تزخر بيئات البشر المبنية بالكثير من مجموعات الكائنات الحية الدقيقة التي تجاور مضيفيها من البشر وغيرهم. ومع تصاعد التحضر واكتظاظ السكان وانتشار الأوبئة، بات استكشاف تفاعل ميكروبيوم البيئة المبنية مع الميكروبيوم البشري والصحة أمرًا حيويًا بشكل متزايد. إذ يؤدي هذا التفاعل دورًا محوريًا، ليس فقط في مكافحة الأمراض المعدية وتعزيز التنمية المناعية الصحية، بل أيضًا في تطوُّر وظيفة المدينة وشكلها منذ نشوء أول حيِّز حضري في التاريخ وحتى اليوم. لذا، تُسلِّط التطورات الأخيرة في أبحاث الميكروبيوم الضوء على الحاجة إلى مناهج مبتكرة في إنشاء مساحات معيشية جديدة تُعزِّز الجانب الصحي والمناعي في الميكروبيوم وتقلل من الجوانب الممرِضة.
يعجُّ جسم الإنسان بتريليونات الميكروبات، من فيروسات وبكتيريا وفطريات وغيرها، ويفوق عدد خلاياها خلايا الجسم نفسه. كما تستضيف الهياكل المبنية بيئات معقدة من هذه الكائنات الحية الدقيقة التي تتفاعل معها. ومع أن دراسة الميكروبات تعود إلى أواخر القرن السابع عشر، فإن دراسة الميكروبيوم الذي هو تفاعل هذه الميكروبات كمجموعات مع البيئة التي تعيش فيها، تُعد حقلًا علميًا حديثًا. وبدأت الأبحاث الجديدة تكشف عن تبعات تاريخية مهمة لهذا التفاعل بين هاتين البيئتين، ليس فقط على الصحة، بل على الاجتماع البشري أيضًا.
تجدر الإشارة في البداية إلى أنه ليس صحيحًا ربط الميكروبات بالأمراض فقط، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن؛ إذ إنها تؤدي أيضًا دورًا حيويًا في بقائنا وازدهارنا عبر علاقة تـكافلية معقدة، بدءًا من إنتاج الأكسجين إلى المساعدة في الهضم. وقد وصفت مجلة القافلة (مايو – يونيو، 2019) هذه العلاقة بدقة: “يُطلق على العلاقة التي تحكم التفاعل طويل الأمد بين كائنين حيَّين مختلفين اسم التكافل. عندما تكون هذه العلاقة التكافلية مفيدةً لكليهما، تُعرف باسم التبادلية. وعندما تكون مفيدة لواحد منهما، بينما يكون المضيف غير متأثر، تُعرف بالمعايشة. أخيرًا، يمكن أن تكون العلاقة مفيدةً لواحد، ولكنها ضارةٌ للمضيف، فتسمَّى عند ذلك علاقةً طفيلية؛ وهذه الأخيرة هي العلاقة في حالة المرض”.
ميكروبيوم الصيادين وجامعي الثمار
حتى وقت قريب، كانت أبحاث الميكروبيوم تركِّز على الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الحضرية الحديثة. لكن هذه البيئة كانت عرضة لتدخلات تكنولوجية حديثة على حياة البشر، مثل الإفراط في النظافة، واستهلاك الأطعمة المكررة مثل السكر الأبيض والخبز الأبيض وما إلى ذلك، واستخدام المضادات الحيوية، وجميعها لها تأثير كبير بمرور الوقت على الدور الوظيفي للميكروبيوم في المجتمعات الصناعية. وقد أدت هذه الجوانب من أسلوب الحياة إلى إلغاء كثير من الوظائف التكافلية الأصلية للميكروبيوم التي كانت تُسهم في تثبيت أجسامنا ضد الكائنات الحية الدقيقة الغريبة.
اليوم، مع التحول في أبحاث الميكروبيوم نحو مقارنته بالمجتمعات السابقة على العصر الصناعي، وعلى ما قبل الزراعة، بدأ العلماء توًّا فهم كيفية تطوره على مدار حياتنا بوصفه نظامًا بيئيًا ديناميكيًا يساعد في تيسير صحة الإنسان، وكذلك في إعادة تشكيل بيئته السكنية.
في هذا السياق، جاء في دراسة مقارنة، وهي الأولى من نوعها، أجراها فريق من الباحثين من معهد ماكس بلانك الألماني، وبحثت تسلسل الحمض النووي لميكروبات الأمعاء من بعض أعضاء شعب هادزا، الذين لا يزالون يعيشون حياة الصيد وجمع الثمار في شمال تنزانيا، وقارنتها بتلك الموجودة لدى أشخاص في نيبال الزراعية وكاليفورنيا المجتمع الحديث. ووجدت الدراسة، التي نُشرت في مجلة “نيتشر” (Nature) في 23 يونيو 2023م، أن شعب هادزا يميل إلى وجود مزيد من الكائنات الحية الدقيقة في الأمعاء مقارنة بالأشخاص في المجموعات الأخرى، وأكدت أن نمط الحياة الغربي يقلل من تنوع مجموعات الأمعاء.
كان لدى شعب هادزا في المتوسط 730 نوعًا من ميكروبات الأمعاء لكل شخص، في حين احتوى متوسط ميكروبيوم الأمعاء في كاليفورنيا على 277 نوعًا فقط. وجاءت ميكروبات الأمعاء النيبالية في المنتصف؛ أي أن الأشخاص الذين يعيشون نمط حياة قائمًا على الزراعة لديهم في المتوسط 436 نوعًا من ميكروبات الأمعاء. ومن المعروف أن الغنى في التنوع قادر على مقاومة الوجود الدائم للطفيليات والمسببات للأمراض، ويمكنه الاستجابة لتقلبات النظام الغذائي الناجمة عن إمدادات غذائية غير متوقعة. ونتيجة لهذا، كان الميكروبيوم البشري للأسلاف بالتأكيد يحتوي على مجموعات متنوعة من الميكروبات، وهو ما وفَّر المرونة الوظيفية التي رافقت استعمار الكرة الأرضية التي تُشكِّل إرثنا التكيفي.
بدأ العلماء توًّا بفهم كيفية تطوُّر الميكروبيوم بوصفه نظامًا بيئيًا ديناميكيًا يساعد في تيسير صحة الإنسان، وكذلك في إعادة تشكيل بيئته السكنية.
تشاتال هويوك أول مدينة في التاريخ
عد انتهاء العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 10000 عام، بدأت مجموعات من الصيادين وجامعي الثمار بممارسة الزراعة والاستقرار في مجموعات تُعدُّ بداية نشوء المدن. وهذا ما يراه علماء الآثار الحيوية على أنه كان بداية تغييرات كبيرة في العلاقة بين الميكروبيوم داخل الجسم وميكروبيوم البيئة المبنية.
أولى هذه المجتمعات الزراعية الكبيرة، المعروفة حتى اليوم، هي مدينة تشاتال هويوك، التي اكتُشفت عام 1958م على يد عالم الآثار البريطاني جيمس ميلارت، والتي ظهرت حوالي عام 7000 قبل الميلاد واستمرَّت إلى نحو عام 6000 قبل الميلاد. وهي تقع جنوب الأناضول وتطل على سهل قونية في تركيا الحديثة.
بلغ عدد سكان المدينة في ذروته نحو 8000 نسمة. وبُنيت منازلها بشكل متلاصق مثل الشقق ومن دون مساحة بينها. وكان السكان يأتون ويغادرون عبر السلالم إلى أسطح المنازل، وربَّما كان ذلك لاعتبارات أمنية. وقد استنتج العلماء الذين يدرسون آثارها أن هؤلاء السكان كانوا من بين أوائل البشر الذين عانوا بعض مخاطر الحياة الحضرية الحديثة نسبيًا. فقد تعرضوا للاكتظاظ السكاني، وللأمراض المعدية، وللعنف وللمشكلات البيئية.
هذا ما أفاد به فريق دولي من علماء الآثار الحيوية في ورقة بُنيت على 25 عامًا من دراسة بقايا بشرية جرى اكتشافها في تشاتال هويوك، ونُشرت في مجلة علمية (PNAS)، في 17 يونيو 2019م. وتصف الدراسة كيف كان حال الانتقال الأول من نمط حياة الصيد والجمع البدوي إلى حياة أكثر استقرارًا مبنية حول الزراعة، كما قال المؤلف الرئيس للدراسة وأستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ولاية أوهايو، كلارك سبنسر لارسن: “كانت تشاتال هويوك واحدة من أوائل المجتمعات الحضرية الأولية في العالم، وقد شهد السكان ما يحدث عندما تضع كثيرًا من الأشخاص معًا في منطقة صغيرة فترةً طويلة من الزمن”.
وأضاف لارسن أن النظام الغذائي الغني بالحبوب أدى سريعًا إلى إصابة بعض السكان بتسوس الأسنان، وهو ما يُسمَّى أحد “أمراض الحضارة”. وأظهرت النتائج أن نحو %10 إلى %13 من أسنان البالغين الذين عُثر عليهم في الموقع أظهرت أدلة على تسوسها، وارتفاع معدل الإصابة بأمراض أخرى دلَّت عليها آثار العدوى في عظامهم. ويرجع ذلك على الأرجح، إلى الازدحام وسوء النظافة. إذ يعود تاريخ البراز المليء بالطفيليات إلى الأيام الأولى من تشاتال هويوك. وقد أظهرت الحفريات أن الجدران الداخلية والأرضيات أُعيِد تلبيسها بالطين مرات عديدة. وأظهر تحليل هذا الطين آثارًا لبراز الحيوانات والبشر.
عثر علماء الآثار أيضًا على عظام بشرية متداخلة مع عظام ماشية في المدافن وأكوام القمامة. ومن المرجح أن يكون ازدحام الناس والحيوانات قد أدى إلى ظهور أمراض حيوانية المنشأ في المدينة. ويُعيد الحمض النووي القديم وجود مرض السل في الماشية في المنطقة إلى عام 8500 قبل الميلاد؛ أي قبل ظهور المدينة بـ1500 سنة، وظهر بعد ذلك مرض السل في عظام الأطفال البشر في تشاتال هويوك. ويحدد الحمض النووي في بقايا بشرية قديمة تاريخ مرض السالمونيلا إلى فترة متأخرة من المدينة. وبافتراض أن عدوى الأمراض في العصر الحجري الحديث زادت بمرور الوقت، فربَّما وصلت المستوطنات الكثيفة مثل منطقة تشاتال هويوك إلى نقطة تحوُّل، حيث تتفوّق آثار المرض على فوائد العيش معًا عن كثب.
بعد نحو ألف عام من ظهورها، أي بحلول عام 6000 قبل الميلاد، هُجِّرت تشاتال هويوك بشكل غامض، كما جاء في دراسة نُشرت في “أخبار جامعة أوهايو” في 18 يونيو 2019م. وتشتت السكان في مستوطنات أصغر في السهول المحيطة وما وراءها. كما تفرقت أيضًا مجموعات سكانية زراعية كبيرة أخرى في المنطقة، وأصبح رعي الماشية البدوي أكثر انتشارًا. وبالنسبة إلى تلك المجموعات السكانية التي استمرت، أصبحت المنازل المصنوعة من الطين منفصلة الآن، على النقيض من المنازل المتكتلة في تشاتال هويوك.
ثقافة جديدة في تريبيليا القديمة
بعد نحو 2000 عام، أو بحلول عام 4000 قبل الميلاد تقريبًا، عادت التجمعات السكانية الحضرية الكبيرة إلى الظهور مرة أخرى، لكن هذه المرة في المستوطنات الكبرى لثقافة تريبيليا القديمة، غربي البحر الأسود في منطقة بين أوكرانيا ومولدوفا اليوم، كما تشير الآثار التي شرحت أبعادها نشرة “المتحف الأوكراني”. ويقول عالم الأركيولوجيا من جامعة كمبريدج، سايمون غارينيون، وعالم الأنثروبولوجيا من جامعة تينسي، ألكسندر بنتلي، إن اكتشاف هذه المدن الكبيرة يدحض الاعتقاد السائد أن أولى المدن وُجِدت في بلاد ما بين النهرين.
هذه المرة كان التصميم مختلفًا عن حي تشاتال هويوك المزدحم؛ إذ كانت مئات المنازل الخشبية المكونة من طابقين متباعدة بانتظام في أشكال بيضاوية متحدة المركز. كما كانت متجمعة في أحياء على شكل فطيرة، ولكل حي منها مبنى مخصصٌ للاجتماع الخاص به. ويشير هذا التصميم منخفض الكثافة إلى أنه ربَّما ساعد في منع أي تفشٍ للأمراض من استنزاف المستوطنة برمَّتها، سواء أعرف سكانها ذلك أم لا، كما أشار بنتلي في مجلة “كونفيرزيشن” (Conversation) في 16 أكتوبر 2024م.
وتشير مجلة “الأعمال الفلسفية للجمعية الملكية: قسم البيولوجيا” في 12 فبراير 2011م، إلى أن سكان تريبيليا لم يكونوا في حاجة إلى التخطيط الواعي لتصميم حيِّهم لمساعدة سكانه على البقاء. فمع الوقت، يتكوَّن ما يدفع إلى تجنب علامات الأمراض المعدية، وهو ما يُسمَّى بـ”القرف” وهو نظام نفسي تطوري يحمي الكائنات الحية من العدوى من خلال سلوك تجنب الأمراض.
مع ذلك، هُجِّرت المستوطنات الضخمة في تريبيليا بحلول عام 3000 قبل الميلاد. فهل كانت ناقلات الأمراض الجديدة أكبر مما تستطيع هذه المدن القديمة استيعابه؟ وكما حدث في تشاتال هويوك قبل ذلك، تفرَّق الناس إلى مستوطنات أصغر. ويتكهن بعض علماء الوراثة بأن مستوطنات تريبيليا هُجرت بسبب أصول الطاعون في المنطقة آنذاك، كما جاء في مجلة “سيل” (Cell) في 10 يناير 2019م.
مدن ما بين النهرين وغيرها
هذه المرة، لم يعِش الناس في مراكز المدن جنبًا إلى جنب مع الماشية أو الأغنام، بل كانت المدن بمنزلة مراكز للتجارة الإقليمية. وكانت المواد الغذائية تُستورد إلى المدينة وتُخزن في صوامع حبوب كبيرة مثل تلك الموجودة في عاصمة الحثيين، خاتوشا، التي تقع في مرتفعات الأناضول والتي كانت قادرة على استيعاب ما يكفي من الحبوب لإطعام عشرين ألف شخص مدَّةَ عام. كما جرى تسهيل الصرف الصحي من خلال أعمال المياه العامة، مثل القنوات في مدينة الوركاء على نهر الفرات، أو آبار المياه وحمامٍ عام كبير في مدينة موهينجو دارو على نهر السند.
ليس من المعلوم حاليًا، إن كانت هذه الخبرات الغنية بالمعلومات قد وصلت إلى مناطق أخرى، لكن المدن التي ظهرت إلى الشرق والجنوب بعد ذلك كان تصميمها مختلفًا. فقد نشأت أولى المدن في بلاد ما بين النهرين حوالي عام 3500 قبل الميلاد، وسرعان ما تطورت مدن أخرى في مصر ووادي السند والصين وفي الحضارة المينوية في اليونان. وكانت هذه المدن التي يبلغ عدد سكانها عشرات الآلاف تعج بالحرفيين المتخصصين في أحياء متباعدة.
اقرأ القافلة: الميكروبيوم والصحة، من العدد مايو-يونيو 2019م
التخطيـط العمراني
يعدُّ بعض علماء الآثار أن التخطيط العمراني المتعمد لدرء أخطار الأمراض، قد بدأ في هذه المدن الأخيرة، وتطوَّر إلى حقل علمي في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى المدن الجديدة الحديثة.
ومع الفهم الحديث للميكروبيوم وأهميته في تعزيز الصحة العامة ومكافحة الجوائح، بدأ الاهتمام يتزايد لتشكيل هذه المجتمعات الميكروبية بطرق تعزز المناعة عن طريق تصميم الأبنية. ومع ذلك، فإن تقاطع هذا المجال مع الهندسة المعمارية الحديثة لا يزال محدودًا؛ نظرًا لحداثة أبحاث الميكروبيوم. وحتى ذلك الحين، يُمكن القيام بخطوات عديدة، مثل استخدام مواد طبيعية كالخشب، الذي يمكن أن يؤوي ميكروبات مفيدة، أو من خلال تصميم أنظمة تهوية تعزز التنوع الميكروبي.
ومن الممكن أن تتضمن المباني جدرانًا حية تضم نباتات وميكروبات متنوعة. كما يمكن للنباتات الداخلية أن تُسهم في توفير بيئة ميكروبية أكثر صحة. فالنباتات لا تعمل على تنقية الهواء فحسب، بل تعمل أيضًا على تنمية مجتمعات ميكروبية متنوعة داخل المنزل، أو استخدام مواد بناء مملوءة بجراثيم بكتيرية مفيدة يُمكن تنشيطها عند الحاجة. وقد تساعد هذه المواد في تقليل عدد الميكروبات الضارة مع تعريضنا في الوقت نفسه لميكروبات مفيدة بحسب مقالة في مجلة “ميكروبيوم” في عددها 82، 2019م.
اترك تعليقاً