هناك كثير من الأسباب الاقتصادية التي تجعل الإنفاق على قطاع النقل العام ضرورة حيوية، أولها وأكثرها مباشرة تقليل تـكلفة الانتقال على الفرد، وتوجيه ما ينفقه على السيارة الخاصة من صيانة ووقود وتأمين وخلافه إلى بنود أكثر فائدة، خصوصًا لدى الأسر محدودة الدخل والخيارات.
وبالنسبة إلى الاقتصاد الوطني، تُسهم شركات النقل العام وهيئاته في توفير فرص عمل لكثير من الوظائف الضرورية لتشغيلها. فقطاع النقل العام في باريس، على سبيل المثال، كان في العام الماضي يضم 63 ألف موظف. لكن الإسهام الأكبر للنقل العام يتمثَّل في تسهيل وصول السكان إلى فرص عمل تقع على مسافات بعيدة عن أماكن إقامتهم، وتعزِّز فكرة الاستدامة في التنمية والاستثمار. إذ إن النقل السريع والموثوق بمواعيده يُنعش اقتصاد المدينة، وذلك بتمكين العاملين والمستهلكين من الانتقال بسهولة إلى أماكن العمل والتسوُّق المختلفة. وهذا ما يعزِّز القدرة التنافسية والتطوير المستمر للأعمال، ويحقق التوازن في التنمية، من خلال المساعدة على تحقيق التوزيع الجيد للسكان، بكل ما يتضمنه من تنمية اجتماعية وحياة حضرية متناغمة في أرجاء الحاضرة.
إقناع الناس بفوائد النقل العام
ليس من السهل تغيير العادات والمفاهيم الاجتماعية والثقافية بسهولة، وخاصة في المجتمعات التي تُعلي من شأن الخصوصية وتعتز بالتراتبية الاجتماعية. لذلك يصعب على البعض تغيير سلوكه والاستغناء عن ميّزات استخدامه لسيارته، خصوصًا إذا فكَّر بطريقة فردية وعدَّ أن سيارته ليست الوحيدة المسؤولة عن ازدحام حركة السير والتلوث، وعدَّ نفسه غير مسؤول عن حل مشكلة عامة. لهذا، يجب أن يكون الإنفاق على النقل العام مصحوبًا بحملات توعية عبر وسائل الإعلام وغيرها، واتخاذ تدابير تُحفّز على الإقبال على استخدام وسائل النقل العامة.
ففي دراسة نشرها موقع “المعاهد الصحية الأمريكية” حول معوقات استخدام النقل العام في منطقة كالياري عاصمة سردينيا الإيطالية، تبيَّن أن العامل الاقتصادي ليس الدافع الوحيد لاستخدام النقل العام. إذ أجرى الباحثون مطابقة لأربع مجموعات من المستخدميـن وفقًا لنقطة انطلاقهم بالسيارة وبالنقل العام، ودُعيت المجموعات إلى نقاش مفتوح، حيث كشفوا عن عوامل كثيرة تؤثر في اختيار وسيلة النقل، من بينها المفاهيم الاجتماعية، وتصميم مواقف ومحطات النقل العام، وانضباط المواعيد، وتوفير وسائل الرفاهية مثل: النظافة وتـكييف الهواء و”الواي فاي”.
وهناك كذلك فئة الذين يعانون رهاب الزحام أو الخوف من الضوضاء، أو يخشون المعاملة السيئة من العاملين في النقل العـام من السائقين ومديري الحركة في مواقف الحافلات. ففي بحث أجرته “مؤسسة الصحة النفسية البريطانية” استطلع آراء أشخاص من تلك الفئة، وتحدثوا عن إحساسهم بالخوف من الوجود في وسط الزحام، وشكَوا سوء المعاملة وضيق الحيِّز المكاني المتاح لهم. وهذه الفئة بحاجة إلى الدعم النفسي، واللجوء إلى إستراتيجيات لتقليل هذه العيوب، منها استخدام السماعات في الأذنين، ووضع النظارات الشمسية لتقليل التواصل مع الآخرين. وبالقدر نفسه، هناك ضرورة للرقابة على مقدمي الخدمة وضمان حسن تصرفهم.
وفي حالة تمتع وسائل النقل بدرجة مناسبة من الرفاهية والخدمات العصرية مثل شبكة الإنترنت، فإنها توفر الملايين من ساعات العمل لبعض المهنيين والطلاب بتمكينهم من استغلال وقت الانتقال في العمل بدلًا من قيادة السيارة.
إضافة إلى ذلك، يُسهم تطوير البنية التحتية للنقل العام في زيادة قيمة العقارات القريبة من المحطات، وهو ما يحفز الاستثمارات العقارية ويزيد النشاط الاقتصادي في تلك المناطق. ففي لندن، على سبيل المثال، نجد أن العقارات القريبة من محطات المترو تُسجِّل ارتفاعات مستمرة في قيمتها؛ نتيجة لتحسين الوصولية والطلب المتزايد على تلك المناطق. وهذا ما أدى إلى تطوير مشاريع تجارية وسكنية جديدة حول المحطات أسهمت في تعزيز الاقتصاد المحلي.
غير أن كل هذه المكاسب الاقتصادية للنقل العام في كِفَّة، والفوائد البيئية الضخمة في كِفَّة أخرى؛ لمساهمتها الكبيرة في تحقيق جودة الحياة، التي تعود فتترجم إلى اقتصاد إذا حسبنا ما توفره الدولة من كلفة شراء الوقود والإنفاق على القطاع الطبي وغيره من جراء التلوث.
على المستوى البيئي
تشير دراسة نشرها موقع “هيئة النقل العام” في كنساس سيتي إلى أن %85 من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري تأتي من قطاع النقل. وهذا يعني ببساطة أن تركيز الجهود في تخفيض انبعاثات النقل يفوق في قيمته كل جهود التوفير في الاستهلاك المنزلي للطاقة، مثل: استخدام الأجهزة والمصابيح الموفّرة للطاقة، وضبط منظمات الحرارة تبريدًا وتدفئة.
ويُحقِّق التوسع في استخدام النقل العام في مقابل السيارة الخاصة هذا الهدف البيئي؛ إذ تؤكد دراسة نُشرت في موقع “جامعة كاليفورنيا” أن السيارة تطلق رطلًا من الانبعاثات في كل ميل تقطعه. وهكذا، فإن استخدام شخص واحد لوسيلة نقل عامة بدلًا من سيارته لمسافة عشرين ميلًا في اليوم، يوفر عشرة كيلوغرامات من الانبعاثات يوميًا؛ أي نحو طنين ونصف في السنة، باعتبار أن هناك أيامًا لا يُتنقل فيها مثل هذه المسافات. وهذا يعني تخفيض %10 من انبعاثات الغازات التي تنتجها أسرة من شخصين بالغين.
تآكلت حسنات الانتقال بالسيارة الشخصية بفعل الاختناقات المرورية المتعاظمة في المدن، ولكن الإقناع بحسنات النقل العام يحتاج إلى جهد وتوعية.
واستنادًا إلى دراسة موقع “هيئة النقل العام”، توفِّر وسائل النقل العام في الولايات المتحدة الأمريكية 37 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنويًا؛ أي ما يعادل الانبعاثات الناتجة عن توليد الكهرباء لاستخدام 4.9 ملايين أسرة. وتشير الدراسة نفسها إلى أن استخدام النقل العام في الولايات المتحدة الأمريكية يوفِّر ما يعادل 4.2 مليارات جالون من البنزين سنويًا. كما أن تقليل عدد السيــارات الخاصة يعني طرقًا أقل، وتلويثًا أقل للهواء، وضوضاء أقل.
بتقليل الانبعاثات تتحسَّن جودة الهواء، ويستتبع ذلك عدد من الفوائد الصحية، منها انخفاض حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والسرطان، بالإضافة إلى أن جودة الهواء تشجع الناس على الخروج وممارسة الرياضة بكل ما يعنيه ذلك من تحسين للصحة البدنية والنفسية للأفراد؛ إذ يبعدهم استخدام النقل العام عن مخاطر العزلة. وكل هذه الفوائد الصحية لا تُقدَّر بثمن بالنسبة إلى حياة الأفراد، لكنها تُترجم اقتصاديًا أيضًا باحتساب ما يوفِّره ذلك من الإنفاق على قطاع الصحة.
بعض شروط نجاحه وعوامل إفشاله
على الرغم من كل هذه الحسنات التي يتمتع بها النقل العام الحضري من حيث المبدأ، فإن نجاحه ليس مضمونًا؛ لأنه في بعض الأحيان لا يحقِّق النتائج التي كانت متوخاة منه. وحتى في الحواضر حيث يعمل النقل العام بشكل جيد، هناك بعض خطوطه المخيِّبة للتوقعات. ولكن، وبوجه عام، تستفيد شبكات النقل العام المُنشأة حديثًا من الدروس والعِبر المُستقاة من تجارب الآخرين على مدى قرن ونصف من الزمن، إضافة إلى استفــادتها من التقدُّم التكنولوجي الحاصل والمستمر في هذا القطاع. ومن أبرز الشروط العديدة التي يجب أن يستوفيها النقل العام كي يستحوذ على ثقة مستخدميه، نذكر:
• تصميم الشبكة وفق دراسة مُعمَّقة للكتل الحيوية في الحاضرة وحركتها اليومية، ليس فقط خلال المدة الزمنية التي يجري فيها تخطيط الشبكة وتنفيذها، بل يجب الأخذ بعين الاعتبار أيضًا ما ستكون عليه هذه الحركة اليومية خلال المستقبل المنظور؛ لأن كل الحواضر الكبرى في العالم تشهد زيادات سكانية متواصلة، وإن تفاوتت نسبها بين هنا وهناك.
• الوصولية، وتوفير الخدمة لأكبر عدد ممكن من السكان. ولذا، نرى أن معظم شبكات النقل العام في العالم، تُضيف إلى القطارات شبكة من الحافلات تتقاطع معها، لتأمين ما يُعرف باسم “الميل الأول والميل الأخير” لمن هو بعيد نسبيًا عن محطات القطار.
• موثوقية أداء الشبكة على مستويين اثنين: مستوى مواعيد الحركة التي يجب أن تكون ثابتة وهي نفسها كل يوم، ومستوى الأمان. وبوجه عام، يمكن القول إن معظم وسائل النقل العام صارت تُلبي هذين الشرطين، أقله أفضل مما تُلبِّيهما السيارة.
• الإدارة الساهرة باستمرار على جودة الخدمة، مثل الصيانة وضبط أعداد الركَّاب في ساعات الذروة، وإصلاح ما قد يفسد في وسيلة النقل. فوسائل النقل العام تترهل بسرعة، وقد يتدنى مستوى نظافتها وحسن هيئتها، وهو ما قد يدفع القادر إلى الاستغناء عنها.
بتنفيذ “مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام في الرياض” تنضم العاصمة السعودية إلى الحواضر العالمية الكبرى التي تُقدِّم هذه الخدمة الكبيرة لسكانها.
• تسهيل الحصول على التذاكر بالطرق الآلية.
• يجب أن يكون الفارق بين ثمن التذكرة وكلفة الانتقال بالسيارة كبيرًا بما يكفي؛ لإغراء الطبقة الوسطى باستخدام النقل المشترك.
• إيلاء محطات النقل العام الاهتمام اللازم، بحيث توفر لمنتظر الحافلة أو القطار ما قد يحتاج إليه، مثل: الوقاية من العوامل الجوية، والمقاعد، والإشعار بموعد اقتراب وصول وسيلة النقل إذا أمكن. وكلما وفّرت المحطات مزيدًا من الخدمات في داخلها، أو أُقيمت في جوار مركز خدمي كبير، رغَّبت المتنقلين في استخدامها.
كل هذه الشروط صارت اليوم من البديهيات، وما من مشروع للنقل العام في العالم إلا ويأخذها بعين الاعتبار، ويزيد عليها. فماذا عن مشروع النقل العام في الرياض؟
اترك تعليقاً