مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2024

موسكو..

موسمان وروح واحدة

مصلح جميل

رغم الصورة السلبية التي ترسمها بعض وسائل الإعلام والأفلام عن موسكو بشكل عام، يكتشف زائر العاصمة الروسية بسرعة أن هذه الصورة بعيدة عن الحقيقة. فموسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة. زرناها مرتين في عام واحد، في الشتاء وفي الصيف، وعشنا أجواءها النابضة بالحياة في موسمين، فإذا بها تبدو وكأنها مدينتان مختلفتان تمامًا؛ إذ تقدِّم كل واحدة منهما سحرها الخاص وتمثِّل تجربة فريدة. فسواء أكانت مغطاة بالثلوج، أم مضاءة بأشعة الشمس، فإن موسكو تبرز وجهةً تتمتع بعظمة معمارية، ومأكولات عالمية، وأجواء لا تُنسى، وهو ما يجعلها تجربة سفر مميزة طوال العام.

الشتاء في موسكو

في الشتاء، تغطي الثلوج شوارع موسكو ومبانيها بلا استثناء، ولكن الحياة لا تتوقف. يسير الناس بهدوء مرتدين معاطفهم الثقيلة والقبعات المبطنة بالفراء، وصوت تكسُّر الثلوج يجعل للمشي سحرًا خاصًا حتى مع الخوف من السقوط في أول أيامنا في موسكو. التجوُّل في الساحة الحمراء، قُبالة كاتدرائية القديس “باسيل” الشهيرة المكسوة بالثلج، يشعرك وكأنك في قصة خيالية. الهواء البارد منعش، حتى حين تكون الحرارة تحت الصفر. السياح لا يتوقفون إلا لالتقاط الصور. وتضيف أضواء شوارع المدينة بهجة ودفئًا إلى الأجواء والأماكن، وتباينًا بصريًا حين تغيب الشمس أسابيع عديدة.

ملامح شوارع موسكو في الشتاء تتوسطها كاتدرائية القديس باسيل.

ويلاحظ الزائر كيف تحافظ المدينة على أرصفة المشاة نظيفة وسالكة. أمَّا طرق السيارات، فهناك معدات ترشُّ الملح لإذابة الجليد عنها. وتحت الأرض لا تتوقف الحركة في قطارات موسكو ومحطاتها لا صيفًا ولا شتاءً. 

وفي الشتاء، تُعدُّ حديقة غوركي أحد أبرز الأماكن، حيث تتجمع العائلات للتزلج على الجليد، أو لاحتساء الشوكولاتة الساخنة من الأكشاك القريبة. وحين لا يكفُّ الثلج عن التساقط وتنخفض درجات الحرارة بشكل أكبر، يتجمَّد نهر موسكو في منظر مهيب وكأنه امتداد للقطب الشمالي، وتشعر المدينة بالهدوء، ولكنها تبقى تعج بالحياة من خلال لعب الأطفال واستمتاع الجميع بروح الشتاء الاحتفالية.

تمثال تذكاري،تكريما لضحايا الحرب العالمية الثانية.

الصيف في موسكو

في فصل الصيف، وتحديدًا في شهر يوليو، وجدنا موسكو نابضة بالحياة ومزهرة ومشرقة، ومدينة مختلفة تمامًا. الشوارع التي كانت مغطاة بالثلوج في الشتاء تنبض الآن بالخضرة وأشعة الشمس. تصبح الحدائق مثل حديقة زاريادي وكولومنسكوي أماكن مثالية للنزهات، حيث تستمتع العائلات بالهواء الطلق. ويجلب الطقس الدافئ أجواءً مفعمة بالحيوية، مع عروض الشوارع والأسواق المفتوحة والنزهات على ضفاف نهر موسكو الذي تدبُّ فيه الحياة، وتزداد فيه حركة القوارب السياحية؛ حتى ليُمكن مشاهدة حفلات الزواج والمناسبات تُقام على ضفاف النهر.

روعة الهندسة المعمارية

في الصيف تحديدًا، يبرز سحر العمارة في موسكو، المميزة بمزيج من العظمة القديمة والعمارة السوفييتية والتصاميم الحديثة، من جدران الكرملين المهيبة إلى ناطحات سحاب المدينة. 

بعض المعالم مثل الكرملين وناطحات السحاب “الأخوات السبع”، التي هي على طراز العمارة الستالينية، تبقى شامخة، وتحكي قصة الماضي الإمبراطوري لروسيا وإرثها السوفييتي. أمَّا محطات مترو موسكو، فأقل ما تُوصف به أنها تحفٌ معمارية. فكل محطة تبدو وكأنها متحف، مزينة بالثريات والفسيفساء والتصاميم التي تعكس التاريخ الثري للمدينة، والتاريخ السوفييتي القديم، والروسي الحديث. ونظام المترو سهل الاستخدام لولا اقتصار اللوحات الإرشادية على اللغة الروسية. ولكن استخدامه يبقى تجربة فريدة، على كل سائح أن يُقدم عليها، حتى مع سهولة الحصول على سيارات الأجرة في المدينة وقلة تكلفتها.

تحتفي المدينة بالأدباء والفلاسفة والفنانين، حتى إن الاستمتاع بمتاحفها وفنونها ومكتباتها، يشكِّل وحدَه سببًا كافيًا لزيارتها.

مزيج من أشكال العمارة الستالينية والسوفييتية التي تنتشر في موسكو.

أجواء المدينة والمطاعم

المطاعم في موسكو متنوعة، تحتوي على ما يُراوح بين المأكولات الروسية التقليدية والأطباق العالمية. ويُمكن بسهولة العثور على مقاهٍ مختصة بالقهوة أو الأطباق الروسية أو الأوروبية بشكل عام. حتى بعد أن غادر عدد من شركات الأطعمة والقهوة الغربية موسكو، تحوَّلت العلامات التجارية الشهيرة إلى شركات روسية محافظة على الجودة نفسها. وبشكل عام، لا يمكن أن يخذلك أي مطعم تتجه إليه؛ إذ إن الأسعار هي أقل من مثيلاتها في أوروبا الغربية على سبيل المثال، والجودة أمر لا يُمكن مناقشته في مطاعم موسكو. وفي الشتاء، تزدحم المطاعم والمقاهي؛ لأن الجلوس في الهواء الطلق يصبح أمرًا مستحيلًا. ولكن في الصيف، فإن مطاعم عديدة تتيح الاستمتاع بالطعام في الأماكن المفتوحة.

سوق إيزمايلوفو الشعبية

لمحة من معرض “إنجازات الاقتصاد الوطني”.

تُعدُّ سوق إيزمايلوفو الشعبية جوهرة محلية لا تكتمل أي رحلة إلى موسكو من دون زيارتها. فهو بازار محلي نابض بالحياة ومليء بالثقافة والتاريخ، وفرصة للتواصل مع السكان المحليين. تقع هذه السوق في الجزء الشرقي من المدينة، وتُعدُّ كنزًا دفينًا لأي شخص يرغب في استكشاف الحِرف اليدوية الروسية الأصيلة والتحف والتذكارات، سواء أكانت دمى الماتريوشكا التقليدية، أم تذكارات من الحقبة السوفييتية، أم كاميرات “زينت” سوفييتية الصنع. أمَّا المساومة في هذه السوق، فهي جزء من المتعة. 

في الشتاء تبدو السوق أقل حيوية، ولكنها في الصيف، وتحديدًا إجازة نهاية الأسبوع، تكون صاخبة؛ حتى إنك تشعر بأن نصف سكان موسكو والسياح فيها هم هناك. إنها تجربة فريدة تعطي لمحة عن التراث الحرفي والحياة في موسكو.

معرض إنجازات الاقتصاد الوطني

يُعدُّ معرض “إنجازات الاقتصاد الوطني” واحدًا من أبرز معالم موسكو، ويقدِّم لمحة رائعة عن الماضي السوفييتي لروسيا. افتُتح هذا المعرض في الأصل عام 1939م. ويُعدُّ هذا المجمع الضخم أكثر من مجرد أرض معارض؛ إنه احتفال بالفخر الوطني والابتكار. إذ زرته في الشتاء وفي درجة حرارة تحت الصفر، اعتقدنا أنه معرض مؤقت لكثرة الزائرين، ولكنه في الواقع مليء بالمعارض والساحات وأماكن الترفيه، لدرجة تجعله وجهة للجميع على مدار العام. ويضم هذا المعرض أجنحة تُمثِّل جمهوريات أو صناعات سوفييتية مختلفة، ويعرض إنجازاتها في مجالات الزراعة والعلوم والتكنولوجيا. ويُمكن للزوَّار أيضًا أن يستكشفوا النُصب التذكارية المهيبة. ومن أبرز ما يلفت الانتباه معرض الأبطال الرياضيين الروس، الذين حصدوا الميداليات في البطولات العالمية، وتحديدًا الأولمبياد؛ حيث تُعرض صورهم مع ميدالياتهم بفخر يدل على مدى الاعتزاز الحكومي والشعبي بهم.

الدمى الروسية والملصقات من الفترة السوفييتية أشهر التذكارات للاقتناء من موسكو، وأفضل مكان لذلك سوق “إيزمايلوفو” الشعبية.

الأدب والفنون الروسية

 تشتهر روسيا بتراثها الأدبي الغني، وتُكرِّم موسكو كتَّابها، ومنهم الشاعر الشهير ألكسندر بوشكين. حتى إن المطار الرئيس في المدينة، مطار شيريميتيفو، سُمِّي باسمه؛ وهو ما يعكس التقدير الثقافي العميق لإسهاماته في الأدب الروسي.

وفي أماكن كثيرة من المدينة، يشاهد الزائر التماثيل التي تحتفي بالأدباء والفلاسفة والفنانين. ويُمكن القول إن الاستمتاع بمتاحف موسكو وفنونها ومكتباتها، يشكِّل وحدَه سببًا كافيًا لزيارتها. وخلال زيارتنا، كان متحف بوشكين الحكومي للفنون الجميلة، الذي يعدُّ جوهرة ثقافية، يعرض مجموعة رائعة من الفن العالمي. وعلى الرغم من أن المتحف سُمّي كذلك تكريمًا لبوشكين، فإنه يضم فنونًا من عصور ومناطق مختلفة، تشكل مزيجًا رائعًا من الثقافة الروسية والعالمية.

إن زيارة موسكو في موسمين مختلفين، تجعلها تبدو وكأنها مدينتان بروح واحدة. جمال في الشتاء المتجمد، وحيوية في الصيف. إنها موسكو التي ستأسر قلبك بمعمارها وثقافتها وكرم ضيافتها. إنها مدينة تشعرك، بغض النظر عن الوقت من العام، بأنها نظيفة وحيوية ومليئة بالقصص التي تنتظر أن تُروى.

ملامح الصيف في موسكو والاستمتاع بالهواء الطلق.

تتبدَّل صورة الحياة في موسكو بين الصيف والشتاء، فلكل فصل فيها ألوانه ومتنزهاته، ونقاط جذب مختلفة.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

تحدث عالم الاجتماع الأمريكي راي أولدنبرغ عن “المكان الثالث”، وهو فضاء يجمع بين المنزل والعمل، من أبرز هذه الأماكن المقاهي، التي لا تقتصر على تقديم المشروبات، بل تتحول إلى مساحات ثقافية نابضة بالحياة تعكس تاريخ المجتمعات وتعزز الروابط الاجتماعية.


0 تعليقات على “موسكو..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *