قد نكون جميعنا سمعنا عن فكرة المكتبة المتنقلة، أو ما يُعرف بـ “كتب على عجلات”، التي أصبحت شائعة في مناطق عديدة من العالم، والتي تعدُّ أحد أصناف المكتبات؛ إذ يكون رصيدها من الكتب على سيارة تجُول في المناطق النائية في أوقات منتظمة لتوصيل الكتب إلى المستفيدين في المجتمعات المحرومة من الخدمات الثقافية.
ولكن، ماذا عن الأماكن التي لا توجد بها طرقات أصلًا، والتي لا يمكن للعجلات السير عليها؟ هل تبقى مناطق مثل التي توجد في مقاطعة بلوشستان في باكستان بتضاريسها الوعرة وبما تعانيه من صعوبة الوصول إلى الموارد التعليمية، محرومةً من الكتب والمصادر التعليمية؟ أمَّا الجواب، ولحسن الحظ، فهو أن الحال ليس كذلك على الإطلاق، وذلك بفضل مديرة إحدى المدارس الثانوية المحلية، السيدة رحيمة جلال، التي قرَّرت الاستعانة بأحد الرعاة المحليين الذي يُدعى “مراد در محمد” وجمله البالغ من العمر 12 عامًا، لتوصيل الكتب إلى منطقة كيش النائية في مقاطعة بلوشستان من أجل مساعدة مئات الأطفال على مواصلة تعليمهم. ولتحقيق مشروعها هذا لجأت السيدة رحيمة إلى جمعية “حافلات أليف ليلى للكتب” الباكستانية لتزويدها بالكتب التي ستتكوَّن منها “مكتبة الجمل” التي ابتكرتها. وجمعية “حافلات أليف ليلى للكتب” هي جمعية باكستانية كانت قد تأسَّست عام 1978م، بهدف إيجاد حلول للمشكلات التعليمية في باكستان، وذلك من خلال عدة مسارات فعَّالة لتحقيق محو الأمية بنسبة 100%، وتحديث التعليم في ظل القيود الاجتماعية والاقتصادية القائمة. وبالفعل، فقد نجحت في إنشاء أكثر من 7000 مكتبة متنقلة في جميع أنحاء باكستان، مع أكثر من 1.5 مليون من الكتب التي تمَّ التبرُّع بها في العقود الأربعة الماضية.
وقد أُطلق على الجمل في تلك المكتبة اسم “روشان”؛ أي “الضوء الساطع”؛ لأنه كان سيُنير طريق التعليم للأطفال المحرومين في بلوشستان. وقد تقرَّر أن يقوم روشان برفقة صاحبه والسيدة رحيمة برحلات منتظمة إلى قرى بلوشستان، محملًا بحوالي 50 كتابًا باللغتين الأردية والإنجليزية، تشمل قصصًا وكتبًا عن المعرفة العامة والعلوم والدراسات الإسلامية. وكان غالبية الأطفال المستهدفين من طلاب الصف الأول إلى السادس الابتدائي. مع العلم أن طلاب المدارس الثانوية كانوا يُقبلون أيضًا على أنواع الكتب بمختلف عناوينها. أمَّا برنامج عمله، فكان محددًا بأيام الجمعة والسبت والأحد من كل أسبوع. خلال هذه الفترة، كان يغطي أربع قرى مختلفة، وفي كل قرية يمكث ساعتين، من الساعة 4 مساءً حتى 6 مساءً. كان الأطفال يختارون الكتب التي يرغبون فيها على أن يعيدوها في الأسبوع التالي. وفي كثير من الأحيان، كانت السيدة رحيمة تساعدهم في اختيار الكتب وتُقدِّم لهم العون والمساعدة في كل ما يحتاجون إليه.
من بعيد عادةً ما يكون المشهد كالتالي: يمشي الجمل روشان ويغرس حوافره في الرمال، متجنبًا الحصى وهو يسير ببطء على طول السهول مترامية الأطراف نحو القرية المقصودة، ويمر بمناظر من الممكن وصفها بأنها تنتمي إلى مشاهد من العصور الوسطى؛ إذ ترى منازل صغيرة، أبوابها مغطاة بأكياس الخيش، تنتشر على التلال، وأشجارًا وحيدة تقف متناثرة. أمَّا اللون الوحيد في المشهد الرملي الباهت، فهو ألوان الرسومات التي تزين الشاحنات على الطريق السريع، والأطفال الذين يرتدون ملابس سلوار قميصية زاهية الألوان، وهم يتسابقون لمقابلة صديقهم الجمل روشان، ليس لركوبه، بل للحصول على حمولته من الكتب والقصص. وكان سرج روشان المزخرف بأشكال التطريز المميزة من المجتمع المحلي، مثقلًا بالكتب من الجانبين إلى أن يحط رحاله ليستقبل الأطفال، وهم يهتفون من الفرح للقائه.
مما لا شك فيه أن “مكتبة الجمل” هذه تجلب البهجة والانفتاح على العالم الخارجي، وتُسهم في نشر ثقافة القراءة بين الأطفال، حيث تُقدِّم لهم فرصة لاختيار الكتب التي تناسب اهتماماتهم. وهي ذات أهمية خاصة لهؤلاء الأطفال الذين يعيشون في أكثر مقاطعات باكستان فقرًا، وتعاني انخفاضًا في معدلات معرفة القراءة والكتابة، وتكافح الاضطرابات السياسية والمشكلات منذ أكثر من 20 عامًا. كما أنها تُقدِّم نموذجًا واضحًا عن كيفية قدرة الحلول الإبداعية على معالجة التحديات التعليمية الملحة في المناطق النائية، بحيث يشكِّل نجاحها مثالًا ملهمًا لمشاريع مماثلة في جميع أنحاء العالم.
ومن ناحية أخرى، ربَّما تكون الكتابة عن “مكتبة الجمل” في الوقت الحالي، وتحديدًا في عام 2024م، بمنزلة تحية للإبل في عام قد خُصِّص للاحتفاء بهذا الحيوان الذي طالما كان له أهمية خاصة في مجتمعات مختلفة، وربَّما إضافة أهمية أخرى له، ثقافية في هذه الحال، إلى جانب أدواره الأخرى، حيث كان جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية والبقاء لعدد كبير من البشر.
اترك تعليقاً