مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

نادي الكتاب الصامت


بدأت الفكرة عام 2012م، عندما كانت الصديقتان جينيفير دي لا ماري ولورا جلوهانيتش، جالستين في أحد المقاهي في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية، تقرأ كل واحدة منهما كتابًا مختلفًا؛ إذ كانت عادتهما التنقل بين مقاهي المدينة ومطاعمها بحثًا عن ملاذ خارج البيت ومتطلبات الأعمال المنزلية المتواصلة، للهدوء والاستمتاع بالقراءة. وبينما كانتا غارقتين في عوالم غير مرئية تنقلهما إليها صفحات الكتب، وفيما كانتا مستمتعتين بالصمت “الودود”، الذي كان يلف الجو حولهما، خطرت لهما فكرة جديدة، وهي تطوير اجتماعهما الثنائي هذا إلى نادي كتاب موسع، ودعوة المزيد من الأشخاص للانضمام إليهما. وهكذا، ولدت فكرة “نادي الكتاب الصامت”، الذي هو نادي كتاب من نوع آخر يختلف عن نوادي الكتب التقليدية؛ لأنه لا يتطلب من الأعضاء قراءة كتب معينة، ولا يُحدد لقراءتها فترة زمنية معينة، ولا يتضمن نقاشات إلزامية، ولا أسئلة مُحضَّرة، وما عدا التحية الأولى، لا يفرض أي تفاعل اجتماعي، سوى ما يريد الأشخاص الانخراط فيه من تلقاء أنفسهم. فكل ما هو مطلوب من الأشخاص، هو الحضور بصحبة رواية محببة أو مجموعة شعرية أو أي كتاب آخر، للالتقاء في مكان مريح من اختيارهم، سواء كان في أحد المطاعم أو المقاهي أو المكتبات العامة أو حتى عبر الإنترنت؛ للقراءة معًا وعقد نوع من التواصل الهادئ من خلال تقدير الكتب وقوة القراءة. 

هكذا كانت فرضية “نادي الكتاب الصامت” بسيـطة ومبتكرة في آنٍ، بحيث يجتمع المشاركون في مكان محدد، وكلٌّ واحد منهم مسلّح بكتاب قد عزم على قراءته. وبعد مقدمة قصيرة وتعارف سريع، يسود الهدوء التام المكان، في حين يتعمق الحاضرون في عوالمهم الأدبية. وهناك فترات متقطعة من الراحة للسماح بالمحادثات الاختيارية وتبادل توصيات الكتب، وتعزيز الشعور بالصداقة بين الحضور.    

ما بدأ بفكرة بسيطة بين صديقتين، سرعان ما اكتسب جاذبية أكبر، ولقي صداه لدى الأشخاص الذين يبحثون عن ملجأ من متطلبات الحياة الحديثة التي لا تنتهي. وبوجه خاص، فقد لعبت فكرة “نادي الكتاب الصامت” على وتر حسّاس لدى الأشخاص الانطوائيين الذين يقدّرون الأجواء الاجتماعية الهادئة في مساحات مريحة، من دون ضغط المحادثات المستمرة، وكذلك لدى كل شخص يتوق إلى الابتعاد عن الإلهاءات المتواصلة للمحفزات الرقمية. كما أن جاذبيتها تجاوزت العمر والجنس والخلفية الاجتماعية، ولاقت صدى لدى مجموعة متنوعة من المشاركين الذين يجمعهم حبُّهم للأدب. 

ولأجل كل ذلك، اكتسب “نادي الكتاب الصامت” زخمًا قويًا، فانتشر خارج حدود سان فرانسيسكو، ليتجذر في مدن عديدة من العالم. ففي 2024م، أصبح يضم أكثر من 950 فرعًا لما تُسمِّيه دي لا ماري “ساعة الانطوائيين السعيدة”، وامتد من نيويورك إلى لندن، ومن باكستان إلى هونغ كونغ. وأخيرًا، أبوظبي وجورجيا. لقد تبنَّى عشاق الكتب هذا المفهوم، وقاموا بتنظيم تجمعاتهم الخاصة وتكييفها لتناسب مجتمعاتهم المحلية، في الوقت الذي احتفظ فيه كل فرع بالمبادئ الأساسية للقراءة الصامتة التي تتخللها لحظات من الألفة، وغرس ذوقه الفريد، وهو ما عكس النسيج الثقافي للبيئة المحيطة به. 

من الجدير ذكره، أن ظهور “نادي الكتاب الصامت” تزامن مع تحول ثقافي أوسع نحو التركيز الذهني والانفصال عن العالم الرقمي. ففي عصر أصبح فيه التواصل المستمر هو القاعدة، كان لتخصيص وقت معين للتأمل الهادئ صدى عميق لدى الكثيرين. كما كان بمنزلة الترياق الذي تشتد الحاجة إليه؛ للتغلب على الشعور السائد بالعزلة، الذي تفاقم بسبب التفاعلات الافتراضية، وهذا ما يوفر شعورًا ملموسًا بالانتماء داخل مساحة مادية مشتركة. 

وفي عالم محموم بشكل متزايد، يقف “نادي الكتاب الصامت” شاهدًا على قوة الأدب الدائمة لتعزيز التواصل والتأمل والصداقة الحميمة. وما بدأ كتجمع متواضع بين صديقتين، قد ازدهر ليصبح ظاهرة عالمية، حيث يُقدِّم العزاء للقرَّاء الذين يبحثون عن ملجأ في صفحات الكتب والرفقة في الصمت المشترك مع زملائهم محبي الكتب. 


مقالات ذات صلة

هل إذا كانت المرأة المثقفة جميلة في الوقت نفسه، تبقى بالدرجة الأولى جميلة، ومن ثَمَّ مثقفة؟ وأي عقبة يمثلِّها جمال المرأة فيما لو قرَّرت أن تُصبح كاتبة أو شاعرة أو روائية؟

المدينة المنورة أوَّلَ مدينة صديقة للتوحُّد في الشرق الأوسط والرابعة عالميًا، هدفها توفير بيئة داعمة للأفراد المصابين باضطراب طيف التوحُّد (ASD)، وتعزيز شمولية المدينة وإمكانية الوصول إليها للأفراد المصابين بالتوحُّد وأسرهم.

لسلطة السرعة سليبات عديدة، ليست أقلها أن تصبح حياتنا سطحية، فعندما نتسرع لا ندرك إلا ظاهر الأمور، ونفشل في إقامة اتصالات حقيقية مع العالم.


0 تعليقات على “نادي الكتاب الصامت ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *