ربما كان مصطلح “ريادة الأعمال” من أكثر المصطلحات رواجًا في العقد الأخير، ليس فقط في أوساط الشباب الطامحين والباحثين عن الثراء، بل حتى في أوساط الشباب المهتمين بالقضايا الاجتماعية كالبطالة وجودة الحياة وما إلى ذلك. نسمعهم يرددونه في مختلف أطروحاتهم ونقاشاتهم، إما منتصرين لفكرة ما تدور في فلكه، وإما مفندين لأخرى. إلا أنه من الملحوظ ربطهم المتلازم بين هذا المصطلح وبين الثورة التقنية الحديثة. إذ لا تكاد تخلو جملة تستخدم فيها “ريادة الأعمال” من جملة أخرى تصف تطبيقًا ذكيًّا أو برنامجًا حاسوبيًّا يعمل بكفاءة منقطعة النظير. فهل هذا ربط سليم؟ أم إنه اختزال مخل بهذا المفهوم؟
“ريادة الأعمال لا تقتصر على شكل معيَّن من أشكال الشركات الناشئة، ولا على قطاع محدد، وإنما هي روح جسورة وثّابة تتطوَّر مع الاستقلالية والفردانية“
يقول أحد التعريفات المتداولة لرائد الأعمال إنه “الشخص الذي ينشئ عملًا حرًّا يتسم بالإبداع ويتصف بالمخاطرة”. ولعلنا نجد في هذا التعريف ابتسارًا وقصورًا لمفهوم ريادة الأعمال. ففي حقيقة الأمر، إن مصطلح، “ريادة الأعمال”، يصف “روح الرأسمالية”، يصف قلبها النابض. ولأنه بهذه الأهمية الجوهرية فقد ارتأينا الحديث عنه، عن سياقه التاريخي، وتعريفاته المتعددة، وعن القصة الطريفة التي كان بطلها جان باتيست ساي، الاقتصادي والمغامر الفرنسي، الذي سك هذا المصطلح في نهاية القرن الثامن عشر.
في ذلك الوقت، كانت هناك عدة مدارس اقتصادية أوروبية تتنافس فيما بينها محاولة تقديم “النظرية النهائية” للاقتصاد؛ مثل مدرسة “الماركنتاليين” ومدرسة ” الفيزوقراطيين”، بالإضافة إلى المدارس الاشتراكية التي تقدِّم فلسفة مختلفة للقيمة، وكيفية تخليق الثروات.
كان جان باتيست ساي تاجر سكر يجوب المستعمرات باحثًا عن أفضل الصفقات، متنقلًا من قارة إلى قارة ومن دولة إلى أخرى، وكان في الوقت نفسه مهتمًّا بالشأن الاقتصادي متابعًا للنقاشات النظرية والأطروحات الفلسفية في هذا الشأن. وحدث أن قرأ كتاب آدم سميث الشهير “تساؤل عن طبيعة وأسباب ثروات الأمم”، فما كان منه إلا أن شعر بتلك اللحظة الأرخميدية التي تُنسب لأرخميدس، عندما اكتشف قانون الطفو وبدأ يركض في شوارع أثينا عاريًا وصارخًا ” يوريكا يوريكا”.. أي وجدتها. وجد جان باتيست بغيته في أطروحة آدم سميث واكتشف ما ينقص هذه الأطروحة المهمة، فما كان منه إلا أن تقدَّم بفكرته الرائعة التي نحن بصددها.
الفرص المحفوفة بالمخاطر
بحسب النظرية الكلاسيكية الاقتصادية التي كان عرابها آدم سميث، فإن عوامل الإنتاج تذهب المجالات الأكثر طلبًا، بحثًا عن الربح الأعلى، وذلك بما يحقق حاجات البشر ورغباتهم. وأطلق على هذه القوة مفهوم “اليد الخفية”، التي تتولى موازنة السوق والتحكم في قوى العرض والطلب. ورغم أهميتها، تنطوي هذه النظرية على افتراض مضمر بأن المعلومات متاحة للجميع بلا تفرقة، وأن حساب الأرباح والتكاليف مكشوف ومعلوم لجميع الأطراف بشكل متساوٍ، الأمر الذي من شأنه جعل عملية توجيه عوامل الإنتاج والموارد خالية من المخاطر.
هذا الظن المضمر هو ما اقتنصه جان باتيست ساي، ثم قام بمخالفته مدشنًا لمصطلحه الجديد “ريادة الأعمال”.
فكرة جان بابتست ببساطة هي أن الفرص محفوفة بالمخاطر، والمخاطر بطبيعتها تخضع للاحتمال والتنبؤ، ولا يستطيع أي شخص مهما كانت خبرته ونجاح توقعاته أن يجزم بنتيجة استثماره. لأنه، واقعيًّا وبخلاف قوى العرض والطلب، توجد قوة أخرى يحتاجها الاقتصاد، وهي الإقدام والجرأة والجسارة.
فرائد الأعمال هو من يقدم على المخاطرة ويسعى للحصول على أفضل العوائد وتوظيف الموارد بأكبر قدر من الكفاءة الممكنة. فعامل المجهول في الاقتصاد هو ما يخلق المخاطر، وهذه بدورها هي ما تغير معادلات الربح والخسارة، فالأرقام المحضة للأرباح والعوائد لا تعني شيئًا إذا لم تكن في سياق المخاطر المصاحبة لها.
من أين جاءت الكلمة؟
أما فيما يخص كلمة (Entrepreneur) انتربرينور، فهي فرنسية الأصل انتقلت للإنجليزية بالمعنى الذي سكه جان باتيست. وهي عبارة عن كلمتين لاتينيتين: الأولى entre وتعني “السباحة لـ” والثانية preneur وتعني “يصيد” أو “يقبض”. وسك جان باتيست هذه الكلمة الفريدة، وحاول في أطروحته أن يجعل رائد الأعمال رابع عامل من عوامل الإنتاج بجوار الأرض (الموارد الطبيعية)، واليد العاملة، ورأس المال (الآلات).
أما التعريف الأكثر أناقة والأوضح، فهو ذاك الذي وضعه الأب الروحي لريادة الأعمال في كلية هارفرد للأعمال، البروفيسور هاورد ستيفنسون، والقائل: “ريادة الأعمال هي السعي وراء الفرص بتجاوز الموارد المتاحة”. وفي تفصيله لذلك التعريف نجد الآتي:
“السعي”، الذي يدل على بذل الجهد والتركيز وراء هدف محدَّد، والكلمة لها دلالة العجلة والسباق مع الوقت للإنجاز، إذ عن الوقت هو أهم مورد من موارد رائد الأعمال.
“الفرص”، وهنا بيت القصيد، حيث أوضح أن الفرص قد يكون لها صفة أو أكثر من هذه الصفات الأربع :
1 – اختراع منتج جديد
2 – ابتكار نموذج عمل جديد
3 – صنع منتج أفضل أو أرخص من منتج موجود
4 – توجيه منتج قائم لعملاء جدد
“بتجاوز الموارد المتاحة” تدل هذه العبارة على قدرة رائد الأعمال على تجاوز قيود الموارد المفروضة عليه، حيث إن إضافته النوعية تكون بتكييف قدراته الذاتية وعلاقاته ومدخراته البسيطة في خلق نشاطات اقتصادية منتجة بحلول إبداعية وبكفاءة تتفوق على الكيانات القائمة.
بعودتنا إلى التعريف الذي ذكرناه في البداية لرائد الأعمال: “الشخص الذي ينشئ عملًا حرًّا يتسم بالإبداع ويتصف بالمخاطرة“، أجد أن هذا التعريف قاصر من ناحية ربطه العمل الإبداعي بروح الريادة، لأن هناك أكثر من وجه لريادة الأعمال في منتجات أو نماذج عمل لا إبداع فيها، ولكن الإقدام بجسارة على بدء العمل المستقل بحد ذاته هو صلب الريادة. كما أن هذا التعريف يفترض أن هناك عملًا حرًّا ذا مخاطر وآخر من دونها، وهذا مخالف لطبيعة الأسواق، عدم الموثوقية الطبيعية في الأسواق تعني عدم ضمان الربح، وعليه يأتي دور رائد الأعمال في تحمل تلك المخاطر.
ريادة الأعمال وروح الأفراد
نخلص إذن، إلى أن ريادة الأعمال لا تقتصر على شكل معيَّن من أشكال الشركات الناشئة ولا على قطاع محدَّد، وإنما هي روح لدى الأفراد بغض النظر عن أعمارهم وجنسهم وخلفياتهم الثقافية والعلمية. روح جسورة وثَّابة تتطور مع الاستقلالية والفردانية، مع الأخذ في الاعتبار تأثير الضغط الثقافي على وجود تلك الروح سلبًا وإيجابًا. فعلى سبيل المثال، نجد أن أضعف الشعوب الأوروبية في ريادة الأعمال هي شعوب شرق أوروبا الخارجة من المعسكر الشيوعي، حتى بعد عقود من مغادرتها ذاك الأنموذج الذي تكون الدولة فيه مهيمنة على الأسواق، وظلَّ التاثير الثقافي المجتمعي حيًّا وقويًّا. أما في دول شمال أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية فنجد أن ريادة الأعمال تسجل أعلى المستويات. وما ذلك إلا لأن الثقافة تشجع العمل الحر والفردانية وخوض المغامرات والسعي خلف الفرص حتى تحقيقها.
كذلك نجد أن تعريف رائد الأعمال وجد قبل تعريف ريادة الأعمال، لأن المفهوم ارتبط بروح الفردانية الساعية نحو اكتشاف أفضل الفرص المتاحة لخلق قيمة اقتصادية مضافة.
ريادة الأعمال وطموح الرؤية
وفي طور التحول الاقتصادي الذي تعيشه المملكة، منذ إطلاق الرؤية الطموحة 2030، فإننا نجد أن الفرصة سانحة لرواد الأعمال ولريادة الأعمال، سواء أكان ذلك عبر خلق منتجات جديدة أم بواسطة تطوير نماذج عمل مبتكرة، أو حتى تحسين منتجات وخدمات متوفرة أو إيصال المنتجات إلى عملاء جدد.
في الوقت الراهن، يتم تخليق قطاعات نوعية جديدة لم تكن تحظى بالاهتمام الكافي، مثل قطاعات السياحة والترفيه وغيرها. كذلك تنحو الخطط الحكومية إلى خصخصة كثير من القطاعات الخدمية التي تحتاج مقدمي خدمات ذوي قدرات نوعية
ففي الوقت الراهن، يتم تخليق قطاعات نوعية جديدة لم تكن تحظى بالاهتمام الكافي، مثل قطاعات السياحة والترفيه وغيرها. كذلك تنحو الخطط الحكومية إلى خصخصة كثير من القطاعات الخدمية التي تحتاج مقدِّمي خدمات ذوي قدرات نوعية، آخذين بعين الاعتبار أن الخطط الإستراتيجة التي تنتهجها الحكومة لرفع كفاءة الاقتصاد ترتكز على محورين أساسيين يندرج تحت كل منهما عدد من المبادرات. هذان المحوران هما ترشيد الطاقة وتحسين كفاءة الإنفاق.
ونلاحظ أيضًا التركيز العالي على رفع نسبة المحتوى المحلي في جميع القطاعات، سواء ما كان من صميم ميزاتنا المحلية مثل صناعة النفط والغاز، أم من ضمن القطاعات الوليدة التي لم تكن ممكنة لولا التوجه الحكومي نحو الخصخصة الذي ولد سوقًا جديدة.
نخلص مما سبق إلى أن رواد الأعمال حاليًّا هم خيول السباق التي يُراهن عليها للارتقاء بالاقتصاد المحلي وتحقيق مستهدفات رؤية 2030، وأن ريادة الأعمال لا تقتصر على الابتكارات التقنية، بل هي أوسع من ذلك بكثير. صحيح أن توظيف التقنية الحديثة يُعد أحد العوامل المساندة التي تعزز الكفاءة وتقلل التكلفة، ولكنه جزء من كل. أما الأهم والأعم فهو وجود تلك الروح الوثابة الجسورة التي تنتهز الفرص وتُقدم على أخذ المخاطر المحسوبة.
أعتقد أن الإهتمام يجب أن يبدأ من الصغر. فغالبية رواد الأعمال بدأوا أفكارهم وتطلعاتهم وهم في سن مبكرة. اليوم قدمها لطلاب مدرستنا دورة قصيرة عن رياة الأعمال الصغار. الله الموفق لكل خير
اتفق مع الكاتب في مقالته الجيده . ما يمكن أضافته ان رائد الاعمال ينمو في البيئه التي تشجع الانظمه قدرا جيدا من المخاطره ودخول اصحاب الاموال او الدوله في تقديم التمويل اللازم لبدأ رائد الاعمال خطواته الاولى . كما ان دول الاسكندنافيه افضل من الولايات المتحده في دعم رواد الاعمال مع قدر عال من الاهتمام بمصلحة المجتمع وعدم ترك الجشعين ينهشون صغار رواد الاعمال نظرا لقوتهم الماليه والسياسيه كما هي الحال في الولايات المتحده .