عدد أكتوبر 1970م (شعبان 1390هـ)
إذا كان ميدان التجربة في التأليف المسرحي، في الأدب العربي عمومًا ضيقًا محددًا، فكيف به في الأدب السعودي؟ إننا لا نجد بين الآثار الأدبية المطبوعة من هذا الأدب ما يؤكد وجود المسرحية كأثر بارز فيه، غير أننا لا نستبعد إمكانية وجود نتاج مسرحي يصح أن يكون نواة للمسرحية في أدبنا العربي. وها هو رائد المسرحية العربية توفيق الحكيم يقول:
“إن أدبنا العربي لم يعترف بالأدب المسرحي قالبًا أدبيًا إلى جانب المقالة والمقامة إلا منذ سنوات قلائل، كما أننا لم ننقل إلى لغتنا من أدب المسرح، قديمه وحديثه، إلا منذ سنوات قلائل أيضًا… فمؤلفنا المسرحي المعاصر ينهض إذن على فراغ أو على شبه فراغ من تجارب قليلة ضئيلة، لم ترسخ بعد في لغته وأدبه، ويعمل وخلفه فجوة هائلة لم تملأها جهود السابقين على مدى الأجيال”.
على أنه لا يخفى على الباحث أن من أسباب التأخر الأدبي المسرحي، عدم وجود مسرح يستهلك ما يُكتب له من مسرحيات، وكذلك عدم الاهتمام بالقالب المسرحي من جانب الأدباء والكُتاب أنفسهم.
وعلينا ونحن نتتبع ظهور المسرحية في أدبنا أن نشير إلى التمثيليات الإذاعية والتلفزيون، وبعض الروايات والقصص التي أُعيدت كتابتها مسرحيًا، وأخص منها بالذكر روايتي الأستاذ الراحل حامد دمنهوري: “ثمن التضحية”، و “مرت الأيام”.
ومن ثم فإن محاولات لا بأس بها، أثبتت أن بالإمكان وجود إنتاج مسرحي على مستوى معين ربما كان يتطور لو أنه استمر منذ بدايته، فقد كان بمقدور أحمد عبدالغفور عطار أن يعطي عطاء ثرًّا في المسرحية، كما أثبتت المسرحيات التي كتبها إبراهيم الناصر، بأنه يمضي قدمًا في كتابة المسرحية، وخالد خليفة، وعبدالله بوقس الذي كتب المسرحية التربوية، وسميرة بنت الجزيرة، ومحمد إسماعيل جوهرجي. كذلك لا ننسى الشاعر حسن عبدالله القرشي الذي لديه مسرحية شعرية بعنوان “ثنيات الوداع” نرجو أن ترى النور في القريب العاجل.
على أن ذلك لم يكن كفيلًا بإظهار شخصية الأدب المسرحي السعودي، قبل أن تستمر هذه المحاولات في انطلاقها من نقطة البداية، كما لا بد أن يسبق ذلك الاطلاع الكافي الواعي على أصول الفن المسرحي، والأدب المسرحي.
ولا بد لنا ونحن نتحدث عن تاريخ المسرحية في أدبنا أن نستعرض بعضًا من نتاج كُتابنا في هذا الميدان، لكي نقف منه موقف المستبصر بواقعه، الباحث عن نقطة الانطلاق، ومن ثم نخرج من كل ذلك بنتيجة، هي خلاصة ما أنتجه الأدب السعودي في القالب المسرحي.
أحمد عبدالغفور عطّار
أديب ذو إنتاج خصب، متعدد الألوان، في الدين، واللغة، والأدب، والاجتماع، والشعر، والقصة.. تربو مؤلفاته على ثلاثين مؤلفًا، وُلد بمكة المكرمة عام 1377 هجرية. أما في مجال أدب المسرحية، فقد ترجم مسرحية “الزنابق الحمر” للفيلسوف والشاعر الهندي طاغور (1371هـ)، كما ترجم مسرحية “المفتش” لغوغول (1385هـ). وله مسرحية “الهجرة” التي سنستعرضها في بحثنا هذا.
مسرحية الهجرة
وهي مسرحية تاريخية من فصل واحد وسبعة مشاهد، تروي قصة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب. وقد ظهرت هذه المسرحية للمرة الأولى عام 1366هـ، ثم أُعيد طبعها ضمن كتاب المؤلف “قطرة من يراع” عام 1375هـ.
ونلاحظ أن أحمد عبدالغفور عطّار بدلًا من أن يطلق على عمله هذا اسم “مسرحية” نجده يطلق عليه “تمثيلية في فصل واحد وسبعة مناظر”، مع أن ما قدمه لنا يعتبر عملًا مسرحيًا. والسبب في ذلك أن الوعي المسرحي العربي كان في ذلك الحين متأخرًا، رغم صدور عدد من المسرحيات في مصر. ثم إنه لم يكن هناك مجال في الإذاعة والمدارس وغيرها للمسرحية، بعكس التمثيلية. أضف إلى ذلك كله أن كلمة “مسرحية” كانت جديدة في عالمنا العربي في ذلك الوقت.
وأهم ما يميز هذه المسرحية حوارها الواقعي، فمؤلفها ينفذ واقعية الحوار، وهو يكتب لنا مسرحية تدور حوادثها في بداية العصر الهجري الأول وقبيل انتشار الإسلام، فإن لغة الحوار تلتزم في مفرداتها ما كانت عليه اللغة في ذلك العصر من أسلوب، فكلمة “صارد” أوردها المؤلف في ثنايا حديث “سراقة ابن مالك”، وهي تعني السهم النافذ الذي لا يُخطئ هدفه.
وها هو عتبة بن ربيعة يتحدث، فيقول: “أيها القوم، لقد رأيتم ما كان من محمد، وإني لأخشى أن يستفحل شره ويعظم أمره، فيصيبنا منه ما لا تحمد عقباه، وإن العواصف تتجمع لتهب دفعة واحدة فتذرونا هباءً، فأجمعوا أمركم ورَوا رأيكم”.
ونلاحظ أن المؤلف لا يهتم كثيرًا بأمر مشاهد المسرحية، ففي المشهد السادس، وبعد انطلاق الرسول بصحبة أبي بكر والدليل عبدالله بن أريقط نجده يصف لنا مشهدًا بعد انطلاق القافلة، ويتبعه الحوار التالي:
“مشت القافلة على اسم الله، وقريش مجتمعة تفكر في محمد، ومعهم سراقة بن مالك، وبينما هم كذلك أقبل رجل من بني مدلج، وقال لسراقة، وكان شيخهم:
المدلجي: لقد رأيت رجالًا ثلاثة بالساحل، أراهم محمدًا وصاحبيه.
أبو بكر: لقد بعدنا عن القوم.
ابن أريقط: إنني أسمع وقع حوافر على بعد بعيد!! لا أسمع شيئًا.
أبو بكر: (يلتفت) وقع حوافز!.! لا أسمع شيئًا.
ورغم تفكك واقعية الحديث هنا، فإننا نلاحظ أن المدلجي بينما يوجه الحديث لسراقة، نجد أن الحديث ينتقل فجأة إلى أبي بكر، وكأن المدلجي يُحدّث أبا بكر، لا سراقة ..!
وهنا لا بد أن يسبق هذا الانتقال المفاجئ انتقال إلى مشهد القافلة وهي تسير ويسير معها أبو بكر.
إبراهيم الناصر
كاتب قصصي، وُلد سنة 1349هـ في الرياض وأصدر أول قصصه “أمهاتنا والنضال” عام 1379هـ، وهي مجموعة قصصية، وله قصة طويلة بعنوان “أرض بلا مطر” في عام 1387هـ عن الدار السعودية للنشر، ولديه أعمال جديدة في مجال القصة في طريقها للصدور.
أما في مجال المسرحية، فقد كتب مسرحية “متهم” وهي مسرحية قصيرة، وله مسرحية “ربيع العمر” ومسرحية “عقاب” و”ضحية الثأر”، وجميع هذه المسرحيات الثلاث الأخيرة مأخوذة من التراث الشعبي. أما آخر مسرحية كتبها فهي “الصفقة المحرمة” وهي عن قصة له بهذا العنوان.
مسرحية “متهم”
كتب إبراهيم الناصر مسرحيته هذه عام 1382هـ (1963م) من فصل واحد، وثلاثة مشاهد، وهي تعد خطوة مطمئنة للأدب المسرحي السعودي.
وقد وقعت أحداث هذه المسرحية قبل أكثر من مائة عام في محكمة من المحاكم التركية العثمانية. وتتألف هيئة المحكمة من القاضي، ومستشارين له وكاتب، وجميعهم عثمانيون. أما المتهم فهو المدعي نفسه! وهذا المتهم يرى أن “العاطل في هذه الحياة كالحيوان الأعجم، ووجوده كعدمه”. فمشكلته أنه عاطل لا عمل له.. وقد كان من سوء حظ مُسجّل المحكمة أن قررت المحكمة فصله عن العمل لأنه أضاع ملف القضية، والقاضي ومستشاروه يبحثون عن دعوى المتهم هذا، وعن خصمه، والمتهم يؤكد لهم أنه من الصعب أن يمثل الخصم أمام المحكمة، وبعد أخذ ورد وشيء من المناظرة الكلامية، يقول المتهم:
المتهم: إن خصمي يا سيدي، هو المجتمع.. المجتمع بأسره، فهل تراك تستطيع محاكمة المجتمع بأسره!!
ويسود القاعة صمت، ثم يعلو الهرج على أثر ما قاله المتهم.
القاضي: وماذا عمل لك المجتمع ..؟!
المتهم: لقد مسخ حيويتي يا سيدي، أحالني إلى قطعة جماد متحركة، إلى مجرد أداة لا نفع فيها، هذا بعض ما عمله لي.
وهنا يلوح للقاضي أن المتهم سليط اللسان قوي الحجة، فيخاطبه قائلًا:
القاضي: ما رأيك أن تعمل لدينا .. هنا في المحكمة بوظيفة مسجل!
المتهم: ولكن .. ولكن يا سيدي، الأستاذ سيحضر عما قليل!!
القاضي: (مبتسمًا وكأنما قد عثر على الحل الذي يريحه من المسجل، ومناقضات المتهم) اطمئن، إنه لن يحضر، لقد فصلناه.
المتهم: ولكن هذه قضية أخرى، أنكم تفصلونه لتوظفوني، أين الحل إذن يا سيدي؟
القاضي: سيجد من يتصدق عليه بلقمة، فلِمَ تشغل نفسك بالآخرين؟
المتهم: إن هذه نفس قضيتي في الواقع، فالتصدق يقتل روح العمل والطموح، ونحن نبحث عن حل جذري للقضية، فإذا كان البحث مُنصبًا على تأمين لقمة العيش، فقد عدنا إلى النقطة التي بدأنا منها، وهي تعطيل الطاقات بالتدريج.
القاضي: (مقاطعًا) يا أخي لقد حيرتنا والله، نحن نريد أن نصل معك إلى حل، فتفتح لنا أبوابًا جديدة، لتضيع وقتنا، ألست تبحث عن عمل؟
ويستمر الحوار بين القاضي والمتهم الذي يفتح له أبوابًا جديدة ومشاكل أخرى، وكأنما هو محام ومدّعٍ معًا في آن واحد.
وفي هذه المسرحية القصيرة، وُفّق إبراهيم الناصر إلى اختيار البطل، فقد اختار بطلًا يدافع عن القيم الإنسانية، وكذلك وُفّق في تصوير المشاهد والشخصيات واختيارها. وتعد مسرحيته هذه من نوع ملهاة الطباع. فالشخصية المضحكة في ملهاة الطباع تجهل عيبها عادة، وتصدر في أقوالها دون وعي منها بما ترتكب من أخطاء، وهذا نوع من التصلب في إهمال النظر إلى المجتمع.
سميرة بنت الجزيرة
لم أجد لدي من المعلومات ما أترجم به لحياة هذه الكاتبة، غير ما كتبه ناشر مجموعة قصصها “وادي الدموع” الذي يقول:
“أما صاحبة الاسم، فهي كاتبة سعودية مثقفة، من أسرة كريمة، اتخذت الكتابة هواية، وجعلت الدعوة إلى إصلاح أحوال المرأة في بلادها هدفًا”.
وصدر لها أربعة كتب قصصية هي “وودعت آمالي”، و “ذكريات دامعة”، و “بريق عينك” وقد صدرت منها طبعتان الأولى عام 1963م والثانية عام 1967م، و “يقظة الفتاة العربية السعودية”، ومجموعة قصص مسرحية هي “وادي الدموع”. وآخر قصصها هي “قطرات من الدموع” وقد صدرت عام 1967م.
مسرحية “وادي الدموع”
وهذه مسرحية في أربعة فصول، تعالج بعض المشاكل الاجتماعية التي كان يعاني منها المجتمع في البلاد، مثل مشكلة تعليم الفتاة. والمسرحية، وهي من نوع الدرامة الواقعية، وزعت المؤلفة أشخاصها بين عائلتين، الأولى: عائلة ثرية، والثانية متوسطة الحال. ويتقاسم دور البطولة فيها ثلاثة أشخاص هم: حنان، وطارق أخوها، وعبير صديقة حنان ومدرستها وهي طالبة جامعية في الوقت نفسه. أما حنان فقد انتهت دراستها الابتدائية، والسبب في تأخرها عن متابعة دراستها يعود لوالدها، ويحب طارق صديقة أخته ومدرستها عبيرًا، فيتقدم لخطبتها ويعارض والداه بحجة أن عبيرًا من أسرة متوسطة الحال. ويمانعان في ترددها على المنزل لتدريس ابنتهما للسبب ذاته، وهنا يلجأ طارق وأخته حنان إلى التردد على منزل عبير لزيارتها بين الحين والآخر. أما حنان فكانت تنتظر قدوم ابن عمها “خالد” الذي كان يدرس الطب في انكلترا. وبينما هما في زيارة عبير يحين موعد عودة خالد بعد انتهاء دراسته، فيخرج طارق لاستقباله. ثم يعود إلى أخته حنان وخطبيته عبير يحمل أنباء سيئة، وتسأله حنان:
حنان: (في لهفة) هل وصل خالد؟
طارق: (في ضيق) نعم وصل..!
حنان: ماذا بك؟ يبدو أنك لست سعيدًا لحضوره.
طارق: لا شيء.
حنان: أفصح عما عندك.
طارق: خير لك أن تعرفي الحقيقة الآن يا حنان، وتنسي الأحلام التي تعيشين فيها.
حنان: (في فزع) أتوسل إليك .. ماذا حدث؟
طارق: (في ألم) لقد تزوج خالد من فتاة أجنبية وأحضرها معه.
حنان: ماذا تقول؟ خالد تزوج! لا أصدق.. لا أصدق.. ولكن ما سبب زواجه؟ (من خلال دموعها) نحن مخطوبان..
طارق: لقد قال لي بصراحة “يا طارق كان عليّ أن أتزوج من فتاة متعلمة تفهمني وأفهمها.. وتساعدني في عملي”.
حنان: (تصيح وهي تبكي) سمعت يا عبير.. إنه يريد فتاة متعلمة…. هذا ما جناه أبي عليّ.. لقد حرمني من التعليم، أضاع مني الشخص الذي أحببته منذ طفولتي.. (تبكي في عصبية).
وفي الفصل الرابع والأخير نشاهد حنانًا وهي طريحة الفراش، وتزداد حالتها سوءًا، وخلال هذا الموقف العائم تُبدي والدة طارق موافقتها على زواج ابنها من عبير، وكذلك يوافق والده، وبذلك تنتهي المسرحية.
هذه المسرحية وإن كانت فكرتها جيدة، فالبناء الفني فيها متضعضع متداع. وحبذا لو اعتنت الكاتبة بتوزيع الحوار والمشاهد، وبذلت مزيدًا من البراعة في اختيار ما يلائم كل موقف من الحديث.
من ذاكرة القافلة: عدد أكتوبر 1970م (شعبان 1390هـ)، ص 42.
اترك تعليقاً