مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

يعكس الواقع الجديد للسينما في المملكة

مهرجان أفلام السعودية في دورته العاشرة


د. محمد البشير

هذا المستوى من النشاط والحراك المتزايد، كمًا وكيفًا وعامًا بعد عام، هو ثمرة الشراكة بين جمعية السينما ومركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، وبدعم من هيئة الأفلام التابعة لوزارة الثقافة. وما كان للمهرجان أن يتبوأ هذه المكانة لولا الواقع السينمائي الجديد في المملكة؛ لأن علاقة المهرجان بالواقع علاقة تبادلية. فالمهرجان، أي مهرجان، لا يمكن أن يكون معلقًا في فراغ، بل عليه أن يخدم واقعًا على الأرض. وهو مناسبة لإثراء الفكر السينمائي وإبراز المتميز من أفلام موجودة بالفعل أو مشروعات تستحق الدعم لاستكمالها. ولنا أن نتذكر أن مهرجانات إقليمية ضخمة بدأت وتلاشت؛ لأنها ليست جزءًا من واقع سينمائي تخدمه وتتكامل معه. 

واليوم، صار يمكن الحديث عن “صناعة سينما سعودية” يخدمها المهرجان. فبالرغم من أن تاريخ السينما في المملكة يعود إلى نحو سبعين عامًا، فإن الحديث عن السينما بوصفها صناعة، صار واقعًا ملموسًا مع انطلاق رؤية المملكة 2030، وحراك الدعم والتمكين الذي تقوده وزارة الثقافة تنفيذًا لهذه الرؤية.

ويتضمن هذا الحراك تطوير المواهب والبنية التحتية السينمائية، وتحفيز الإنتاج المحلي للأفلام وتوزيعها محليًا ودوليًا، وجذب الإنتاج وتصوير الأفلام العالمية في المملكة، ووضع الإطار التنظيمي، والبيئة التي تعزز القطاع السينمائي.

وتزامن دعم الإبداع وإنتاج الأفلام مع افتتاح دور العرض. فقد كان العام 2017م مفصليًا في صناعة السينما السعودية عندما بدأ إصدار تراخيص قاعات العرض. واليوم، صار في المملكة 66 دار عرض تضم 618 شاشة في 22 مدينة سعودية، والعدد ينمو ويَعِد بالمزيد. ويأتي مهرجان الأفلام وغيره من المهرجانات السعودية ضمن هذا المناخ، مؤثرًا في الواقع السينمائي ومتأثرًا به.

صعوبة البدايات

ما بين أبريل 2018م ومارس 2024م، حقَّقت السينما السعودية إيرادات فاقت 3.7 مليارات ريال، وفقًا لأرقام الهيئة العامة لتنظيم الإعلام. 
 للوقوف على مؤشر النمو والتقدُّم الذي دخل به المهرجان دورته العاشرة، لا بدَّ من تذكر الخطوة الأولى التي تحدد البقاء أو الانتهاء؛ فالرمح من أول ركزة كما يُقال، ومسايرة المرحلة ليس بالأمر الخاطئ على الإطلاق. 

 لم يحمل مهرجان أفلام السعودية اسم “مهرجان” منذ البداية، حين انطلق باسم “مسابقة أفلام السعودية” في دورته الأولى عام 2008م، بالتعاون بين جهتين مهتمتين بالأدب والثقافة والفنون، هما: نادي المنطقة الشرقية الأدبي، وجمعية الثقافة والفنون بالدمام، وبدعم من معالي وزير الثقافة والإعلام الأستاذ إياد مدني، آنذاك، لينطلق عامَها، ويتوقف بعدها سنوات. وانعقدت دورته الثانية عام 2015م، بتنظيم من جمعية الثقافة والفنون بالدمام منفردة؛ لتلفت الأنظار إلى مجتمع السينمائيين السعوديين، ولتكرِّس الدورة الثانية لأسماء وتقدِّم أسماء جديدة للساحة السينمائية؛ ولتنطلق الدورات بعدها بانتظام نسبي. فكانت الثالثة ثابتة، كما ذكر أحمد الملا، مدير المهرجان حينذاك. والرابعة نُظِّمت بدعم ومساندة من مركز عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، في الخيام المجاورة للمركز، إذ لم يكن بناؤه قد اكتمل بعد. ثم كانت دورة عام 2017م، التي مثّلت قفزة كبيرة إلى الأمام على مستوى الأفلام والأسماء، ولتبدأ بوادر الأفلام الطويلة. 

ومنذ ذلك التاريخ، أخذ المهرجان بالنمو، واكتسبت هيئته التنظيمية المزيد من الخبرات في التنظيم عامًا بعد عام، حتى صار إحدى مناسبات التعرُّف على قدرات صُنّاع الأفلام السعوديين ومستوى تقدمهم. 

فما بين انطلاقة الدورة الأولى حتى الدورة الرابعة، كان المهرجان على مستوى الأفلام القصيرة، ثم تحوّل بعدها المخرجون إلى الأفلام الطويلة. وبتوفر الدعم، بدأت مرحلة جديدة على مستوى الأفلام الطويلة، وتجارب الصناعة بدخول صناديق الدعم والجهات المانحة، مثل: مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، الذي دعم أفلامًا في الدورة الرابعة، وقدّم منحًا لأفلام شاركت في الدورات التي تلتها ما بين قصير وطويل. ودخول جهات أخرى على خط الدعم، مثل: “مسابقة ضوء” عن هيئة الأفلام، ودعم مهرجان البحر الأحمر لعدد من الأفلام، وهيئة العُلا بتسهيل الخدمات ودعم عدد من الأفلام. وهذا ما رفع مستوى جودة الصناعة بوجود ميزانيات تُساعد على صناعة الأفلام، وبتضافر جهود العاملين من منطلق الشغف بهذه الصناعة، والانتقال من مرحلة الميزانيات الصفرية إلى مرحلة الاستحقاق والتقدير بوجود مقابل لهذا الجهد المبذول في صناعة الفِلم. 

هذا الاحتضان يعكس رؤية 2030 بما تنطوي عليه من اهتمام بالثقافة والفن وعنايتها بجودة الحياة. وقد أتاح هذا للسينمائي السعودي، للمرة الأولى، أن يتفرّغ للفن. إذ أصبح الفن (يؤكّل عيش) بمنح العامل في حقله أجرًا كافيًا لممارسة فنه. وأصبح لدينا عدد من الفنانين الشباب يخلصون ويتفرغون لفنهم، ولا يمارسون أية أعمال أخرى سوى العمل في الفن. ومن بينهم ممثلون ومخرجون ومصورّون وعاملون في كل تخصص من تخصصات صناعة الفِلم. كما أتاح هذا الدعم للعاملين في هذا القطاع فرصة التخصص خلافًا لما كان عليه الحال في البدايات؛ عندما كان المخرج كاتبًا وممثلًا ومصورًا، وكل شيء في الفِلم. 

وكان لظهور الجمعيات المتخصصة، مثل جمعية الأفلام وجمعية السينما، دورها في زيادة فرص تجويد المهارات والارتقاء بها، والسعي الحثيث للوصول إلى مستويات تليق بصناعة الأفلام السعودية، والمنافسة في الداخل والخارج، والوصول بأفلام السينمائيين السعوديين إلى مهرجانات كبرى، كما حدث لفِلم “نورة” للمخرج توفيق الزايدي، الذي جرى اختياره ضمن مهرجان كان في قسم “نظرة ما”. 

اقتصاديات السينما

يُعدُّ شباك التذاكر الاختبار الأساس لحالة صناعة السينما، والمُبرِّر الأساس لاستمرار هذه الصناعة وتفرّغ العاملين فيها للفنِّ. وقد حقّقت السينما السعودية إيرادات تفوق 3.7 مليارات ريال ما بين أبريل 2018م ومارس 2024م، وفقًا لأرقام الهيئة العامة لتنظيم الإعلام، وذلك بعد بيع أكثر من 61 مليون تذكرة خلال تلك الفترة. وقد وصل 45 فِلمًا سعوديًا إلى صالات العرض في منافسات فيما بينها، وآخر ما تحقق من أرقام بدخول فِلم “شباب البومب” لصالات العرض، وبيعه لمائة ألف تذكرة في أول أيام العرض، وإيرادات تفوق خمسة ملايين ريال سعودي، والمبلغ قابل للزيادة كل يوم. فهذا الدخل يُغري العاملين في المجال لتحقيق المعادلة الصعبة بإرضاء الجماهير، والمحافظة على المعايير الفنية. 

الاحتفال بفلم “سطّار” في الدورة الثامنة لمهرجان أفلام السعودية.

أسرة سينمائية واحدة

وازن مهرجان أفلام السعودية في اهتماماته بين الشباب والروّاد؛ فحفظ للكبار حقهم منذ أن أسمى شخصية لتكريمها في كل دورة، بدءًا بالمخرج السعودي عبدالله المحيسن في الدورة الأولى؛ والفنان إبراهيم القاضي، الهندي المولد السعودي الأصل، الذي أثرى الحركة الفنية في الهند، وجرى تكريمه في الدورة الثانية؛ والمخرج السعودي سعد الفريح، رحمه الله، في الدورة الثالثة، إذ للأموات مكانتهم كما للأحياء؛ والفنان سعد خضر في الدورة الرابعة؛ والفنان لطفي زيني؛ والمخرج الإماراتي مسعود أمر الله، في الدورة الخامسة. ولأن السادسة مختلفة بسبب ظروف جائحة كورونا، فقد غاب التكريم اضطرارًا، ليعود في السابعة بالمخرج السعودي مأمون حسن، والمخرج البحريني بسام الذوادي. وفي الثامنة، جرى تكريم المخرج خالد الصديق من الكويت، وخليل الرواف، الممثل العربي الأول الذي وقف أمام كاميرات هوليوود في عام 1939م. وفي الدورة التاسعة، جرى تكريم المنتج السعودي صالح الفوزان، والناقد السينمائي البحريني أمين صالح. وفي الدورة العاشرة، سُمّي الفنان السعودي عبدالمحسن النمر، ليكون الشخصية المكرّمة. 

تكريم الكبار، بقدر ما هو عرفان جميل، هو أيضًا تحفيز للشباب على السير على خطى من سبقوهم على الدرب. واللفتات الحانية داخل أسرة سينمائية واحدة، تبقى حقيقة لا مجازًا. ومن ذلك على سبيل المثال، عندما أعطى عبدالله المحيسن كلمته لأصغر مخرج في الدورة الأولى وهو فيصل الحربي، الذي أصبح لاحقًا منتجًا يتابع مسيرته الفنية التي اختارها. والأمر نفسه ينطبق على محمد الهليل، الذي كان أصغر مخرج سعودي عند مشاركته الأولى، وترسَّخ اسمه عميقًا في هذه الصناعة بتوالي إنتاجاته. ففئة أفلام الطلبة لا تقل أهمية عن غيرها من فئات المهرجان. ومشاركة جامعة “عفت” المبكرة، كانت تعاونًا حقيقيًا بين المهرجان والأكاديميات التي نترقب زيادتها، وننظر إلى المستقبل من خلالها. فالشباب هم عماد الصناعة، والمهرجان بيتهم الكبير الذي يحضنهم. 

افتتاح الدورة الثانية في مخيم أرامكو 2015م.

في البهو: ما على الهامش
لا يقل أهمية عمَّا في المتن

يضم مهرجان أفلام السعودية في كل دوراته برامج ثرية، فعروض الأفلام هي أساس المهرجان، والندوات وورش العمل وقوده الذي لا ينضب. ويتوسع المهرجان في كل دورة بوصوله إلى سوق الإنتاج. وهو، في الوقت نفسه، فرصة للقاءات والحوارات التي تكشف عوالم صُنّاع الفنِّ. وككل اللقاءات الثقافية والمهرجانات الفنية، لا يقل الهامش أهمية عن المتن، ونعني بالهامش لقاءات التعارف والجلسات المسائية، عندما يتحلق الضيوف حول الشاي في البهو الكبير، حيث تتواصل النقاشات لتستكمل حوارات القاعات، وتُعقد الصداقات التي تساعد في إنجاز المشروعات المقبلة للدورات اللاحقة، وتتواصل الأجيال.

فشباب المخرجين يلتقون بالممثلين الكبار، وهكذا تحقَّق تعاون الكبار بانفتاحهم على دعم صُنّاع الأفلام منذ البداية، فترى ممثلين مثل إبراهيم الحساوي في كثير من الأفلام مع مخرجين شباب وشابات، وكذلك علي المدفع، وسناء بكر يونس، وعبدالعزيز المبدل، وعبدالمحسن النمر وغيرهم كثيرون.

والأمر نفسه ينطبق على اتفاقات الممثلين الشباب مثل: مشعل المطيري، ويعقوب الفرحان، وخالد صقر، وإلهام علي، وزارا البلوشي وغيرهم، الذين يلتقون بالمخرجين، ويتعرّفون على ملخصات الأفلام المقبلة وأفكارها، ويتعاقدون على ما يتحمسون له من تلك المشروعات.

مستقبل المهرجان وتعاظم المسؤوليات

سلمان خان، ضمن فعاليات الدورة الخامسة من المهرجان.

العاشرة سافرة، كما يقولون. لذا، فالدورة الحالية مرآة لما وصل إليه المهرجان من تطور في القدرات والإمكانات؛ مرآة لصناعة السينما السعودية وأحد محركات انطلاقتها. وإطلاق مقر جمعية السينما بالتزامن مع الدورة العاشرة، حدث يستحق الاحتفاء. وفي الوقت نفسه، دافع إلى مزيد من التقدم، وإلقاء المزيد من المسؤولية على إدارة المهرجان بقيادة أحمد الملا، والفريق الذي ينمو ويتكامل عامًا بعد عام؛ لكي يكون على مستوى واقع السينما السعودية الواعد. 

حول الدورة العاشرة

  • محور الدورة: سينما الخيال العلمي.
  • الشخصية المُحتفى بها: الفنان السعودي عبدالمحسن النمر.
  • فِلم الافتتاح: “أندرقراوند” للمخرج السعودي عبدالرحمن صندقجي.
  • 36 جائزة سينمائية.
  • 76 فِلمًا يُعرض خلال الدورة.
  • تنظيم 10 ورش تدريبية.
  • إصدار 20 كتابًا ضمن “الموسوعة السعودية للسينما”.
  • تتضمن الدورة العاشرة”متحف المهرجان”، الذي يعرض تاريخ المهرجان منذ تأسيسه.

مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “مهرجان أفلام السعودية في عقد”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *