مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

لماذا قد ننساق وراء ما لا نحبه؟

مفارقة الفيروسية على وسائل التواصل الاجتماعي


سمية العتيـبي

دائمًا ما نسمع الناس يشكون من انتشار المحتوى السلبي والمثير للانقسام والمعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك نجد أن هناك طوفانًا من الأخبار الكاذبة والإشاعات الملفقة والمحتوى المثير للخلاف، الذي ينتشر بسرعة انتشار الفيروسات على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن ناحية أخرى، ومما هو مثير للاهتمام، أن الكثير من هذا المحتوى يُنشأ بواسطتنا نحن المستخدمين! فلماذا تنتشر معلومات كهذه إن لم نكن نوافق على مضمونها أصلًا؟ لماذا ننقر على خيار الإعجاب أو المشاركة إذا لم يكن ذلك يعبر عن رأينا بالفعل؟ هل سلوكنا على وسائل التواصل الاجتماعي يعكس تفضيلاتنا؟ متى يصبح انتشار المعلومات انتشارًا فيروسيًا؟ ما السبل لتغيير هذا السلوك على وسائل التواصل الاجتماعي؟

تتنوع استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت جانبًا مهمًا من حياتنا المعاصرة منذ دخولها إلى عالم الإنترنت في أواخر القرن العشرين، لكنها دائمًا ما يكون لها هدف أساس، وهو المشاركة؛ أي مشاركة الأفكار والصور ومقاطع الفيديو على مختلف أشكالها، بالإضافة إلى تبادل المعلومات، بحيث يمكن لجميع هذه المشاركات أن تكون صحيحة أو مضللة، أو مجرد أنها تعبّر عن رأي صاحبها لا أكثر. ولكنها في جميع الأحوال يمكن أن تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي من دون حسيب ولا رقيب في معظم الأحيان.

ولا نختلف أن الهواتف الذكية مهدت لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح يستخدمها %59 من سكان العالم. وبحكم هذا الانتشار الحتمي لوسائل تواصل تعتبر سهلة ورخيصة، انتشر معها انتشارًا “فيروسيًا” كثير من المحتوى السلبي والإشاعات والمعلومات المضللة، ووضعتنا أمام مفارقة حول أسباب ذلك. فمن يُسهم في جعل محتوى سلبي أو معلومة مضللة تنتشر انتشارًا فيروسيًا، هم ليسوا سوى مستخدمي هذه الوسائل أنفسهم، الذين يشاهدون ويستهجنون هذا المقطع أو تلك الصورة.

محتوى خارج السيطرة

وفقًا للأستاذة المتخصصة في مجال المعلومات والتكنولوجيا والمجتمع في جامعة واشنطن، كارين ناهون، فإن مصطلح الفيروسية هو “عملية تدفق المعلومات، حيث يقوم العديد من الأشخاص في وقت واحد بإعادة توجيه معلومة محددة خلال فترة قصيرة من الزمن، داخل شبكاتهم الاجتماعية الخاصة، ومن ثَمَّ تنتشر خارج شبكاتهم (الاجتماعية) الضيقة إلى شبكات مختلفة بعيدة في كثير من الأحيان، مما يؤدي إلى زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين يطلعون على تلك المعلومة”.

وبكلام آخر، يُقصد بالفيروسي: المحتوى الذي انتشر انتشارًا واسعًا، سواء في وسائل الإعلام التقليدية، أو وسائل التواصل الحديثة؛ إذ إن كلمة “فيروسي” في اللغة الإنجليزية أُطلِقت أول مرَّة في أواخر الثمانينيات إبان انتشار الشبكة العنكبوتية، ولقيت رواجًا كبيرًا منذ بداية الألفية. وسُمِّي فيروسيًا؛ لأنه بالعادة ينتشر دون تحكم من مُنشِئه، وهذا ما نلاحظه في وسائل التواصل، حيث ينتشر محتوى ما دون سيطرة من صاحبه، بل في بعض الأحيان يتراجع صاحبه عنه، لكن كما يقال: “سبق السيف العذل”. ويسير هذا المحتوى ضمن نسق اجتماعي يكون التواصل فيه على قدر من التعقيد.

مجتمع عابر للمجتمعات

لقد ابتكرت شركات وادي السيلكون مجتمعًا جديدًا داخل المجتمعات التقليدية، وذلك عن طريق ما يُسمَّى وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة. هذه الوسائل، وإن سُمِّيت افتراضًا بوسائل، خلقت مجتمعًا رقميًا مستهلكًا لمنتجات رقمية وعابرًا للمجتمعات. لذلك، يُكوِّن الأفراد في هذا المجتمع هويات خاصة بهم وانتماءات محددة.

في كتابه “استهلاك الحياة”، تحدَّث عالم الاجتماع البولندي، زيجمونت باومان، عن مفهوم المجتمع الاستهلاكي، فوسّعه ليشمل كل المجتمعات الحديثة المعروفة. لكن المجتمع الشبكي يجسده بصورة فجة جدًا. فهو تُسيّره منظومة اقتصادية تعمل على تشييء الإنسان وما يتعلق به، وعلى وجه الخصوص عقله معْقل إنسانيته والمتحكم في دوافعه، كما يرى هيربرت ماركوز في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد”. فالمحتوى هناك، في ظني، ليس سوى أشياء استهلاكية لأنفُس متطلعة للجديد، جديد من المشاعر أو المحتوى، على نحو لا واعٍ من الأفراد أنفسهم. فلا ترتبط تلك الأشياء بالإنسان صانعها، بل تتوافق مع نسق اقتصادي شُيِّئ فيه كل شيء حتى الإنسان ودوافعه، فنهمه اللاواعي نحو الجديد هو ما يسيره.

الجديد.. ثم الجديد

يذكر الكاتب ديريك طومسون في كتابه “صُنّاع النجاح.. كيف تنجح في عصر المشتتات؟”، أن معظمنا مهووسون بالجديد. وفي هذا المجتمع الاستهلاكي الذي جرى فيه تشييء رغبات الفرد وإرادته فأصبحت منفصلة عنه، يعتبر هذا الأمر في ظني حقيقيًا؛ إذ إن اشتهاء الجديد وإدمانه والرغبة بالمزيد، أبرز ما يميز هذا المجتمع الذي يَعِد أفراده ويُحفز رغباتهم بالجديد… والجديد الذي لا نهاية له. فالشركات في كافة القطاعات تعد بالمزيد من الجديد كل يوم، ويُعزّز ذلك بمفهوم الموضة أو الهبة. أمَّا على وسائل التواصل الجديدة على وجه الخصوص، فالجديد يُخلق كل ثانية. فكما ذكر باومان “يبدأ اقتصاد النزعة الاستهلاكية بفرض منتجات جديدة”.

ولذلك، متصفح “إكس” أو “تيك توك”، على سبيل المثال لا الحصر، موعود بسيل من المنشورات والفيديوهات التي لا حد لها. ويجد هذا السيل من يستقبله في مجتمع استهلاكي يتكئ على رغبات غير مُشبعة، فتكون دائمًا متطلعة للجديد الذي تطمع أن يشبعها كما يذكر باومان. لكن ميزة هذه الرغبة في “مجتمع المستهلكين” على عكس “مجتمع المنتجين” أنها غير مشبعة على الدوام، فهي متطلعه للجديد دومًا. وهذا التطلع المحموم للجديد، في ظني، هو أحد أسباب الفيروسية. فالمستخدم المتطلع للجديد لن يتوقف عن متابعة ما يستجد في ساحة مجتمعه، حتى وإن أسمينا هذا المجتمع بالافتراضي. غير أنه يسري عليه ما يسري على المجتمعات التي نعرفها من تفاعلات اجتماعية وغيرها.

وقائع اجتماعية أم سلوك قهري؟

لكن ما نسميه تفاعلًا في هذا المجتمع الافتراضي، لا أعتقد أنه يسري عليه قواعد التفاعل الواقعي. فمنشور في “إكس” على سبيل المثال، قد يحصد مشاهدات عالية جدًا بمجرد مخالفته لعُرف ما أو رأي أو نحوه مما يعتبر انتشارًا فيروسيًا بمجرد مشاهدة المستخدمين له. لكن هل كل من شاهده يتفق معه؟ الجواب لا. فلا يمكن أن نقارن هذا الانتشار مثلًا، بمشاهدات فِلم ما في السينما أو برنامج ما في قناة تلفزيونية حين يختاره الفرد بملء إرادته. حتى إن هناك دراسة حديثة في علم الأعصاب لمستخدمي وسائل التواصل، تكشف عن السلوك القهري لمستخدميها، سواء في خلق المنشورات، أو التفاعل معها. لكن، هل هذا سلوك قهري استثنائي تعيشه مجتمعاتنا حصرًا دون أي مجتمعات سابقة؟

إذا أسمينا المجتمع الشبكي مجتمعًا، فهذا يعني أنه كيان اجتماعي يتميز بالترابط والتداخل، ليس في وسيلة اتصال منفصلة وحدها، بل في سائر العالم الشبكي، بحيث يتكئ على ما أسماه عالم الاجتماع الأمريكي إيرفينغ غوفمان “الانتباه المتبادل” كإحدى القواعد السلوكية التي تحافظ على المجتمعات، والتي تقوم عليها الوقائع الاجتماعية التي أسماها عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم. تلك الوقائع الاجتماعية هي وسيلة فرض على الفرد تُجبره على تصرف ما، مما يجعل الفيروسية أسهل مما كانت عليه في أيام انتشار الإعلام التقليدي. فالعالم الشبكي متداخل على نحو كبير جدًا، وما يحدث في وسيلة تواصل تجد أصداءه في الأخريات. وأعتقد أن هذا بسبب أن العالم الشبكي كمجتمع واحد يتفاعل مستخدموه بعضهم مع بعض، بطريقة عولمية تتجاوز حدود الدول وتتماشى مع كثير من خصائص مفهوم “المجتمع”، مما يعني أن الكثير من المشاهدات تحدث من دون إرادة منا أو وعي. ولربَّما البعض منها، في ظني، يحتمه التفاعل الاجتماعي المعروف الذي لا يخلو أي مجتمع منه، كما نرى في” الانعكاسية”.

ما نسميه تفاعلًا في المجتمع الافتراضي، قد لا تسري عليه قواعد التفاعل الواقعي. ولا يمكن أن نقارن الانتشار فيه بمشاهدة فِلم ما في السينما يختاره الفرد بملء إرادته.

مجتمع انعكاسي

وصف السوسيولوجي المعروف، أنثوني غوديز، عالمنا الحالي بأنه “عالم يتشكل من الانعكاسية حتى جوهره”، أي النظر إلى الذات والآخر لخلق الفهم والتغيير. وهذا ما نجده يتجلّى في المجتمع الشبكي على نحو واضح جدًا. بل قد يكون أشد وضوحًا فيها؛ إذ إن سلوك الفرد على هذه الوسائل دائمًا ما يكون متبوعًا بردّات فعل الآخر. فالمنشور يُلحق به التعليقات والتفضيلات وما إلى ذلك، مما يحتم تفاعلًا أعلى، ومن ثَمَّ انتشارًا فيروسيًا. هذا التفاعل النشط الذي تحتمه الانعكاسية، وطبيعة المجتمعات التواصلية، التي “تشير آخر الأبحاث إلى أن متوسط عدد المعارف الذي يفصل بين أي شخصين في العالم ليس 6 بل 4.74″، هي المنشأ لهذا الانتشار الفيروسي.

ولأن القضاء على الظاهرة الفيروسية في وسائل التواصل الاجتماعي أمر شبه مستحيل، فهي على الأرجح باقية ما بقي الإنسان. وقد عرفت البشرية في سلوكها ما يشبه هذه الظاهرة منذ مهدها، ولذلك فوجودها أمر حتمي في كل مجتمع. ورغم أن وسائل التواصل الجديدة ضاعفت سرعة الانتشار، فإن الوعي الإنساني من المستخدمين لذواتهم والمجتمعات من حولهم بإدراك هذا التشييء المادي لذواتنا والعالم من حولنا، ومآلاته على تواصلنا الاجتماعي الحالي، يفرض عليهم معرفة أدواته وأساليبه. فهذا هو السبيل الوحيد لتخفيف هذا السيل الفيروسي لهذا المحتوى السلبي والمضلل؛ لأننا من دون وعي ومعرفة لا يمكننا المُضي نحو حل أي إشكال إنساني.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “مفارقة الفيروسية في وسائل التواصل”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *