تندرج أعمال الفنانة التشكيلية السعودية ميساء شلدان ضمن التيار المفاهيمي في الفن التشكيلي المعاصر؛ وهو التيار الذي يقوم على الفكرة كعنصر أساسي لتحميل العمل الفني مفهوماً معيَّناً يريد الفنان إيصاله للمتلقين، وبذلك يتجسّد العمل بخامات يختارها الفنان لتلائم رؤيته، ولتدعم المفهوم أو الفكرة التي يصدّرها.
وتُعدّ المفاهيمية اتجاهاً مرغوباً من قِبَل الفنانين والفنانات الشباب السعوديين، يكرّسون أعمالهم تحت سياقاتها التي بزغت من السريالية والدادائية، وهما التياران اللذان مهَّدا لظهور هذا الفن المثير للجدل، الذي انضمت إلى ركبه ميساء شلدان.
في معرض “من الداخل”، الذي نظَّمته وزارة الثقافة بمحافظة الدرعية في شهر ديسمبر من العام الماضي 2019م، واستضاف أعمال أكثر من 25 فناناً سعودياً وعالمياً، شاركت ميساء شلدان بعملها الأخير “بين عصرين”، الذي سبق أن شاركت به في الدورة الثالثة من معرض “تراثنا حبنا” في سبتمبر من نفس العام، وعندما نتأمل هذا العمل، نرى أن الفنانة صممته كنصب صلب من جدار مستطيل من الحديد الصدئ تتدَّلى منه ستارة مرنة مكوّنة من مئات القطع المعدنية التي تتخذ الشكل الهندسي (المعيّن) كوحدات مترابطة بواسطة حلقات صغيرة.
هذا الجدار هو التاريخ الراسخ، الأساس المتين الذي بناه الأجداد، وحمل على عاتقه نسيجاً معدنياً يعبّر عن القصص والحكايات والقيم والعادات التي صنعت الأجيال. ولكنه نسيج يتميز بالمرونة المتمثلة في الستارة، التي ترمز لحالة التكيّف والتغيير لما سيكون عليه المستقبل من تطوّر.
المعنى المفهوم
يختزل هذا العمل بين طياته كثيراً من المعاني التي تأتي في “منطقة المنتصف”. فالجدار قائم بين القديم والحديث، بين الأصالة والتحوُّلات، بين الزمان والأحداث، بين الثوابت والمتغيرات. وأيضاً بين الأجداد والأحفاد، ولا سيما بين الماضي وما هو آت، وكذلك بين الصلابة والمرونة. فهو إذاً بين عصرين، كما أطلقت عليه صاحبته.
وبمعنى آخر يمثل هذا العمل البناء الاجتماعي المتماسك من الداخل والمرن من الخارج، ثم يمتد عبر النسيج اللانهائي، عبر قطع معدنية مترابطة تكوّن بترابطها نسيجاً من الأزمان والأماكن والأحداث. قطع متشابهة في لونها، وأخرى مختلفة، وأخرى لامعة، وغيرها مختفية الملامح. شيء نتذكره وشيء لا نرى منه سوى وميض، وهذا ما حدث من أجدادنا، وما يحدث من خلالنا نحن الأجيال الراهنة والمتعاقبة.
إذاً، هذا هو المفهوم أو الفكرة التي أرادت شلدان نقلها للمتلقين الزائرين للمعرض، وجعلتهم يتأملونه، ويصبح جزءاً من ذاكرتهم. فكلما شاهد المتلقي العمل، حتى لو بعد سنوات طويلة، فإنه سوف يتذكر هذه المفاهيم التي طرحتها. إنها التراكمات الحضارية التي حصلت في الماضي وصنعت هذا الحاضر.
وعندما سألنا الفنانة: لماذا اختارت الشكل المعيّن؟ أوضحت أن المعيّن مثلثان مشتركان بقاعدة واحدة كما الأسرة السعودية المشتركة بعاداتها وتماسكها بين أفراد الأسرة الواحدة، أو بين أفراد الأسرة والقبيلة، أو بين القبيلة والمنطقة. ومن ثم الوطن. ولأن المثلث نقشة أساسية في الزخارف السعودية الشعبية الأصيلة، فإننا نعود إلى أصل الشكل، أي المثلث: النقشة التي تتميَّز بها الجدران والبيوت النجدية. هذا هو المفهوم الذي اجتهدت في تطويره، ومن ثم تنفيذه لكي تتاح لي مساحة واسعة لتأمله، فالمفاهيمية تأخذني إلى التأمل العميق في الأشياء من حولي، وتدفعني إلى البحث في الكتب والمراجع.
بدايات بأعمال رصينة
تخرجت ميساء المولودة في الرياض من قسم الفنون البصرية في معهد المهارات والفنون عام 2015م. وكان مكان تخرجها قاعة الفن التي دعمت كثيراً من الفنانين. ودرست العلوم الشرعية، وأعدّت رسالة الماجستير في الإرشاد النفسي التربوي. وتهتم بشكل خاص بالموضوعات الإنسانية والتركيبة الاجتماعية السعودية وما يؤثر فيها. وهذا بدوره ما دفعها إلى البحث في الذاكرة الجمعية والفردية وكيفية تأثيرها على الفرد أو المجتمع.
وانطلقت بعد ذلك، فقدَّمت بعض أعمالها في معرض “تراثنا حبنا” في دورته الثانية في فبراير 2016م، الذي أقيم في البيوت الطينية بمركز الملك عبدالعزيز التاريخي بالمربع، ونظَّمته مؤسسة الفن النقي بالتعاون مع دارة الملك عبدالعزيز، حيث قدَّمت عملاً بعنوان “حكايات جدتي”، وكان عبارة عن تركيب فني وظفت فيه عديداً من أشكال المثلث، كعنصر هندسي يستخدم في الثقافة والهندسة الزخرفية السعودية؛ وكانت هذه المثلثات تصدر أصواتاً موسيقية عندما تتحرَّك، يذكّر ميساء، كما قالت، بالحكايات القديمة وليالي السمر مع جدتها.
صنبور المسامير والمطرقة
في أعمال سابقة، اشتغلت الفنانة على تحويل الخردة إلى أعمال فنية، ولكنها لم تبتعد عن الأسلوب المفاهيمي، فقدّمت عملها “أرزاق صنبور المسامير” الذي جاءت فكرته من المفهوم الواسع لقيمة العطاء والسخاء.
فقد اختارت صنبوراً قديماً من النحاس، يزيد عمره على 60 عاماً، وكان يُستخدم للوضوء في ميضأة مسجد قديم، لتؤكد من خلاله على عنصري الزمن والقيمة المعنوية، ولتشير إلى رسوخ قيمة العطاء والكرم لدينا. والمسامير القديمة والحديثة والمختلفة الألوان والأزمان التي زاد عددها على 4000 مسمار تدل على الأزمان واختلاف الأرزاق بين البشر، وحتى اختلاف العطايا.
ثم ألحقت شلدان عملها ذاك بعمل مفاهيمي آخر، وسمَّته “المطرقة”، وكتبت في بيانها عنه عبارة: (يا نفسي منك الداء وفيك الطيب). وتقول الفنانة عن هذا العمل: “أتت فكرة العمل كرسالة بصرية لكل إنسان ينتظر العون من الآخرين ويرفع سقف توقعاته منهم. فهذه المطرقة إما تطرق المسمار أو تنزعه وفي كل الأحوال يكون المستجيب غيرها في عملها. ولكنَّ أداءها اختلف هنا، إذ تحوّلت لتصبح هي المؤدي والمستجيب في الوقت نفسه، وكأنها تتحدَّى المستحيل، فالأكيد أن المستحيل هو وجود المستحيل نفسه”.
المثلث بسيط لكنه معقَّد
ثم واتتها فرصة قيِّمة للمشاركة في أحد الأجنحة بمعرض “أسبوع مسك الفنون” لعام 2019م، المُسمّى “متناقضات متناغمة”، فقدَّمت عملاً تركيبياً يتكوَّن من عدّة مثلثات مصنوعة من الفولاذ، وقد تكوَّمت فوق بعضها وفق توليف قصدته الفنانة.. “فالمثلث بسيط ولكنه معقَّد”، هكذا تراه شلدان. إذ رغم بساطة شكله، فهو من الأشكال التي حركت مخيلة البشر منذ فجر الحضارة، فاكتنز بين أضلاعه البسيطة أسراراً ورموزاً وإشارات.
وتقول ميساء: “المثلث اختزل بين أضلاعه الثلاثة تركيبة من الأحاسيس والتوجسات والمعتقدات البشرية المتقلبة، كالكرم والأمان والخوف والحب والقوة والخشوع والابتهال. فهو فن صنعه الإنسان ليحكي ما يراه ويشعر به. نَقشَ المثلث بفعل حاجته إليه قبل الاستمتاع بشكله وحفظه في زخارفه ومواد زينته، فكرَّره وصنع من تكراره أكثر من 150 نمطاً زخرفياً، منذ أكثر من 4000 سنة قبل الميلاد. فالمثلث يظهر في الزخرفة المعمارية، مثل تلك التي نظهر على واجهات مقابر مدائن صالح، وواجهات بعض المنازل التقليدية التي استمر ظهور المثلث عليها حتى الآن. كما أنه تفلّت من كونه نقشاً تقليدياً حتى ظهر بجرأة ووضوح في فن العمارة والتصميم”.
الهودج ذاكرة الحنين
ومن أعمالها المشتقة من عملها التركيبي “بين عصرين” يلفتنا نصب “في ذاكرة الهودج”، وهو عمل تفاعلي يحمل بداخله تجربة إنسانية تحاكي تأثير الذكريات على حياة الإنسان وقراراته. فكل من يدخله، يكون كمن يدخل عالماً خاصاً مليئاً بقطع الذكريات التي عليه أن يحركها بنفسه، فيسمع تهدج الصوت ما بين ارتعاش وعلو وهبوط. إنه صوت الحنين الذي بداخله، لوناً وبريقاً، الحنين الذي يلقي بظلاله على المتلقي، وعلى إحساسه وتفاعله باللحظة.
اشتغلت الفنانة على تحويل الخردة إلى أعمال فنية، ولكنها لم تبتعد عن الأسلوب المفاهيمي، فقدّمت عملها “أرزاق صنبور المسامير” الذي جاءت فكرته من المفهوم الواسع لقيمة العطاء والسخاء.
تحويل الرسائل الفكرية
إلى رسائل بصرية
تفلسف الفنانة المفاهيمية الأشياء، واضعة نصب عينيها التنوير الإيحائي عبر الفن وتأويل الأفكار في قوالب من الجَمَال. وتعبِّر عن ذلك بالقول: “ساعد حبي للطبيعة وتأملها إحساسي برؤية التناغم بينها وبين عواملها وقوانينها، وكيف تلعب أدوارها بإتقان في صنع الجَمَال. فاخترتها ليكون الزمن وريشته الصدأ أهم العناصر التي استخدمها مع ألواني في تجسيد منحوتاتي الفنية. أختار في أعمالي الحديد وأهيئه بتقطيعه وتعريضه للكيميائيات والألوان والحرارة حتى تظهر جماليات أكسدته وتفاعلاته مع الزمن، ومن ثم أحيكه أو أجمع قطعه بطريقة تظهر مرونته وحركته. فأعبِّر بذلك عني.. ولربما أكون بذلك أبحث في أصلي وجذوري وخيوط امتدادي”.
وفي سياق آخر، يتعلق اهتمام الفنانة بهموم الناس، فتقول: “عملي كمستشارة تربوية وتعليمية أتاح لي فرصة التقرب من الناس والإحساس بهم ومساعدتهم في فهم أسباب مشكلاتهم وإيجاد الحلول لها. وكان ذلك عاملاً مهماً في تشكيل أعمالي الفنية وتحويل رسائلي الفكرية إلى رسائل بصرية تجريدية تحملها المفاهيمية التي تتفاعل مع العالم بلغة الجمال”.
عادات شخصية وطقوس
وتحدثنا ميساء عن طقوسها في العمل الفني، فتقول: يواتيني العمل كفكرة بعد موضوع البحث، ثم أبدأ برسم كثير من الاسكتشات (تخطيطات للفكرة والأفكار المصاحبة)، وهذه مرحلة المتعة في التأملات الروحانية والإنسانية، وقد تستغرق حوالي 6 شهور. ومن خلال التخطيطات تأتي لعبة الألوان. ثم تأتي مرحلة اختيار أفضل الألوان لتوضيح الفكرة أكثر وهذه المرحلة ليس لها وقت.
وتضيف: “غالباً ما أخطط الاسكتشات مع أولادي. وأنا أشاركهم لعبهم أو أوقات مذاكراتهم أو بعد نومهم، نقضي وقتاً جميلاً تكثر فيه الضحكات، وهكذا تنصبغ أعمالي بالإيجابية والبهجة حتى وإن كانت منحوتات بالمسامير.
ثم تأتي مرحلة التصميم والتصنيع. وكذلك اختبار المواد وما يتبع ذلك من عمليات تنفيذية تتطلب جدية أكبر والتزاماً والتفكير من الناحية الفيزيائية ومدى تناسب قوانين الفيزياء مع الفكرة. وهذا يتطلب استشارة مهندسين ومحللين ومصممين تنفيذيين ودراسة المحاليل الكيميائية التي سوف أستخدمها للعمل. ويكون ذلك من خلال نموذج صغير مُصنّع بعناية قبل تنفيذه بالحجم المطلوب. وبعد تسلّم القطع تأتي مرحلة تنفيذ الفكرة كما حلمت بها”.
تصوير: فتحي العيسى
الفنانة الرائعة أستاذة ميساء شلدان
لفنونك لمسة تأمل وصدى بألوان الاسترخاء وصوت رنّان
بارك الله في عملك وبانتظار إبداعات رائعة كروعتك .
ماشاء الله عليك ميساء رائعة بكل المقاييس نجمة براقة بالسماء إنسانة فنانة سخية الفكر والعطاء ربي يسعدك بكل خير ومنها للاعلى ??
التقيت بأعمال الفنانة ميساء قبل ان التقي بالفنانة. اذهلتني اعمالها جداً وتابعتها على وسائل التواصل. فازددت اعجاباً بأعمالها وبكل تفاصيلها. كان اللقاء بالفنانة اكثر من رائع عندما حدثتني عن رؤيتها ومفهومها لاعمالها في ختام ٢٠١٩. الفنانة ميساء لها مستقبل جميل جداً وتطورها ملحوظ. كل التوفيق لك اختي الكريمة.
مبدعة تبارك الله اعمالك سااحرة وخياليه ماشاءالله اندماج الالوان وتالقها كلها تسحر ،، الله يزيدك من فضله دايما وابدا ?✨
ما شاء الله تبارك الله
ميساء انسانه راائعه ومبدعه
وعقبال مايكون عندك معرضك الخاص
??❤️❤️
إنسانه وفنانه مبدعه في مجالات مختلفه أعمالها الفنيه غير عادية تقف أمامها مشدوها تتأمل كل تفصيلة صغيره??
فن جميل وراقي
كل أعمالك فريدة ومعبرة وتوحي بالحب والحياة
فن راقي جدااااا
من فنانه راقيه في فنها واخلاقها
فعلا الاستاذة ميساء فخر للمرأه السعوديه
ربي يوفقك