المشهد الأول
فيما كنت طفلًا، فتحت عينيَّ على “طقس” فريد عجيب كانت تقوم به معظم الأمهات في جزيرة فرسان في موسم صيد سمك “الحريد”، الموسم الذي يأتي في شهر أبريل من كل عام، وهو بمثابة عيد من أعياد القلب. كانت أمي صالحة العقيلي تكحل عيني بذيل سمكة الحريد الناعم، فيما تتمتم في رقة نسمة وكأنَّها في صلاة: “يا الله بعودة.. يا الله بعودة “. هذا “الطقس” الساحر كلما تذكرته سال دمع القلب.
على أي حال، سمك الحريد سمك وديع جدًّا، يمكن صيده باليد المجردة أو بكيس السكر والرز أو بالقميص الذي يرتديه أحدنا؛ فهو مهاجر مسالم، لا يجرح ولا يسيل دمًا. ثمة تفاصيل تتعلق بموسم صيد الحريد تلهب ذاكرتي منذ الطفولة حتى هذه اللحظة: رائحة “البوسي”، التي تسطع ليلًا؛ “كيس الصيد”، وطريقة إعداده مع الطوق والحبل قبل أن يحين الموسم بوقت كاف؛ ركوب الحمار ليلًا والوصول عند تباشير الفجر حيث تكون وقائع الصيد في منطقة “حَصيص” الجميلة؛ تناول طعام “الفطور” المتقشف الذي تعدّه الأمهات ليلًا، ممزوجًا بالزغاريد والفرح والأماني البهيجة؛ الأغاني العذبة المصاحبة للموسم: “حريدنا قد خرجْ، وردّ العاده”؛ توزيع السمك على الأقارب والجيران والأطفال والفقراء وكبار السن، ولا يجرؤ أحد على بيعه لأنه سيكون محط ازدراء الناس وسخريتهم؛ إقامة الأفراح “النسوية” التي تشبه الأعراس، وهي ذات عبق خالص في بيت آخر امرأة تزوجَت في الجزيرة.
المشهد الثاني
أتذكر هذا جيّدًا. عندما كنت صغيرًا، كانت لدينا في جزيرة فرسان احتفالية جميلة تسمّى “المرّاشَّة”. منذ العصر تجتمع النساء في بيت آخر امرأة تزوجَت في الجزيرة، وإن مَرَّ على زواجها عام كامل. في الفناء تكون البراميل مليئةً بالماء، وحين يحلّ الغروب تبدأ النسوة برَشّ بعضهنّ، وهنّ يضحكنَ بمرح ويغنين بعذوبة هكذا:
“الليله..
تاسعْ وعاشورْ
الليله..
رشّوا الحمامه”.
نحن الأطفال كنا نتلصص بفضول واندهاش كبيرين على هذا المشهد وهو يقطر جمالًا وأنوثةً وفتنة. آه ما أجمل تلك الصورة!
المشهد الثالث
من أشد ذكريات الطفولة في جزيرة فرسان إلحاحًا على الذاكرة طقوس “الحِمْل”، وهو نقل “دَبَش” العروس إلى بيتها ليلًا. الجَمَل في كامل زينته يقعد ويقوم، يقوم ويقعد، بينما ترن الأجراس الصغيرة المعلقة برقبته. الرجال يحملون “الأتاريك”، ليبدد نورها حشود الظلام. أما النساء فيغنين ويرقصن بعذوبة آسرة، على وقع إيقاع امرأة اسمها “زعفران”، هكذا:
“بَرَكْ بَرَكْ
والله ما بَرَكْ
يقومْ يقومْ
والله ما يقومْ..”
كلّ هذا يحدث في الشارع أمام بيت العروس، وكأننا نشاهد مسرحًا مفتوحًا في الهواء الطلق. الرقص يكون محتدمًا، والفرح يملأ المكان، والنسوة يلمعْنَ كالأقمار في ليل الجزيرة، بينما رائحة الفل والكادي والطيوب النسوية الأخرى تعبق في ليل “الحارة”. من تلك الأزهار العبقة ما يُسمّى باللهجة الفرسانية “المُونُس”، الذي ينبت في أفنية البيوت بعد هطول المطر. إنه في غاية الرقة؛ إن لم تَمْسَسه برفق يستحيل نثارًا يذروه النسيم العليل. له رائحة صاخبة تضوع في المكان وتملأ الأفق. أمَّا ليلًا، فيزداد عبقه الذي يدير الرؤوس والقلوب معًا. في الأعراس والليالي الملاح تصنع منه السيدات “الفرسانيات” تيجانًا وعقودًا للزينة. وحين يذهبن إلى حفل الزفاف، يذهبن سيرًا على الأقدام؛ تثمل الشوارع من فرط ذلك العبق الذي يملأ الهواء ولا يبرح الذاكرة.
المشهد الرابع
ليست النساء وحدهن من يستبدّ بهن الشغف بالرقص، فالرجال يفعلون ذلك أيضًا، وربما بجنون أشد. أحد الأصدقاء في جزيرة فرسان روى لي حكاية أبيه مع الرقص و”الزِّير”، حيث الإيقاع الشعبي العريق الذي يدير الرؤوس، قائلًا: “يكون أبي مريضًا، محمومًا، متعبًا جدًّا، وراقدًا في السرير، لكن ما إن يسمع نقرة الزير حتى يدبّ فيه نشاط غريب. فجأةً يتحرك؛ ينهض كما لو كان حصانًا، ويمضي راقصًا نحو الساحة المجاورة ليشارك الناس رقصهم وأفراحهم وغناءهم الذي يملأ الآفاق”. إن للزير لسطوة طاغية، وهو نوع من أنواع الطبول، حين يدقّ عليه أحدهم يسري في الجسد دمٌ جديد، وفي الأعماق تتفتح روح أخرى.
هكذا يحدث في جزيرتي في جميع المناسبات المفعمـة بالفـرح، وفي كلّ الأوقات التي تشهد أعياد القلب. وكلّ واحد من هؤلاء الراقصين هو مشروع “زوربا”، على غرار ما جاء في رواية كازانتزاكي أو فِلم أنطوني كوين. ثمة إيقاع صاخب يضرم نارًا في لغة الجسد، ثمة رقص يحتدم في فضاء الشارع، ثمة فرح عفويّ يتدفق بسهولة كنبع ويكسر كلَّ الأقواس، ثمة أعراس تتجاسر على فكرة “العُبوس”؛ تلك التي حاول العابسون طيلة أربعين عامًا “تهريبها” إلى الجزيرة، لكنهم فشلوا فشلًا ذريعًا. على أيّ حال يتجلّى في مشهد الرقص “صيادون في شارع ضيق”، كما يقول عنوان رواية جبرا إبراهيم جبرا، وهنا أبناء وأحفاد صيادين بسطاء هم من سلالة البحارة الفاتنين الذين يحبون الفرح ويعشقون الحياة، الذين إذا لم يجدوا ما يبهجهم في الواقع اخترعوا بأنفسهم ما يبهج القلب.
المشهد الخامس
الفنان التشكيلي الصديق عبدالوهاب عطيف يفيد كثيرًا من الموروث الشعبي في منطقة جازان، منطقتنا الغنية بألوان عديدة من هذا الموروث الذي لا ينضب، وتحديدًا في جزيرة فرسان. في لوحاته، جسَّد عطيف طقس “الختان”، وهو يُسمّى أيضًا “العُلى”، الذي كان سائدًا في المنطقة؛ فمن يستبسل ولا يرف له جفن يُحتفى به بالزغاريد والرقص وتغني له النساء هكذا:
“عبده لا تعلّى
في حمَى الله
لا وَلّعْ سجاره
شايكيُّفْ”..
كما وظّف عطيف في فنه التشكيلي طقسًا آخر يُسمّى “السرور”، يأتي بعد طقس “الختان”، وفيه ترقص النسوة ويغنين فيما يوجهن خطابهن لأم الصبي المختون هكذا:
“يا أم السرورْ
سَرَّني ما سرّكْ
يا أم السرورْ
قطعّي مصرّكْ”..
وتقوم هنا الأمّ بتمزيق “المصرّ”، أو المنديل، الذي تشدّ به شعرها المتوَّج بالفل والكادي والبعيثران والمونس؛ ليتناثر كلّ هذا ويضوع العبق في فضاء المكان، في حركة مسرحية مدهشة تلفت إليها الأنظار.
حين يكون في الجزيرة فرح أو عرس، الشوارع المفضية إلى هناك تعبق، الليل يضوع، فالنساء مرَرْنَ من هنا.
كلّ امرأة بفستانها “الميل”، تمضي إلى العرس.
تتدفق في الدرب موجة من نعاس.
في جيدها قمرٌ وعقد من الفل،
وحول خصرها النحيل يلمع الذهب.
فوق هامتها إكليل من “شِمَاس”،
بعيثران، وكادي..
طيوبها تضوع .
من فرط عبقها
ثمة هواءٌ يثمل،
وشارع يترنّح.
ومن شدة سطوة تلك الليالي الجميلة، لا تزال أغانيها ترنّ في الذاكرة، كما ترنّ أصوات الوعول في أعالي الجبال، هكذا:
“محمدْ سلّمْ واستلَمْ
محمدْ صاحبْ القلَمْ
محمدْ بندقُهْ قَرَحْ
محمدْ يعجبُهْ الفرَحْ”.
المشهد السادس
في طفولتي كنت في الصيف أرحل مع عائلتي من فرسان إلى قرية صغيرة اسمها “القصار”، وأعيش فيها أربعة أشهر هي فترة الإجازة الصيفية حينذاك، وتُسمّى هذه الانتقالة الجميلة “الشَّدَّة”. هذه القرية، التي تشبه قبضة ريحان، غارقةٌ في أشجار النخيل والظلال والحنين والأغاني وأعراس النوارس وخطرات الغزلان الرشيقة الفاتنة، التي تبدو مذعورةً في راهنِنا. في صغري سمعت أمي تقول: “كانت الغزلان تستريح هادئةً في ظلال البيوت”.
البيوت محض بساتين تتوسطها آبار ذات مياه عذبة. بيتنا البسيط كان فناؤه بستانَ نخيل فاتنًا ومؤثّثًا بالشجن كصوت أمي. ليلًا كنا ننام باكرًا في الفناء المفتوح على همس النجوم ونزهة الغيوم وحفيف السعف حين تداعبه النسائم القادمة من جهة البحر؛ البحر القريب كنبضة قلب. فجرًا كنا نستيقظ على موسيقى البلابل والعصافير وهديل الحمام وعبق القهوة والهيل ورائحة خبز التنور والمطر. باكرًا كانت أمي تقطف وتملأ سلّةً صغيرةً من الرطب لنتناوله مع القهوة المرّة المستطابة، وباكرًا كنا نسمع خطى الحياة وهي تدبّ حثيثةً في الطرقات، وباكرًا أيضًا كنا نصغي إلى أعراس القلب واخضرار الفرح.
المشهد السابع
“أكْحَلْ” قالْ لـ”يعقوبي”:
شلّوا بي،
وحطّوا بي..
في السطحه تهنّوا بي..
ما اسوّي بروحي؟
هذا نصٌّ من نصوص الذاكرة الشعبية في جزيرة فرسان، وهو مقطع من تلك الأغاني المتداولة التي تتغنى بها النساء في موسم صيد طيور تُسمّى محليًّا “الجراجيح”، وهي طيور مهاجرة تأتي إلى “فرسان” بحثًا عن الدفء كما يبدو.
في هذا النص يروي طائر مهاجر يُسمّى “أكحل” معاناته مع “الصيادين” لطائر آخر مهاجر يُدعى “يعقوبي”. راقت لي بُنية النص فهي تبدو لي نصًّا خارجًا على بنية النص الشعري التقليدي، فهي أقرب إلى بنية قصيدة التفعيلة. كما أن المضمون هنا ليس حبيسَ دلالة واحدة سطحية، وإنما هو مفتوح على دلالات أكثر رحابة وعمقًا وربما تقتحم قلعة “التابو”، وكل ما هو ممنوع الاقتراب منه على صعيد الكتابة الإبداعية.
وهذا النص في بنيته هذه التي تشبه قصيدة التفعيلة الحديثة يذكرني بنص آخر، يردده الرجال في رقصة “الزامل” الشهيرة في جزيرة فرسان، وهي تُقام بعد مراسم “ختان” الصبي، وبها نفَس فروسيّ واضح، وحضّ على الرجولة والبسالة والشجاعة التي يفخر بها المجتمع، هكذا:
“سلامْ، يالحنشْ القتّالْ
يا زِعْرْ وادي القنا، والهيلْ
خَذْنا رقابَ العِدا
في ساعه..
ما همّنا لو سوادْ الليلْ”.
المشهد الثامن
تشتهر جزيرة فرسان بزراعة أشجار النخيل، وفي قرى القِصَار والسقيد والمحرّق تتجلى على مد النظر بساتين النخيل المثمرة كل صيف. لقد كانت في طفولتنا ملاذنا ومصدر فرحنا وإلهامنا وأعراس أرواحنا. في تلك البساتين كنا نصيد العصافير والحمام، وكنا نلهو في ظلالها السخية.
أيضًا تشتهر الجزيرة بزراعة الذرة والبطيخ. وثمة مزارع شهيرة، أذكر منها مزرعة “النشمة”، ومزرعة “البعيدة”، ومزرعة “الشعاروة”، ومزرعة “داود”. وكل مزرعة من هذه تُسمى محليًّا “زهب”، وجمعها “زهوبه”. من أشهرها “زهب داود”، وهو حقل ذرة واسع وكبير، ولي بهذا الحقل ذكريات جميلة منذ الطفولة. كان أبي يعمل فيه بالأجرة اليومية، يبذر حبوب الذرة خلف المحراث الذي يجره ثور، وكنت أذهب إليه في الصباح حاملًا الشاي والفطاير التي تعدها أمي. كنا نجلس معًا في ظلال الشجر نسمع غناء العصافير وهديل الحمام ونتناول الطعام ونتابع بسعادة أعراس التراب. حين تنمو أشجار الذرة وتشرئب أعناقها في الأعالي أجد نفسي غارقًا في تأملات عذبة، فيما تموج السنابل مثقلةً إذ تهبّ النسائم.
وفي السياق ذاته، أذكر هنا مزرعة كبيرة تقع على تخوم قرية “صَيّر”. البحر لا يبعد عنها سوى أمتار قليلة، ومع هذا تنتج بطيخًا وشمَّامًا غاية في العذوبة، كونها تزرع إثر هطول الأمطار.
ما لفت نظري أيضًا هو أن هذه المزرعة المترامية الأطراف من دون سور، وعلى الرغم من هذا لا تتعرض ثمارها للسرقة. جدير بالذكر إن عددًا من شباب “فرسان” يقومون في كل موسم أمطار بزراعة عدد من “البساتين” المهجورة، وتوزيع ثمارها على الناس مجانًا.
وهنا لا يفوتني الحديث عن منطقة تُدعى “بين الزهبين”، إذ يقع شارع طويل بين مزرعتين تموج فيهما سنابل الذرة. في ظلّ أخضر يجلس العم عيسى مظفر على بطانية قديمة عصر كل يوم. “ناظوره” العجيب هو نافذتنا الصغيرة على الدنيا الفاتنة التي كنت أحلم بأن أدسها في جيب قميصي وأن أغفو طويلًا في الندى. العم عيسى يتيح لنا نحن الصغار أن نطل من تلك النافذة بأعين مندهشة لنتنزه في أجمل مدن العالم: باريس، روما، لندن.. إلخ. هذا الرجل العادي البسيط كان ينهض بمهمة ليست عادية: تثقيف العيون، وتربية الذائقة، ومنح المخيلة أفقًا شاسعًا كي تطير.
اترك تعليقاً