مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

قول في مقال

مَن يخاف مَن؟


د. سماهر الضامن

طافت جولة تيلور سويفت Eras، في العام الماضي، أكثر من 150 مدينة، وحققت أرقامًا قياسية تاريخية من ناحية عدد الحضور، ومبيعات التذاكر، والأرباح الإجمالية التي قدّرت بحوالي عشرة مليارات دولار. سمّيت تلك الظاهرة بتأثير سويفت آنذاك؛ إذ انتعش اقتصاد المدن التي مرت بها تلك الجولة الغنائية بسبب الجماهير الغفيرة التي كانت تتوافد لحضور الحفلات من خارج المدن الكبيرة. نشرت وكالات ومواقع أخبار عدة أنه جرى رصد هزة أرضية بقوة 2.3 على مقياس ريختر في سياتل بعد حفلة سويفت، بسبب رقص الجماهير وقفزهم على مدرجات الملعب الرياضي الذي أقيمت فيه الحفلة.       

لكن هذه الإحصاءات والضجة التي أثيرت حول الجولة، لم تؤثر على ما يبدو في رأي النخبة من “السميعة”؛ الطبقة التي تشعر بضرورة التعامل بحذر مع النماذج الاستهلاكية والأيقونات الجماهيرية، ولا تسمح لتلك النماذج بالتأثير على خياراتها الجمالية. فهناك فئة لا يُستهان بها من عشاق الفنون المستقلة ومبدعي الظلال والآندرقرواند، الذين لا يرون في سويفت وأخواتها إلا مجرد أيقونات استهلاكية؛ على الرغم من الاعتراف بموهبة سويفت بشكل شخصي.

على أن “قطّاع الطرق”، الذين تحدث عنهم الدكتور عبدالله العقيبي في مقاله من العدد 703 (مارس-أبريل 2024م)، يواجهون اليوم تحديات من نوع مختلف، ولا سيما في مجال صناعة الفنون والموسيقى، وهي تحديات غيّرت الديناميكية التقليدية في علاقات الإنتاج والجماهيرية في عصر طوفان الاستهلاك المتعطش للجديد و “الترندي”. فالحكم اليوم هو الجمهور المتفاعل مع الخوارزميات والشبكات الإلكترونية، والنجم هو من تقرر الجماهير ذلك بشأنه. ويبدو أن الخوارزميات تساهم اليوم في صناعة النجوم، أكثر من شركات الإنتاج والمؤسسات التقليدية التي كانت تدير الصناعة وتتحكم في شروطها.

لا يدور التنافس الآن بين نجم يقطع الطريق وبين مَن يعيشون في ظله حتى ينقشع، بل مع الخوارزميات التي غدت العامل المفصلي في عمليات الإبدال والإحلال.

هذا، إن تجاهلنا مسألة الاستهلاك والنجومية التي تنظر إليها فئة كبيرة من المثقفين وعشاق الفنون بوصفها قنوات ابتذال وتمييع للفرادة. فما إن يبزغ نجم في قوائم الأكثر استماعًا والأكثر مبيعًا والأكثر مشاهدة ونجومية، وما إن تبيع تذاكر حفلاته أكثر وتتهافت عليه الجماهير أكثر؛ حتى تنصرف عنه ذائقة “النخبة”، ويخرج من قوائم الباحثين عن الفريد والمنتقى والنادر.

تزهو هالة المثقفين النخبويين كلما ضاقت الفقاعة حولهم، وثمة متعة خاصة في كون ذوقك الموسيقي متفردًا، لا يميل إلى ما تميل إليه الجماهير، ولا يتأثر بما تمليه السوق وشركات الإنتاج الكبرى المهيمنة على الصناعة. ولذا، تنشط في مراكز الصناعات الثقافية والفنية، وبالقدر نفسه، ثقافة “الآندرقراوند”، التي تمثّلها الجماعات والفرق الموسيقية الخفية التي تتحرك في مناطق الظلال، وتعمل بدأب على تطوير نماذجها وتوجهاتها الخاصة بعيدًا عن سطوع الأضواء واشتراطات السوق وما يطلبه المستهلكون. فكثير من الفرق التي أصبح جمهورها اليوم بالملايين في عواصم صناعة الموسيقى العالمية، مثل بنك فلويد (Pink Floyd) ولِد زبلن (Led Zeppelin)، كانت قد بدأت من “الآندرقراوند”، وكوّنت قاعدتها الجماهيرية من مجموعات صغيرة من الجمهور المتعطش للفرادة والندرة ودهشة الجديد وطزاجته.

هناك شعور بالامتياز والتفوق في اكتشاف الجديد، في إخبار أصدقائك ومن يشاركونك الاهتمامات بأنك “اكتشفت” فرقة أو أغنية لم يعرفوها بعد؛ امتياز أن تكون أنت من يدلهم عليها، وأنها فوق ذلك كله عمل لم تصله مشارط الاستهلاك ولم يتأثر بعد بمزاج الجماهير والترندات. بل إن هناك أسفًا غريبًا يصيب هذه النخبة من المستمعين أحيانًا حين ينتقل المبدعون الذين شغفوا في فترة ما بفرادتهم وطزاجتهم إلى مساحة النجومية والجماهيرية. لا شك أن السوق سيعيد تشكيلهم ويشذب عنفهم ووحشيتهم، فهم يمثلون البري والنيئ، في حين ستطبخهم مراكز صناعة الاستهلاك وتحولهم إلى منتجات مثالية وفقًا لقيم الإنتاج والاستهلاك. أتذكر جيدًا شعور الاشمئزاز الذي باغتني حين سمعت أغنيتي المفضلة لفرقة تيم إمبالا (tame Impala)، في أحد إعلانات “سناب شات”. كان الإعلان مبتذلًا، وفقدت الأغنية جزءًا من روحها وتفردها ونشازها المحبب. تخيلت ما سيحدث لو أصبحت الأغنية ترندًا على التيك توك، أو لو كثر استخدامها في مثل هذه الحملات الإعلانية غير المرخصة.. يا للذعر!

على صعيد آخر، يُدرك النجوم اليوم ما يواجههم من تحديات الترند الذي أضحى وسيلة الاستبدال الطاحنة. ولذلك، قدّم بعضهم أعمالًا مشتركة مع فنانين أقل شهرة (وليس أقل مهارة بالضرورة)؛ ليكسب الطرفان جمهورًا جديدًا وزخمًا في أعلى قوائم الاستماع والمشاهدة، وهو ما فعلته سيلينا قوميز مع ريما في أغنية calm down، وبرونو مارس مع آندرسن باك. لم يكن باك يتمتع بنجومية مارس أو شهرته الطاغية حين ظهر المغنيان في دويتو أغنية “سأترك الباب مفتوحًا”، وسرعان ما أطلق الثنائي، الذي أطلق عليه فيما بعد اسم “سيلك سونيك” (Silk Sonic)، عدة أغانٍ صدرت لاحقًا في ألبوم مشترك لتتربع أغانيهما على أعلى قوائم بيلبورد للتصنيف الموسيقي. لا شك أن شهرة مارس وجماهيريته كانت عاملًا كبيرًا في ذلك النجاح، لكن براعة باك والكاريزما العالية التي يتمتع بها، لفتت انتباه النقاد والكتاب الذين أكدوا في العديد من المقالات أن آندرسون باك ليس الحلقة الأضعف في هذا الثنائي، على الرغم من جماهيرية مارس. فلا ظل مارس حجب باك، ولا ضعف نجومية باك قبل هذا التعاون حكم عليه بأن يبقى في نادي “الآندرقراوند”.


مقالات ذات صلة

الثقافة تعارفٌ وتثاقف، وحوار وتواصل وتآلف؛ إنها نوافذ مشرعة وأبواب مفتوحة، وطرق تُمهّد وجسور تُبنى. بتلك النية بدأت القافلة..

عبدالله الحواس، رئيس مكتبة إثراء، يكتب عن أهمية القراءة والكتب في حياتنا، ودور مسابقة “أقرأ” في التشجيع على جعل القراءة أسلوبًا للحياة.

كما تقول هيلين كيلر، نحن نسافر لنشعر بأننا أحياء، ونكتشف أنفسنا في المجهول، بينما يعلمنا السفر التواضع ويُثري تجاربنا الإنسانية..


0 تعليقات على “مَن يخاف مَن؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *