مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير - فبراير 2023

اكتشافات يجمعها فرح أرخميدس


حسن الربيح

اكتشافات يجمعها فرح أرخميدس

يبني كتاب (مهاكاة ذي الرُّمة) لحيدر العبدالله مجموعة قناطر تحاول البحث عن وشائج متشابهة في فن الهايكو في صيغته اليابانية وفي تناثره في الشعر العربي، بدءًا من قنطرة الترجمة والتعريب في مفردة الهايكو ونقلها عبر اشتقاقات وتصريفات على الطريقة العربية، وانطلاقًا من بركة باشو إلى عين ذي الرُّمة (عين أثال) في تأمل الطبيعة، والمشي على قنطرة الإيقاع في تقارب بين التفعيلة العربية والإيقاع التنفسي بخطوات راقصة رقصًا مفردًا ومزدوجًا، وبأنفاس هايكيَّة قليلة مزدوجة، وصولًا لهكاة العرب في العصر الحديث، وانتهاء بدفتر المهاكاة الذي يمثل اقتراحًا خالصًا لاستعادة ذي الرُّمَّة عبر الهايكو.

حسن الربيح

الكتاب فتح بابًا واسعًا على التراث الشعري العربي، وتحديدًا على ذي الرُّمَّة عبر قراءة تأويلية توصلت إلى أن الهايكو بتأملاته في الطبيعة وبملامحه الصوفية كان حاضرًا وبقوة في قصائد ذي الرُّمة.

هذا الفتح يُعدُّ محاولة جديدة في تطبيق منهج الهايكو – إن صحت التسمية – على الشعر العربي القديم، وبالتالي فإن أهمية الكتاب تأتي من هذا الجانب؛ لأن هذه الطريقة ستعيد النظر في تلقينا للشعر العربي القديم، وأن القصيدة العربية قابلة لأن تُقرأ عبر فنون أخرى، ومن ثم الخروج بنتائج لم تكن معروفة من قبل، وتلك هي الإضافة التي يقدمها الكتاب، الذي يفتح الباب لدراسات أخرى تتعالق أو تختلف معه.

إن المؤلف ممن يستهويه التجريب والفرادة على المستوى الشعري، وكونه شاعرًا يجعل حضور الحس الشعري طاغيًا في بحثه، ومن الواضح جدًا ذوبان روح المؤلف قبل قلمه في تناوله للموضوع، بدءًا من تأنقه في اختيار العناوين، وجنوحه باللغة حد الشعر (ضجيج ممرع، زجاجة الإيقاع.. إلخ)، وتفاعله في تأليف نصوص شعرية على طريقة الهايكو. كل ذلك وغيره مما لم نذكره يؤكد الدخول إلى البحث بطاقة متجددة، واكتشافات مبعثرة يجمعها فرح (أرخميدس)، الذي صرخ: وجدتها وجدتها.

وإذا أردنا أن نصنف الكتاب فهو ضمن الأدب المقارَن، إلا أنه لم يكتفِ بالمقارنة، بل أسهم بجملة من المقترحات، سواء في استثمار الإيقاع العربي أو استثمار القرائن الموسمية من خلال علم الأنواء العربي.

لا يمكننا الوقوف على كل ما طرحه الكتاب بالتفصيل، ولكن من الممكن مناقشة أهم الأفكار الواردة فيه والتي تعبّر عن جوهر الكتاب، ولا أشك أننا بهذه المناقشة نُسهم، ولو بالشيء اليسير في هذه الأطروحة الغنية التي قضى المؤلف جل وقته وتفكيره في إخراجها لنا بهذه الصيغة. 

البداية

الهايكو يقوم على التأمل في الطبيعة بروح صوفية شديدة الذوبان في الأشياء، وبحسب الكتاب هو “نص شعري متصوف، يربط الطبيعة بالإنسان ويقال في نفس واحد”، على أن الهايكو هو تطور عن الرينغا الذي اختُزل فيما بعد، وتم الاكتفاء منه بالمطلع فقط. إذًا، هو جزء من قصيدة طويلة، فهل من الممكن اختزال القصيدة العربية والاكتفاء ببيت أو مجموعة كلمات محددة؟

هذا ما يجعل من فكرة “عولمة الهايكو”، التي يطرحها المؤلف فكرة مقبولة على غرار عولمة الفنون الأخرى كالفن التشكيلي والموسيقى؛ فالفنون لها ملامح روحية مشتركة، فهي تُقرَأ بالروح، والهايكو له القابلية لأن يكون عالميًّا.

وجَّه المؤلف اللوم للشعراء العرب والخليجيين تحديدًا لتباطئهم في الانضمام إلى نادي الهايكو العالمي، فهو يتوقع أن الهايكو ديوان العالم على غرار أن الشعر ديوان العرب، وعليه لا بد من إسهام الشاعر العربي في قراءته وتذوقه وكتابته، وهذا الإسهام أو التجريب الكتابي أفضل اختبار لصدق التجربة الإنسانية وشجاعتها.

لكن لا يعني ذلك أن نرجع سبب غيابه في الشعر العربي الحديث إلى الكتابة في أمور خارجة عن الطبيعة الشعرية كالثرثرة والنرجسية العربية والاكتفاء الذاتي التي رمى بها المؤلف الشعراء العرب. إن المسألة لها ارتباط وثيق بالتجربة الشخصية لكل شاعر، وبطبيعة القصيدة العربية في بنائها ومغامراتها، فكما للهايكو ضوابط تنبغي له، فللقصيدة العربية كذلك، كما أن سر الكتابة الشعرية يكمن في مقولة بليث، حسب اقتباس المؤلف: “إن ما يجعل باشو واحدًا من أعظم شعراء العالم هو حقيقة أنه كان يعيش الشعر الذي يكتبه، ويكتب الشعر الذي يعيشه”؛ فالشعر ليس مغامرة ومحاكاة من غير أن نعيش التجربة.

إمكانية المقارنة والفوارق المهملة

بين لقطة (باشو) للبركة والصورة الشعرية للضفدع في قصيدة ذي الرُّمَّة بدأت المقارنة. لن أستعرض وجوه التشابه فهي مذكورة في الكتاب، وسأكتفي بالوقوف على الفوارق التي أهملها المؤلف.  

يقول باشو: 

بركة قديمة

ضفدع ينط

صوت الماء

ويقول ذو الرُّمَّة:

عينًا مطحلبةَ الأرجاء طاميةً

فيها الضفادعُ، والحيتان، تصطخبُ

نص باشو بكلماته الست نص قائم بذاته، بينما بيت ذي الرُّمَّة جزء من قصيدة وصلت إلى 126 بيتًا، وهذا البيت لم يكن مستقلًا بذاته، بل جاء ضمن مشهد كامل طويل، خلاصته تتمثَّل في وصف الفحل وهو يحدو الحمر في معمعان الصيف وهي تسير في الحزون قاصدة (عين أُثال) وقد وصلت مع انصداع عمود الصبح، والصياد يترصدها على العين من جانب آخر ويسدد رميته فيخطئ، فتتفرَّق الحمر هربًا في سرعة (أجدل) في لقطات متصلة وصلت إلى 35 بيتًا تقريبًا.

والسؤال هنا: كيف لنا أن نحمِّل بيتًا غير منفصل عن بناء قصيدة كاملة مفهومًا هاكيًّا ونقاربه بنص مكتفٍ بذاته؟ بمعنى هل يصح أن نقتطع من قصيدة ذات طابع استطرادي لقطة منها، ونحكم بأن الشعرية اليابانية متمثلة في باشو تأثرت بذي الرُّمَّة مثلًا؟

أو نقول بأننا نستعين بذي الرُّمَّة على استيعاب الهايكو أو بالهايكو على استيعاب ذي الرُّمَّة؟

هنا لا بد من الأخذ في الحسبان بالطبيعة الشعرية في معالجة موضوعاتها، ففي الشعر العربي القديم لا نكاد نقع على شاعر متوجّه في كتابته على قصيدة البيت الواحد؛ إذ إن معظم القصائد العربية مطولات وإن جاءت صغيرة فهي تتراوح في حدود 7 أبيات أو أكثر بقليل، وهذا لا يمثل جسد الهايكو الناحل. 

مع ملاحظة أن عين ذي الرُّمَّة ليست راكدة كما هو الحال في بركة باشو، فهي “يستلها جدول” أي ينزع ماءها نهر صغير يذهب به بعيدًا، فنحن بين شاعرين: واحد يحب التأمل في صوت الماء بعد ركوده، والآخر يتأمل في اصطخابه المستمر.

إضافة إلى أن باشو كان قاصدًا لكتابة الهايكو بينما ذو الرُّمَّة لم يكن يداخله هذا التوجُّه.

لماذا ذو الرُّمَّة؟

ولنا أن ننتقل إلى سؤال آخر: هل التقاطة ذي الرُّمَّة (77هـ – 117هـ، 696م إلى 735م) هذه هي الأولى في الشعر العربي؟ وهل كان ذو الرُّمَّة سبَّاقًا لمشهد الماء والضفادع؟

بمسح موجز للمتن الشعري السابق والمعاصر لذي الرمة سنقع على صور أخرى مشابهة سبقت ما جاء في شعره، فمثلًا هناك ضفادع عنترة بن شدَّاد (525م – 608م) إذ يقول في وصف معركته:

وصغارُها مثلُ الدَّبى، وكبارُها

مثلُ الضَّفادِع في غديرٍ مُقحَمِ

ويقول في صورة أخرى:

يَدعونَ عَنتَرَ، والدُّروعُ كأنَّها

حَدَقُ الضَفادِعِ في غَديرٍ أدهَمِ

وكذلك هناك ضفادع الأخطل (19هـ  – 92هـ) حينما يقول:

تَنِقُّ بلا شيءٍ شُيوخُ مُحاربٍ

وما خلتُها كانت تريشُ، ولا تبري

ضَفادعُ في ظَلماءِ لَيلٍ تجاوَبَت

فدَلَّ عَلَيهـا صَـوتُها حيّةَ البَحرِ

من هنا نسأل: لماذا ذو الرمة وليس شاعرًا آخر؟

وبشكل عام فإن ملامح الشعر البدوي والاستغراق في الطبيعة الصحراوية نلمسه لدى شعراء سبقوه، وبالتالي أقترح بأن يتوجَّه البحث لشعر البداوة والطبيعة بدلًا من الوقوف على شاعر واحد وإقصاء أشباهه، ولا شك أن النتائج ستأخذ مدى أوسع وستكون الأحكام أقرب إلى الموضوعية.

قنطرة الإيقاع

في فصل (زجاجة الإيقاع) و(دفتر المهاكاة) يقدِّم المؤلف اقتراحًا كتابيًّا للهايكو العربي بتفعيلاته العشر المركبة من أسباب وأوتاد متمثلة في البحور الستة عشر المعروفة، حيث كتب المؤلف 100 هايكو متنوعة البحور.

الفكرة هي استيعاب الإيقاع التنفسي المكون من 17 مقطعًا صوتـيًّا إجمالًا، وتفصيلًا يقوم كل مقطع على حرف متحرك وحرف مد ساكن (/ه) (سبب خفيف) كما في اصطلاح العروض العربي، أو الصوت المزدوج كما عند الغرب، حيث يُمارس الإيقاع التنفسي على طريقة الزن، بحسب إشارة المؤلف.

الدخول في هذا الإيقاع الصوتي المتفِق (في السبب الخفيف) يُعدُّ اجتهادًا تأسيسًا للانطلاق من أرضية الإيقاع المشترك، وتطبيق هذه الفكرة بأن تكتب على العروض العربي فيها إحياء لبحور مهجورة أو شبه ميتة.

إلا أن فكرة الاستيعاب نفسها أخذت بالمؤلف لأن يكتب على جميع البحور الشعرية مضطرًا لأن يبتر بعضها إيقاعيًّا لتنسجم مع الإيقاع التنفسي. وبما أن المسألة اقتراح وتسهيل الكتابة، ربما كان عليه أن يكتفي بما يسمح للاقتراح أن يكون يسيرًا؛ فينتشر، كأن يختار البحور القائمة على التفعيلة المفردة كما في الكامل والرمل والرجز والهزج والمتقارب والمتدارك، ولا بأس أن يضيف إليها البحور التي استوعبت الهايكو بجسدها كاملًا كما في المجتث والمقتضب والمضارع، بحيث تنتهي فكرة النص مع انتهاء الإيقاع نفسه، لا أن يظل الإيقاع مبتورًا كما يحدث في البحور المزدوجة حين يطبق عليها الإيقاع التنفسي؛ فالطويل والبسيط والخفيف والمديد على سبيل المثال، حين يتم الاكتفاء منها بشطر وتفعيلة أو بشطر وتفعيلتين، فإن هذا البتر الإيقاعي، لا البتر الدلالي، سيكون مربكًا للسامع بسبب ازدواج التفعيلتين وعدم توازنهما عدديًّا. وقد يجد القارئ صعوبة في التعرف على الإيقاع المزدوج لولا أن يكتب المؤلف توضيحًا فوق النص (طويل أو مديد.. إلخ) كما فعل في المئة هايكو التي نظمها.

وهذا يعيدنا للجدل القديم حينما ظهرت التفعيلة وكتب مجموعة من الشعراء قصائد على التفعيلات المزدوجة، إلا أن هذا التجريب لم يستمر طويلًا، وأثبتت التفعيلات المفردة استمراريتها وفاعليتها الانسيابية، ويبدو أن انسجام الأذن العربية مع الإيقاع المزدوج في شعر التفعيلة غير مألوف.

إذًا، فالبحور المفردة أو التفعيلة المتكررة هي الأقرب والأكثر انسجامًا مع الهايكو إيقاعيًّا، والبتر الإيقاعي الذي ينتج من إدخال البحور المزدوجة في الهايكو يسبب تشتيتًا، وربما يشغل القارئ عن التأمل في النص بسبب قطع أو انتقال مفاجئ. أما البتر الدلالي فأتفق مع المؤلف أنه يشرك المتلقي في الكتابة ويدعوه إلى إتمام النص بنفسه، لكن البتر الإيقاعي لا يحقق هذا الهدف.

إلا أن هناك اقتراحًا آخر أكثر تسهيلًا من الإيقاع العربي بشروطه الكثيرة، ألا وهو الكتابة نثريًّا خارج الإيقاع العربي أو كما أسماه المؤلف (الهايكو المرسل). هذا الاقتراح فيه الكثير من التوسع والمرونة لدى المؤلف في أن يلتفت إلى قصيدة النثر في استيعابها لجسد الهايكو دلاليًّا، فلا يغدو النص مترهّلًا أو مقيَّدًا بجملة من التركيبات التي يفرضها الإيقاع العروضي، وبالتالي فالمؤلف لديه من الموضوعية والجدية في طرح ما يقترحه كتابيًّا ضمن ما هو متاح في الكتابة الشعرية العربية الحديثة، إلا أن شرط القرينة الموسمية الذي يقترحه المؤلف يجعل من كتابة الهايكو أمرًا مستصعبًا يتطلَّب معرفة تفاصيل التقويم العربي واستثماره في الشعر.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على ““مُهاكاةُ ذي الرُمَّة“..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *