مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

مكان الإنسان

ملامح التجربة الإفريقية في الفن

عادل السيوي

تمكّن رسوخ التقاليد في القارة الإفريقية من الحفاظ على قوة المنجز الجماعي، وصارت استمراريته هدفًا لا بوصفه فنونًا تخاطب الواقع وتسعى لتغييره، وإنما بوصفه منتجًا يحترم الخامات والاحتياجات العملية والروحية، ويعيد إنتاج ذاته. ولم تزل إبداعات تلك المرحلة تُثير الدهشة إلى يومنا هذا، وكأنها حضور خارج الزمن، بل منتج اكتمل في ذاته خارج التاريخ، وطاقة يصعب استنساخها. وعلى سبيل المثال، فما أبدعه الصنَّاع المهرة الأفارقة، في تصميمهم لأشكال الآلات الموسيقية يفوق جماليًّا الكثير من منحوتات الحداثة التي جرى الاحتفال بها بوصفها أعمالًا استثنائية. ولا يزال الإبداع الإفريقي في مجال النسيج وتلوينه وتجاوراته يُدهشنا بجرأته وطاقته العارمة خارج أي منطق للتوازنات والعلاقات اللونية التي تُدرّس في الأكاديميات لطلاب الفنون.

في المجمل كان المبدع الإفريقي ما قبل التجربة “الكولونيالية” مُحمَّلًا بطاقة بريئة تتجسَّد مكتملة. وكانت هواجسه ومخاوفه مكتملة أيضًا. يعتمد على رهافة حسية وجسدية أولية، أو لنقل طاقة روحية تجاه اللون والضوء تفوق إمكانات الإنسان الذي حكمته التقنيات والأفكار والانقسامات المجتمعية. باختصار، كان إبداع ما قبل الحداثة إفريقيًّا خالصًا. ولم يعد ممكنًا للأسف أن نطلق هذا التوصيف على أي منتج إفريقي ظهر بعد ذلك.

وقد كان ذلك الإبداع الإفريقي مرجعية ملهمة لمبدعي الحداثة الكبار. وأعتقد أن الرجوع إلى ذلك البُعد الطقسي الغامض والمُلغَّز؛ إلى ما هو خشن وغريزي وحسي، كان انعكاسًا لقلق غير معلن طارد وجدان الحداثيين، نابع من إدراكهم لتعمق انقسامات وهشاشة الإنسان، مع تعقد الواقع وتغوُّل التقنية وآليات التحكم في الوجدان الجماعي.

مع نمو الحواضر المدنية في إفريقيا وتوغل الجيوش الغازية إبان مشروع الاحتلال الأوروبي، بدأ التحول الكبير. فقد تعرَّف الأفارقة على فنون وتقنيات وإبداعات لم يألفوها، وظهرت اللوحة الفنية، التي كانت أعجوبة حيَّرت العين الإفريقية. في مطلع القرن التاسع عشر، سجَّل المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي واقعة فزع المصريين وهربهم عندما شاهدوا عرضًا للوحات الفنانين الفرنسيين إبان حملة بونابرت على مصر، اعتقادًا بأنها ليست بورتريهات مرسومة، وأن الفرنسيين قد اعتقلوا شيوخ الطرق الصوفية وسجنوهم داخل اللوحات. لم تكن خبرة العين المصرية قادرة، آنذاك، على تمييز الصورة عن الأصل: المشهد المرسوم عن الواقع، نظرًا لدقة الصياغة الكلاسيكية ومهارات التجسيم والمحاكاة والتظليل.

الحداثة.. تحت تأثير النموذج الغربي

كانت فكرة التقدُّم التي ولَّدتها الاكتشافات العلمية والتطورات التقنية في أوروبا تقفز فوق ثوابت الماضي، وتحوِّل المستقبل إلى مشروع عملي يمكن إدارته. مدت المراكز الأوروبية أذرعها للسيطرة على مقدرات القارة القريبة المحتفلة بماضيها ورموزها وطقوسها. وحقق هذا التداخل الشرس بين واقعين خلفية النقلة النوعية في تعامل الأفارقة مع الزمن، ومع المكان والإبداع أيضًا. وبدأت رحلتهم لاستيعاب هذا التشكيل الجديد للعلاقة بالواقع وبأنفسهم ولإدراك الفروق بينهم وبين الأجنبي.

هذا التأثير الكبير للتجربة الغربية لم يتوقف، بل تصاعد طوال الحقبة الكولونيالية. وفي القرن التاسع عشر، بدأت تحولات محلية تعكس تأثر الواقع الإفريقي بهذه المدخلات الجديدة. وقادت في مجال الفن إلى استيعاب وسائط وافدة؛ فقد جرى اعتماد لوحة الحامل إلى جانب التمثال المنتصب فوق قاعدته. كما بدأ وسيط جديد وهو الفوتوغرافيا في تغذية التجارب الإفريقية في التشكيل بمادة توثيقية للواقع. رحلة تحديث عالم الفن في إفريقيا بدأت إذًا تحت سيطرة النموذج الغربي ونسخت آلياته. ويمكن أن نلمح داخل رحلة التحديث هذه مرحلتين متمايزتين: الأولى، وهي الأطول مرحلة، هيمنة مراكز الكولونيالية الأوروبية، والثانية هي مرحلة الاستقلال الوطني والحكم الذاتي بعد رحيل القوات المستعمرة في القرن العشرين.

“لا يزال الإبداع الإفريقي في مجال النسيج وتلوينه وتجاوراته يُدهشنا بجرأته وطاقته العارمة خارج أي منطق للتوازنات والعلاقات اللونية”.

في مصر على سبيل المثال، وبعد استقرار الاحتلال الإنجليزي في 1888م، اُفتتحت أول أكاديمية للفنون سنة 1905م. كان أغلب الأساتذة من إيطاليا وفرنسا، وبدأ التدريس الأكاديمي للفنون بمناهجه الغربية يحتل موقعًا مرموقًا، وجرى الاعتراف به بوصفه فرعًا من فروع التعليم العالي. وفي العقود الأولى للقرن العشرين ظهرت في إفريقيا، أوَّل مرة، الجماعات الفنية: وبدأ الوعي بقيمة الأساليب والانحيازات لتوجهات إبداعية معينة، وظهر النص الـتأسيسي “المنافستو”، الذي يُعلن هوية الجماعة وتوجهاتها. في مصر، تأسست “جماعة الخيال” التي رأسها محمود مختار، وجماعة الفن المعاصر، والفن والحرية، والفن الحديث، والفن والحياة. كما ظهرت جماعة فنية في المغرب انشغلت بالموروث البصري الأمازيغي. وفي السنغال ونيجيريا وكينيا والسودان، كان الحرفيون يُحاولون دمج تراثهم الإسلامي بمعطيات الحداثة. وتكوَّنت جماعات مشابهة في جنوب إفريقيا وإثيوبيا.

رحلة تحديث عالم الفن في إفريقيا بدأت تحت سيطرة النموذج الغربي ونسخت آلياته. ويمكن أن نلمح داخل رحلة التحديث هذه مرحلتين متمايزتين.

وبدأت الكتابة في الفن مع تطور الصحافة المحلية، واتخذت ملمحًا تخصصيًّا، وهو ما أدى إلى بروز دور الناقد الفني، كما ظهرت بقية المؤسسات الفنية ولو بأشكال جنينية: الجاليري والأكاديمية ومتحف الفن الحديث والعروض، وهي المكونات الضرورية التي تشكِّل البنية التحتية لعالم الفن. ولكن ظلت أسواق الفن هشة ولم تسمح بتفرغ الفنانين للإبداع إلا في حالات نادرة.

على المستوى النظري، كان التـأثير الغربي حاسمًا، وكانت دروب الحداثة تقود إلى الخروج من عباءة الموروث وتحرير العمل الفني من التقاليد الأكاديمية. وجرت استعادة الإبداع البدائي نقديًّا والتواصل معه لتأكيد الخصوصية أو استدعاء الخصوصية المحلية، بما في ذلك شكل الواقع والبشر والأماكن كما في الفوتوغرافيا.

كان الحداثيون منتبهين لأهمية البحث عن الملمح المحلي والهوية ومناطق الاختلاف، وتحمس الكثيرون للتعبير عن الموقف السياسي، أو الانتماء والالتزام تجاه قضايا محلية إفريقية، مثل: النهضة، والسعي للحرية والمساواة، ومقاومة النهب والعنصرية والاستبداد. وبوجه عام، يُمكن القول إن حركة الفن الحديث في إفريقيا لم تنجح في الولوج إلى قلب حركة الحداثة العالمية وظلت على هوامشها، وتتحرك داخل حدودها المحلية في الأساس.

المعاصرة الإفريقية

أمَّا المعاصرة في النصف الأول من القرن العشرين، فكان لها بلا جدال موجات استباقية كبيرة، ومغامرات تمت داخل خيمة الحداثة (حركة الدادا على سبيل المثال)، وفي السنوات التالية مباشرة للحرب أيضًا. ولكنها رسَّخت وعيها وأطروحاتها مقترحًا بديلًا للحداثة بداية من الستينيات.

وكانت هناك مرحلة وسيطة ساد فيها مصطلح “ما بعد الحداثة”، ولكنه سرعان ما تراجع أمام قوة مصطلح “المعاصرة”. وتجري مراجعة مصطلح “المعاصرة” الآن من زوايا مختلفة، ومن أهمها امتداد القوس الزمني للمصطلح والتحولات الكثيرة التي تجعل تحديد المعاصر مهمة صعبة؛ فما الذي يجمع معاصر الستينيات بالمبدع الراهن الذي وُلِد في عصر تحكمه الوسائط والتقنيات الرقمية؟

لم تولد المعاصرة الإفريقية من رحم تحولات محلية خالصة، وإنما تشكَّلت عبر حوار ومتابعة واعية مع مخرجات المعاصرة في الغرب. وكانت الموجة الأولى من المعاصرين الأفارقة، الذين تفتح وعيهم بعد الحرب الثانية، ترى أن رحلة الحداثة قد أفرغت كل ما في جعبتها، وأن محركاتها لم تعد قادرة على سحب جسد القطار خلفها، بعدما خلفته من دمار وكوارث إنسانية، وأن الحداثة الفنية لم تعد قادرة على إثارة الدهشة، وتعمَّقت تبعيتها لإملاءات السوق على حساب دورها وموقفها إزاء الواقع. وعلى عكس الحداثة لم تسعَ المعاصرة لخلق نموذج أو لتحديد مواصفات وطرق معينة للإبداع.

“رحلة تحديث عالم الفن في إفريقيا بدأت تحت سيطرة النموذج الغربي ونسخت آلياته. ويمكن أن نلمح داخل رحلة التحديث هذه مرحلتين متمايزتين.”

ولا نعرف متى بدأ الوعي بالفروق بين تجربتي الحداثة والمعاصرة الغربيتين على مستوى الإبداع في إفريقيا، ولكنني أدرك من خبرتي المباشرة ومشاركتي في عروض إفريقيا منذ التسعينيات أن هذا العقد بالتحديد، عقد التسعينيات، كان منعطفًا مهمًا. ولا جدال في أن المسافة بين الحديث والمعاصر قد صارت الآن أكثر وضوحًا لدى معظم المبدعين.

اختار الأفارقة المعاصرون البحث عن صلات بهويتهم، والتفاعل في الوقت نفسه مع الوسائط الجديدة وتحولات المعاصرة العالمية. وكانت عملية الاندماج بالتيار العام للمعاصرة تختلف عمَّا وقع إبان الحداثة؛ فعالم الفن المعاصر تشكَّل بعد بروز وعي قومي قاد إلى موجة الاستقلال الكبرى في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ومع توفر آليات آنية فعالة للتواصل تعرَّفت الحركات الفنية الإفريقية على مقترحات المعاصرة من دون إعاقات كبرى ولم تتأخر الاستجابات.

في إبداعات الفن الإفريقي المعاصر، هناك ملامح تميز ما يجري الآن عن كل ما سبقه. ويمكن اختصار تلك الملامح في ثلاث ظواهر لم تشهدها تجربة الحداثة أو تاريخ الفن بوجه عام: الأولى هي حضور المرأة بوصفها مبدعة حضورًا كبيرًا ومؤثرًا ونوعيًا، والثانية هي الوجود القوي لمنتج إبداعات ملهمة في دول الأطراف أو لنقل الدول التي تقع خارج المركز أو المحور الغربي. أمَّا الظاهرة الثالثة والأهم، فهي الاعتماد على التقنيات المعقدة والرقمية التي لم تكن متاحة لأي تجارب إبداعية سابقة.

وهناك بين المعاصرين الأفارقة مَن اختار العمل من خلال وسائط جسدية أو مكانية ملموسة لها علاقة وثيقة بتاريخ الفن وموروث الحوار، مثل التفاعل الجماعي المباشر في فنون الأداء “البرفورمانس”، أو فن الحدث أو التجهيزات، وفن الجسد، التي تعيد بعث ممارسات جماعية وطقسية أيضًا.

لكن القطاع الأكبر من المبدعين في القارة ظل مرتهنًا بالوسيط التقليدي: اللوحة والتمثال والفوتوغرافيا والمطبوعة الفنية “أعمال الحفر”، وحاول داخل وسائطه هذه أن يكتشف قدرتها على المعاصرة. لدينا إذًا تصوير ونحت وحفر معاصر وفوتوغرافيا معاصرة أيضًا، ولكن هذه الوسائط المعتادة لم تعد منشغلة في المقام الأول بمهارات الأداء أو بمفهوم الجمال كما أرسته الحداثة.

مع المعاصرة، لم تعد قدرات الفنان تنصبُّ على الغواية البصرية، ولا على التوازنات البصرية أو اللمسة الخاصة الساحرة، ولا على الغموض وتعدد الإيحاءات؛ بل يسعى أغلبها للتحرر من تلك القيم، أو يعمل على إعادة انتاجها واستعادتها نقديًّا، أو على شكل ساخر. وزاد الالتفات إلى قيمة الأبعاد المفاهيمية. ولكن يجب ألا ننسى أن الحداثة نفسها كانت قد طرحت، ولو على استحياء، أسئلة كبيرة حول هوية العمل الفني، واللوحة وحدودها، وحول الجمال أيضًا. وربَّما كانت لوحة “ماغريت” الحداثية الشهيرة، التي تصوِّر غليونًا مصحوبًا بعبارة “هذا ليس غليونًا”، تجسِّد ذلك البعد المفاهيمي داخل تجربة الحداثة. وهذا ما جعل اللوحة نفسها قادرة على الحوار مع حدودها؛ لكي تتحول إلى سؤال عن هويتها.

الحضور الحالي

الحضور الكبير للأفارقة داخل العروض العالمية ظاهرة معاصرة. ويبدع الآن عدد وافر من الأفارقة داخل دول ووسط قوميات غربية أو شرقية. وربَّما وُلِد هؤلاء ودرسوا الفنون في معاهدها الكبرى، واكتسبوا ثقافتها. والآن، يمثِّل فنانو الشتات أو “الدياسبورا الإفريقية”، تحولًا غير مسبوق في سردية الفن الإفريقي.

أمَّا الملمح الثاني وهو بالغ الأهمية بالمثل، فهو الدور الذي تؤديه الوسائط الآن في تجاوز الفروق والعوائق المكانية. فجيل الإنترنت الذي عاصر الكمبيوتر الشخصي في طفولته، وُلِد وعاش داخل نسيج معقد من التفاعلات والمشاركات مع العالم بأسره. وهناك إبداعات تولَّدت داخل هذا الوسيط ولا تخرج منه، وهو إبداع يحدث بتقنيات رقمية ويجري عرضه وتداوله، بل الحوار حوله وبيعه أيضًا داخل الدوائر الافتراضية، ولا وجود له في العالم المادي.

يتحرك المعاصر الإفريقي داخل عالم يختلف كثيرًا عن ذلك العالم الذي عاشه الحداثي الإفريقي. وفي حالات إبداعية كثيرة وعالية المستوى نلمس تجاورًا بين أنواع فنية كانت منفصلة من قبل داخل عمل فني واحد. والملمح الأخير لتجربة إفريقيا المعاصرة، الذي نقلها إلى موقع لم ترقَ إليه إبان الحداثة، هو التطور الملحوظ في البنية التحتية لعالم الفن. وأقصد بها بنية المؤسسات الفنية: أكاديميات الفنون ودور النشر وقاعات العرض والمتاحف والمراكز الفنية المتخصصة.


مقالات ذات صلة

إن العلاقة بين الرواية والسينما ليست مجرد اقتباس مباشر، بل هي عملية تحول فني عميق. فكلتا الوسيلتين تحمل قوتين إبداعيتين مميزتين.

هل الحضارة الرقمية الحديثة تتبع حركة الجينات البيولوجية التي نتوارثها مع الزمن وهل تنتقل الأفكار بوصفها موروثًا ثقافيًا، من شخص إلى آخر؟

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.


0 تعليقات على “ملامح التجربة الإفريقية في الفن”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *