بوادي بوسعادة، وجولاته شتاءً عبر المعارض الفنية في فرنسا، في صالون جمعية الفنون الجميلة، وقاعة جمعية الرسامين المستشرقين الفرنسيين.
من بين الحضور كان الشيخ الطيب العقبي، عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأحد روَّاد الإصلاح في الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية، الذي ألقى كلمة تأبينية تحدث فيها عن خصال الفنان الحاج ناصر الدين دينيه، ومدى اهتمامه بالدراسات والقضايا الإسلامية. كما قال عنه الحاكم الإداري للجزائر العاصمة بيير بورديس: “إن اعتناق دينيه الإسلام لم يمس شيئًا من إيمانه الوطني، وفي الوقت الذي ظل فيه، حتى وإن غيَّر اسمه إلى (ناصر الدين) الصديق الكبير للإسلام، فإنه سيبقى ابنًا لفرنسا”.
آراء مختلفة
الباحث في الأرشيف الصحفي، والمتصفح للكتب التي تعرَّضت لسيرة الفنان دينيه وحياته، باللغتين العربية والفرنسية، سيجد نوعًا من المد والجزر في المواقف التي تحشر الفنان في خانة معينة. والحقائق، في كثير من الأحيان، تضيع بين التمجيد المحض، والاتهام بتزوير الحقائق البصرية لحياة الناس، فالغموض والتناقض لا يزال يلفّ الكثير من الجوانب في حياة هذا “الصوّار الرومي”، أي الرسّام الفرنسي، كما كان يلقبه أهل مدينة بوسعادة، وهو اللقب العامي الذي كان يتبناه دينيـه دون حرجٍ، حيث نراه يوقِّع به رسالته التي تحدث فيها عن وصية الدفن، كاتبًا: “من أبيك ديني الصوّار”.
هناك من يَعُدُّ ألفونس إتيان دينيه (اسمه الأصلي) فنانًا مستشرقًا لا يختلف عن بقية المستشرقين في النظر إلى السكان الأصليين للمناطق التي زارها من بسكرة إلى غرداية والأغواط، قبل أن يستقر في بوسعادة، وأنه رسم لوحات تزيّف تاريخ وحالة المنطقة التعيسة، تنوَّعت بين لوحات النساء والسعادة الزائفة، كما أنها لا تعكس معاناة السكان في تلك الحقبة الزمنية تحت ويل الاستعمار والفقر والمجاعة والأمراض والجفاف، بل تسهم في تكريس “كليشيه” استعماري عن النساء بصفة مبتذلة، خاصة في المرحلة التي سبقت إسلامه.
رمز تاريخي
تيّارٌ آخر من المنتصرين لناصر الدين دينيه يرى أنه رمزٌ تاريخي لمدينة تمثل سحرها في لوحاته، ورسمَ سكانها وأزقتها وحاراتها وأسطحها، وتآلف مع “أبطالِ” لوحاته، ولبس لباسهم، ومارس عاداتهم اليومية، وصولًا إلى إسلامه ومواقفه المدافعة عن الدين وعن الجزائريين، وليس انتهاءً بكتبه، وحجه إلى بيت الله الحرام، وانطباعاته الصريحة والواضحة الناجمة عن تحوله الروحي وانغماسه أكثر في المدينة التي حولته من “ألفونس إتيان” إلى ناصر الدين. وعلى الرغم من الاعتراف بمواهبه النادرة، إلا أن كثيرًا من النقاد والمتابعين الفرنسيين خصوصًا لم يتقبلوا اعتناقه للإسلام، وما تركه من مؤلفات شاركه فيها سليمان بن إبراهيم، منها: كتاب “حياة محمد”، و”لوحات الحياة العربية”، و”خضراء، راقصة أولاد نائل”، وآخر كتبه “الحج إلى بيت الله الحرام” الذي صدر بعد وفاته. ومما كتب حول تلك الرحلة: “هذه الرحلة تركت في نفسي انطباعات لم أشعر بما هو أسمى منها في كل حياتي. فلا أحد في العالم يمكنه أن يعطي فكرة عما شاهدته من جوانب هذه العقيدة الوحدانية من حيث المساواة والأخوة بين حوالي 250 ألفًا من الناس من مختلف الأجناس كانوا مزدحمين الواحد بجانب الآخر في صحراء موحشة”.
استعادة بعد تخريب
بمساحة لا تتعدى 570 مترًا مربعًا، يُعدُّ “المتحف الوطني العمومي ناصر الدين دينيه”، أصغر متاحف الجزائر، وهو يضم بيت الفنان الواقع وسط المباني السكنية للأهالي. لكن الباحثة الأنثروبولوجية والكاتبة بركاهم فرحاتي، أصيلة بوسعادة ومديرة سابقة للمتحف، تحدثت في أكثر من مناسبة عن الصعوبات التي واجهتها أثناء التفكير في تحويل بيت الفنان دينيه إلى متحف، وذلك لتشتت كثير من أعماله وضياعها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواد الأرشيفية والمقتنيات التي توثّق سيرة الفنان. ففي وقت سابق اضطر صديقه ووريثه سليمان بن إبراهيم، إلى بيع مكتبته بسبب الحاجة، وتوزعت لوحاته بين مقتنيات خاصة وبين عدد من المتاحف العربية والأجنبية.
في سنوات العشرية السوداء للجزائر، وفي صائفة 1995م، أدى العمل التخريبي الذي طال المتحف ونشب على إثره حريق، إلى تلف بعض الأغراض الشخصية للفنان، ونجت لوحاته التي كانت معروضة في الصالة الرئيسة، لتُنقل إلى المتحف الوطني للفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، وهناك أعمال في متاحف جزائرية أخرى كمتحف سيرتا بقسنطينة، ومتحف أحمد زبانة بوهران.
استعاد المتحف لاحقًا عددًا من الأعمال الأصلية، وهي معروضة للجمهور الآن وعددها 12 لوحة من الألوان الزيتية والمائية، بالإضافة إلى بعض الرسائل والشهادات والأوسمة ونسخ من مؤلّفات الفنان، لكن يظل ذلك قليلًا جدًا، حسب آراء المختصين، بالنظر إلى الأعمال التي تركها دينيه والتي تتجاوز 500 عمل فني، منها 139 لوحة خصَّ بها بوسعادة.
البيت.. المتحف
يتكوّن بيت الفنان، الذي بنيَ بمواد محلية على طراز البيوت العربية، من طابقينِ يشكلان رواقينِ طويلين بالأقواس. وزُيِّنت الجدران بقطع الزليج بزخرفة إسلامية، مع إضاءة طبيعية تعكسها الشبابيك المطلة على الشارع. يجمع الطابقينِ درجٌ خشبي، وأوّل ما يقابل الزائر حين يصعد إلى الطابق العلوي، بيت من الشِّعر مكتوبٌ بالخط المغربي:
فارحل فأرض الله واسعة الفضا
طولًا وعرضًا شرقها والمغربُ
كذلك يتكوَّن المتحف المبني بجوار بيت الفنان من طابقين، يضمّ أولهما قاعة عرض خاصة بالفن التشكيلي الحديث، وتُعرض بها لوحات لأهم الفنانين التشكيليين في الجزائر، مثل محمد إسياخم، ومحمد خدة، وعائشة حداد، وفنانين آخرين، وهي القاعة المخصصة لإقامة المعارض الموسمية والندوات والمحاضرات ومختلف النشاطات الثقافية، بالإضافة إلى مكتبة عامة، وورشة أعمال فنية خاصة بالأطفال، ومختبر الترميم والحفظ الخاص بالأعمال الفنية. أمّا الطابق العلوي فتوجد به إلى جانب الجناح الإداري، قاعةُ عرض دائمة خاصة بأعمال دينيه الأصلية وبعض أغراضه الشخصية.
بيت الفنان
في حديثها للقافلة، كشفت المديرة الحالية للمتحف السيدة ليلى بوعزة أهداف المتحف إذ قالت: “للمتحف أدوار متعدِّدة يسعى من خلالها إلى التجذر في محيطه الثقافي وتفعيل دوره الحضاري رغم حداثة عهده مقارنة بمتاحف أقدم، وذلك بالعمل على تكثيف الأنشطة الثقافية والأيام والمعارض الفنية والانفتاح على المحيط الخارجي، بهدف منح الفرصة للفنانين التشكيليين لعرض أعمالهم في معارض جماعية وفردية، وكذا اكتشاف المواهب الشابة من خلال ورشات الأطفال الفنية والمكتبة متنوِّعة العناوين، تنمية للذوق الفني والأدبي وكذلك ربط العلاقة بين الماضي والحاضر”. وعلى الرغم من كل المصاعب والاختلافات، يظلُّ متحف الفنان ناصر الدين دينيه معلمًا ثقافيًا وسياحيًا له أن يقوم كما تضيف المتحدثة: “بدور سياحي واقتصادي مهم باستقطابه للزوار المحليين والأجانب”، فالزائر للمدينة العريقة، بإرثها الفني والثقافي المتنوِّع على مدى التاريخ، يتذكر مقولة الفنان عن ساحرته: “إذا كانت الجنة في السماء فهي فوق بوسعادة، وإذا كانت على الأرض فستكون بوسعادة نفسها”.
اترك تعليقاً