مهند شونو فنّان سعودي من مواليد مدينة الرياض، يتوزَّع اهتمامه بين الرسم وسرد القصص والتصوير، مولع بحل الحبكات القصصية المتقلبة، مثلما يهوى السفر، إذ لا يستقر في مكان إلا لينتقل إلى غيره. ويُقيم منذ مارس 2018م في كونستلرهاوس بمدينة برلين، حيث يقضي معظم وقته في محترفه الأبيض.
في محترفه (المؤقت على الأرجح)، يطغى البياض على كل شيء: الجدران، السقف، الأرضية، النوافذ وحتى الستائر وكأنها اتحدت مع بياض الورق على الطاولة القريبة من النافذة، إذ يحب شونو العمل في الجهة المقابلة للنوافذ الواسعة التي تسمح له باستغلال الضوء والأصوات والروائح المنبعثة من الطبقات المختلفة للناس في نسج القصص وتتبّع خيوط الأفكار.
فالمحترف بالنسبة لشونو مجرد مكان يسكب فيه طقوسه وأفكاره عن الرسم والإبداع، لا يهمه أن يكون كبيراً أو صغيراً، دائماً أو مؤقتاً. المهم أن يتسع لمزاجه الإبداعي، فهو كفنَّان اعتاد التنقل كثيراً معانياً من قلة الوقت، لذا نجده يحمل محترفه معه في رأسه وبين يديه. وكلما أطل عليه فراغٌ ما أخرج حبره وأوراقه.
الفن بحث في تفاصيل الحياة
يفسِّر الفنَّان شونو المناخ العام لتجربته الفنية بأنها نوع من أنواع الرفض لبعض الجوانب الواقعية في الحياة والمجتمع، وبشكل خاص تلك التي دفعت بحياة الناس نحو نسق يشوبه التصارع والإقصاء وعدم الاتعاظ من الأحداث التاريخية للمجتمعات والحضارات البشرية عبر الزمن.
من الواضح أن شونو يلوذ بالعزلة في كثير من لوحاته. ولكي يوضح حقيقة هذا الجانب يقول: “كنت دائماً أشعر بعزلة ما وخاصة في طفولتي. كنت كثيراً ما أُعامل في المدرسة من قبل زملائي على أنني آخر مختلف عنهم بسبب ملامحي ولهجتي، وهذا الأمر جعلني لاحقاً أعيش عزلة عقلية، فأتساءل من أنا؟! ما هي المنظومة الحقيقية التي تحدِّد هوية الإنسان؟! وهذا ما كنت أبحث عنه من خلال رسوماتي.. أبحث عني”.
يدفعنا هذا التصريح إلى طرح السؤال حول ما إذا كانت أعماله مستقاة من مشاعره الذاتية وخياله فقط، فيجيب: إن تأمُلاتي في تفاصيل مشاهد الحياة أو الأشياء التي تصادفني في الشوارع مثلاً والأماكن العامة قد تلهمني، وتتمِّم فكرة ما بداخلي، لذلك هناك دائماً اتصال بين الواقع والمتخيَّل في العمل.
وحول مسألة الإلهام التي تغذي إبداع الفنان يقول شونو: إنها مسألة شغف وسعي في اكتشاف القصص وفهم العالم واستدعاء لذاتك الحقيقية. هذه مصادر كانت ومازالت تدفعني نحو العمل والتعبير باللوح أو الوسائط المتعدِّدة ومؤخراً المجسمات. فالمسألة تكمن في بحثك المتواصل عن طرق مناسبة توظف بها أفكارك لإيصال حسك وجهدك الفنيين.
بين الرمزية الغامضة والتعبير الصريح
أثارتنا الملاحظة أن شونو يرسم بالحبر مباشرة على الورق وفي ذلك مخالفة لمبادئ رسم السكتش التقليدية، التي تقضي بالرسم بقلم الرصاص أولاً ثم التحبير في المرحلة التالية من الرسم. وعلل الفنَّان ذلك قائلاً: لم أكن أملك الوقت الكافي للمرور بمراحل الرسم كلها، بدءاً من الرسم الأولي مروراً بمرحلة التصحيح والتحبير. لذا، كان من الضروري بالنسبة لي اختزال بعض المراحل. فاخترت أن أتناول الأفكار وأتتبعها لبناء عمل بصري مُعبِّر، معتمداً على الحبر من دون الرصاص. الأمر الذي جعلني أعتبر أن الخط الذي يُرسم يجب أن يُحترم ويُعطى الفرصة كي يظهر ويعبّر عن نفسه في اللوحة. فقد يكون هو الشكل الفاصل الذي يعطي العمل بُعداً جمالياً أفضل مما كنت أتوقَّع. إن المفاجأة التي تمنحني إياها الخطوط بالخطأ تجعلني أستمتع بالعمل، وأتحدَّى المسار الذي ستأخذني إليه، مؤمناً بأن هناك فكرة ما علينا العثور عليها.
وحول ما يُطرح الآن من رؤى وأعمال فنية تتبنى فكرة الرمزية غير المباشرة، يعلِّق قائلاً: “لا أتعمَّد الغموض في أعمالي، ولا أفضِّل المبالغة في الرمزية، مثلما أرفض المباشرة والتعبير الصريح. فمن المهم أن يكون العمل في منطقة بينهما، لا في إحداهما فقط، منطقة تفتح النقاش وتثير التساؤل وهذا ما أعدّه أحد مهام الفن”.
أمام بعض النماذج من أعماله
يمكننا بسهولة أن ندرك التنوُّع في طرق التعبير التي يلجأ إليها شونو، وذلك بالتأمل في عمله المسمى “الجدار”، وهو عبارة عن مجسم لكتاب مؤلَّف من سبع صفحات، يعرض قصة لتجربة الهجرة والتهجير بفعل الحروب والظروف الإنسانية القاسية. يظهر في هذا العمل شخصان يفصل بينهما جدار أسود يبدو لنا بسمك وعلو عاتيين كالظروف المؤلمة التي تتطلَّب محاربة ضارية للتغلب على معطيات الواقع، أو تخطي مأزق الوجود في حرب ما. وهذا ما يحدث في نهاية القصة التي يظل هاجس اللقاء وكيفية الوصول يسيطر على حركة الصفحات إلى أن أن يلتقي هذان الشخصان ببعضهما.
وفي تجربة أخرى كانت نتاج إقامته الفنية عام 2017م في سويسرا، نشاهد مجموعة رسوم لكائنات أشبه بتلك التي تمر بطور الشرنقة. ويروي شونو مصدر استيحائها قائلاً: “إن ما داعاني لمثل هذه الرسومات هي إقامتي الفنية ذات الطابع العلمي في مدينة زوريخ، حيث كان من ضمن العمل حضور تجارب بعض العلماء والنقاش معهم حولها. فوجدت نفسي مأخوذاً بأشكال بعض البكتيريا، وتصورت أن الأفق الواقعي للكون ومكوناته جميعها متصلة بعضها بعضاً، لذلك تجد خيوطاً تنسل من كل شرنقة لتتصل بأخرى”.
هناك اتصال دائم بين الواقع والخيال في أعمال شونو: “قد تلهمني تفاصيل مشاهد الحياة وتتمِّم فكرة ما بداخلى.. أما الشغف فهو يغذي السعي لدي في اكتشاف القصص وفهم العالم”.
وحين نطالع لوحة “الأيدي” مثلاً وهي ترتدي ما يشبه القفاز، تتكشف لنا فكرة المصير الذي يحدِّده الإنسان بيديه بشكل مباشر، عبر الأيدي العارية التي تمثل الأفكار الواضحة والأصيلة، وإما بارتداء القفازات التي تعبِّر عن تبني أفكار جاهزة دون أن يكون للفرد بصمة شخصية تمنح حياته بعداً متفرداً.
أغلب أعمال شونو تجعلنا نقول إن هناك قصة ما تجرنا إلى التساؤل، قصة تؤدي معنى الصراع القائم بين الخير والشر والبطل المتمرد كما في الأساطير، والتي نجدها اليوم في صراع الأفكار الكثيرة والمتشعبة. فالفنَّان يجمع هنا بين هذه المفاهيم، مضيفاً إليها اهتماماته الشخصية في العلوم والقصص الخيالية والمستقبلية، ليكوّن بذلك عوالم معزولة عن الوقت والمكان لكنها لا تزال متجذرة في الواقع الذي نعيشه.
التعبير عن قضايا إنسانية عامة
ولكن انطلاقاً من الذات
وتشكِّل القضايا الإنسانية الكبرى والعامة هاجساً لشونو، مثل العزلة والإقصاء العنصري، وأيضاً الحرب والتهجير اللذان تناولهما في معرضه “أطفال يم” بجدة عام 2016م، حيث ظهر المعرض كواقع افتراضي يأخذ زواره إلى رؤى تكشف حجم الدمار الإنساني والبيئي والاجتماعي التي تخلفه الحروب.
قد عرض حينها مجموعة لوحات كانت تحمل أفكاراً ورمزيات للموجودات الحسية والمادية للقضية، كأطفال حلّت محل رؤوسهم بقع سوداء، كهاوية سحيقة ومظلمة، وكأنها دلالة على أن الحرب استبدلت مكان الأحلام بفراغ مجهول ومخيف لدى الأطفال الذين عايشوها، وآخرون حلّت محل رؤوسهم أمواج بحار ذات ظلال سوداء، تهمس بحزن بما قد يؤول إليه مصير المهاجرين الذين تدفعهم ظروف الحرب إلى ركوب أمواج البحار بطرق غير قانونية، وفي ظروف غير إنسانية، ليواجهوا الموت في أغلب الأحيان. كما قدّم شونو في المعرض نفسه تجربة فريدة بعرضه مجموعة صور تحمل إحداثيات المواقع على الخارطة الأرضية التي دارت فيها معارك وحروب وأحداث انتهت بأشكال مأساوية، في محاولة للتطلع إلى قصص الحرب المؤلمة ولو من بعيد.
يتحدَّث الفنَّان حول ما قدَّمه من أعمال ومعارض فنية خارج المملكة، معبراً عن رضاه عن تفاعل جمهور تلك الدول مع أعماله باعتبارها تمثل قضايا إنسانية عالمية ولا تقتصر على موضوعات تخص مجتمعات بعينها. ولعل أهم ما منحته إياه الإقامات الفنية المتنوِّعة هو التقارب وبناء فهم إنساني وفني مشترك لمجتمعات مختلفة من حيث نمط العيش أو التفاعل والاحتفاء بالأعمال الفنية.
أغلب أعمال شونو تجعلنا نقول إن هناك قصة ما تجُرُّنا إلى التساؤل، قصة تؤدِّي معنى الصراع القائم بين الخير والشر والبطل المتمرِّد، كما في الأساطير، والتي نجدها اليوم في صراع الأفكار الكثيرة والمتشعبة.
في علاقته بالمعارض داخل المملكة، يؤكد شونو أنه يتعامل معها بالجدية نفسها، ويرى أنه ليس دائماً على الفنَّان التوجه صوب الخارج كي يتطور. فالتطويرهو طريقة لرؤية الأشياء تنبع من الداخل بشكل كبير، أولئك الذين يطوِّرونطريقة تفكيرهم يحتاجون إلى جغرافية جديدة لأدمغتهم للعمل. “فكوني خارج المملكة قد يؤثر عليّ بطريقة أو بأخرى، لكنه ليس بالتأثير الضخم”.
وحول محطته الحالية في برلين وما أضافته إلى مسيرته، يقول شونو: “كان تعاوني هذه السنة مع عالم الروبوتات البروفيسورمانفريد هيلدمن برلين. ونتج عن هذا التعاون استكشاف طريق ممكن لتمازج بين الفن والعلم. وهذا كان مهماً بالنسبة لي لأصل إلى ما يصل إليه المحترفونفي مجالات متعدِّدة.
ويختتم الفنان حديثه إلينا بالإشارة إلى آخر مشاركاته في مركز إثراء ضمن فعاليات برنامج “تنوين”: “كانت رعاية كريمة ومهمة من قبل القائمين على مركز إثراء لدعم تجربة الفن والعلم، أتاحت لنا الفرصة، أنا والعالم مانفريد هيلد، لتقديم ورشة عمل نقدِّم فيها تجربتنا ونشرحها للجمهور”.
سيرة مختصرة
ولد مهند شونو عام 1977م في الرياض، وتخرج مهندساً معمارياً في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
اختير لعدِّة إقامات فنية في أوروبا، مثل: كُستزيدنز في بادغاستين، النمسا (2017م). فنّانون في المختبر في زوريخ، سويسرا (2017م). ويقيم الآن إقامة فنية لمدة سنة كاملة في “كونستلرهاوس” في برلين.
أقام معرضين فرديين: “أطفال يم” في غاليري “أثر”، جدة (2016)، “صندوق ذات مرة”، في “كراك غاليري”، لندن.
شارك أيضاً في عديد من المعارض الجماعية مثل: “ستوري لاينز”، في “آر أل أس غاليري” في سيدني، أستراليا (2015م)؛ “لاود آرت، فنَّانو الخليج الناشؤون” في المملكة وعمان والبحرين (2015-2016م)؛ “سفر، 21،39” في فنون جدة (2017م)؛ “ما بعد أقصى المستحيل” في بيت ثقافات العالم، برلين (2017م)؛ “امتلك الجدران” في تورونتو، كندا (2017م)؛ “كُستزيدنز”، في بادغاستين (2017م)؛ “رسائل” في غاليري “أثر”، جدة (2017)؛ “غير منشور – ملاحظات فنية” في المعهد الفيدرالي السويسري لعلوم وتكنولوجيا الأنظمة المائية، زوريخ (2017م)؛ “تدق الساعة الثالثة عشرة” في غاليري أثر، جدة (2018م).
اقتنى بعض أعماله “المتحف البريطاني” في لندن، ومتحف “هيرشهورن” في واشنطن.
اترك تعليقاً