هذه الوحدة الرائعة.. ما يمكن أن يعلمنا إيَّاه الوحدانيون والمنبوذون الذين يُساء فهمهم عن الإبداع
This Exquisite Loneliness: What Loners, Outcasts, and the Misunderstood Can Teach Us About Creativity by Richard Deming
تأليف: ريتشارد ديمنغ
الناشر: 2023م، Viking
وحيد.. تأملات في الحياة الانفرادية
Alone: Reflections on Solitary Living by Daniel Schreiber
تأليف: دانييل شرايبر
الناشر: 2023م، Reaktion Books
هناك فرق بين الوحدة والعزلة، فالوحدة حالة عقلية تظهر عندما يشعر المرء بالتباعد النفسي عن الآخرين. أمَّا العزلة، فهي تجربة جسدية، تنشأ عندما يُمنع المرء، كما حدث في أثناء تفشي جائحة كورونا، من الوجود الفعلي مع الأقرباء والأصدقاء وزملاء العمل. من الناحية العلمية، أصبح من المؤكد أن الغربة في حالتيها العقلية والجسدية، تزيد من خطر الإصابة بمختلف الأمراض بدءًا من أمراض القلب والأوعية الدموية، وصولًا إلى مرض السكري والاكتئاب. ولكن الشاعر ومدير مركز الكتابة الإبداعية في جامعة ييل الأمريكية، ريتشارد ديمنغ، أراد أن يسجل في كتابه “هذه الوحدة الرائعة”، ملاحظة مخالفة؛ إذ اعتبر أن الشعور بالوحدة، إلا أنه يمثل مشكلة في حد ذاته، بقدر ما يحمل معه إمكانات عدة.
وقد توصل إلى هذا الاستنتاج من خلال تسليط الضوء على ستة كتّاب وفنانين من القرن العشرين، أظهروا أن الوحدة يمكن أن تجلب معها فوائد عاطفية وتعزز الإبداع. فجميع هؤلاء المبدعين الستة قدموا أعمالًا فنية وأدبية كانت وكأنها “دليل على بحثهم عن معنى وجودهم وهم يطلقون مناداة الاستغاثة من أعماقهم المضطربة”. ولكن هذه الأعمال كانت أيضًا، وللمفارقة، تجمع الآخرين معًا كمشاهدين للأفلام، وقرّاء للكتب، وغيرهم ممن يختبرون نتاج الوحدة بشكل غير مباشر.
يستكشف “ديمنغ” تأملات هذه الشخصيات وكيفية تعاملها مع الوحدة، فيذكر المتخصصة بالتحليل النفسي، ميلاني كلاين، التي قالت في مقالتها المعروفة “حول الإحساس بالوحدة” إننا نحن البشر نتشارك جميعًا في شعور أساس بالوحدة، متجذرٍ في اللحظة التي نختبر فيها أنفسنا أول مرَّة في مرحلة الطفولة، كأفراد متميزين، منفصلين جسديًا وعقليًا عن أمهاتنا. وبقدر ما يكون الأمر مؤلمًا، فإن هذا الإدراك البدائي هو أيضًا ما يدفعنا للسعي على مدى حياتنا إلى إقامة علاقات عاطفية مع الآخرين تمثل قيمة إنسانية متكاملة. ومن الشخصيات التي تناولها “ديمنغ”، رود سيرلينغ، الذي طوّر المسلسل التلفزيوني الشهير “منطقة الشفق” في ستينيات القرن الماضي؛ إذ كان يقدم رؤى ووجهات نظر حول جوانب مختلفة من الغربة الإنسانية في “ظل صقيع نيران الوحدة التي كان يعانيها”. وبذلك استطاع تحويل “مشاعر العزلة والاغتراب” الخاصة به إلى تجربة وطنية جماعية. وهناك أيضًا الكاتبة، زورا نيل هيرستون، التي ابتكرت شخصيات خيالية تعاني العزلة والوحدة التي كانت قد اختبرتها هي نفسها، فتفاعل معها القراء عندما رأوا تجاربهم الخاصة، في العزلة الذهنية والانفصال الجسدي، تنعكس في كتبها، وشعروا بقدر أكبر من الطمأنينة وبدرجة أقل من مشاعر الخجل بشأن المسار الذي اتخذته حياتهم.
ويتخذ الكاتب الألماني دانييل شرايبر في كتابه “وحيد”، موقفًا مشابهًا لموقف “ديمنغ”، على الرغم من أن اهتمامه ينصب أكثر على كيف أن العزلة والوحدة تساهمان في التعرف أكثر على ذواتنا، وتؤديان إلى اكتشاف جوانب من أنفسنا ربما كنا قد فقدناها في ضبابية النشاط الاجتماعي ومتطلبات الآخرين. يجمع “شرايبر” بين تجاربه وتأملاته الشخصية وبين رؤى فلسفية ونفسية وثقافية في موضوع العيش مع الوحدة، ويستمد من مؤلفات وكتابات أدبية، مثل: كتاب “والدن” للفيلسوف الأمريكي ديفيد هنري ثورو، الذي سجل فيه تجربته خلال السنتين اللتين قضاهما وحيدًا في إحدى الغابات، ورواية “روبنسون كروزو” للكاتب الإنجليزي دانيال ديفو، التي تروي مغامرات الشاب روبنسون كروزو، وهو يعيش معزولًا في إحدى الجزر.
يقول “شرايبر” إنه لم يحدث من قبل في أي عصر من العصور أن عاش هذا العدد الكبير من الناس بمفردهم، ولم يسبق أن شعروا بالوحدة على نطاق واسع أو بهذه القوة كما هو اليوم؛ فالوحدة أصبحت تنتشر في جميع أنحاء العالم بمعدل غير مسبوق. ومن جهة أخرى، يضيف أن الحب الرومانسي هو “السردية الكبرى” الوحيدة التي نجت من التحولات المجتمعية “الزلزالية” في العصر الحديث، ولكن ذلك ترك الشعور الفردي طويل الأمد بالوحدة، وكأنه فشل اجتماعي فادح، وجعله شعورًا موصومًا ومشحونًا بالخجل والخوف. غير أن للوحدة دورًا كبيرًا في حياتنا، وهناك أشياء معينة لا يمكننا تعلمها إلا عندما نكون وحيدين، ووفقًا لـ “شرايبر” من المهم استباق هذا الفهم، قبل أن تفاجئنا الحياة بمآسيها ومصاعبها كالحزن والمرض. ومن تأملاته أيضًا، أننا عادة ما نتخبط بين الرغبة في العزلة، والرفقة والألفة والحب. ويرى أن لا أحد يمكنه أن يعيش وحيدًا تمامًا، وهو لا يوافق على ما قاله جون بول سارتر في مسرحيته “لا مخرج”، إن “الجحيم هو الآخرون”؛ لأنه يعتقد أن للصداقات دورًا في تقديم العزاء عندما يشتد علينا الشعور بالوحدة.
يكشف هذا التأمل الفريد عن الوحدة الذي قدمه هذان الكتابان، كيف يمكننا تحويل ألم العزلة العاطفية والاستفادة منه لنصبح أكثر تواصلًا مع ذواتنا المضطربة لعلّنا نتمكن من استخراج ما تحمله من طاقات إبداعية فريدة.
اترك تعليقاً