اُختتمت مؤخرًا أحداث معرض “سيتي سكيب” الذي عُقد في الرياض ما بين 11 و13 سبتمبر 2023م، وصاحبه عرض عدد من المشاريع المهمة، ومنها المشاريع السكنية والتجارية ومتعددة الاستخدامات التي ستغير الأفق السعودي. كما تضمن هذا الحدث عرض خططٍ ومشاريع لفتت الأنظار إليها بسبب تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في تحسين جودة الفضاءات العامة في المدن السعودية وجعلها مساحة تدعم التجــارب الديناميكية والتبادلات والتفاعلات للمستخدمين. ويمتلك معظم هذه المشاريع القدرة على دعم حيوية هذه التفاعلات من خلال التنوع الواسع لطبيعة الفضاءات العامة التي سيجري خلقها، وكذلك تنوّع المستخدمين الذين سيُسمح لهم جميعًا بالشعــور بالمساواة والاحترام في هذه الفضاءات، وفي الوقت نفسه ستجمعهم الهوية الثقافية القوية للمكان.
إن أعظم ميزات الفضاء العام في المدينة، وربما أعظم إنجازاته، هي مؤانسته، التي تتجلّى في العروض المستمرة للمحادثات والتقاط الصور والتحيات الودية بين المستخدمين والأنشطة المستمرة التي نراها يوميًّا من خلال تفاعلنا في هذه الفضاءات العامة، أو بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي التي نقلت شيئًا من الفضاء العام للمدينة ليصبح بشكل افتراضي، وهذا موضوع آخر لا يتسع المجال للتطرق إليه حاليًا.
ولعل أبرز ما يلفت النظر إلى المشاريع الموجودة في “سيتي سكيب”، يكمن في تأثيراتها التي ستسهم في تغيير مفهوم الفراغ العام في المدينة، وخصوصًا الشارع كمكان تشاركي وتفاعلي، بسبب التطورات التي حصلت في الفترة الأخيرة على مستوى تحسين المشهد الحضري والبصري في المدن السعودية، بل وقيادة المشهد في بعض المشاريع الفريدة الأخرى، كمشروع “ذا لاين” في نيوم، والمسار الرياضي في مدينة الرياض، واتفاقية تطوير معايير التصميم لوسط المدن السعودية. فهذه المشاريع ستُبنى على الأصول والإمكانات المحلية والانطلاق منها لخلق بيئة تسهم في بناء المجتمع، وتُحفّز التفاعل بين أفراده، وتدعم الإبداع.
أمام واحد من خيارين
إننا اليوم في مدننا أمام صراع في إدارة المدن من حيث التعامل مع الشارع كفراغ عام، إذ يقود هذا الصراع تياران: أحدهما يدعو إلى مزيد من الطرق السريعة في المدن لحل الاختناقات المرورية وزيادة ربط أرجاء المدينة بعضها ببعض والمحافظة على السيارة كوسيلة نقل داخل المدينة؛ وتيار آخر يدعو إلى إتاحة الفرصة لحركة المشاة والنقل العام كأولوية تنقّل بدلًا من السيارة. وعلى ذلك، ومن خلال هذا المنطلق، يمكننا أن نعرّف الشارع اليوم على أنه فراغ تقني يؤدي وظيفة النقل. كما تسعى الكثير من الجهات والمنظمات إلى جعل الشارع فراغًا تشاركيًا أو فراغًا متكاملًا يسهم في تعزيز الجانب الاجتماعي والاقتصادي.
والتفاعلات في الشارع كفراغ مجتمعي هي لبنة بناء المجتمعات والثقافات والاقتصادات المحلية القوية. الشارع الديناميكي بشكل خاص ينبض بالحياة بسبب المجتمع الذي يرعى ويراعي هذه الفضاءات في المدن، ويعتبرها أماكن مشتركة قادرة على أن تكون ساحة ثقافية واجتماعية وترفيهية واقتصادية. كما أن العديد من الشوارع التي تنبض بالحياة اليوم لم تُبنَ بسبب ثراء المدن التي تحتضنها، بل إن المدن أصبحت ثرية بسببها. فالشارع يصنع الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمشاركين فيه، الذين بدورهم يصنعون الشارع. وقد يكون البائع، الذي يقضي وقتًا أمام متجره للتحدث مع المارة ودعوتهم للشراء من متجره أو عند الدعاية له، هو الذي يرسخ المكان حقًا ويجسد ما يجعل هذا الشارع حيويًا. وعادة، عندما يكون البيع بالتجزئة للمساهمة في التجربة العامة، وليس فقط للاستفادة منها، يصبح من بين أكبر العوامل المساهمة في الشوارع الناجحة؛ وهو ما يسمح للشوارع بالتنافس مع مراكز التسوق وسلاسل المتاجر. إذ تبدو المدن نابضة بالحياة على هذا المقياس الإنساني للشارع. ومع ذلك، لا أحد غير المشاة ومن يخدمونهم يعيرون هذا المقياس أي اهتمام.
الشارع الديناميكي ينبض بالحياة بسبب المجتمع الذي يُراعي فضاءات المدن، ويعتبرها أماكن مشتركة قادرة على أن تكون ساحة ثقافية واجتماعية وترفيهية واقتصادية.
تجربة حضرية غير مسبوقة
ما يدفعنا إلى تناول هذا الموضوع، هو ما سيشكل ثورة حضارية مستقبلًا من خلال ما ستقدمه المملكة عبر مشروع “ذا لاين”، الذي يضع الإنسان في المقام الأول كمحور رئيس للمدينة. إذ سيوفر هذا المشروع تجربة معيشية حضرية غير مسبوقة على المستوى الاجتماعي، مع الحفاظ على الطبيعة المحيطة كبعد بيئي للمشروع. ومن ثَمَّ، فإن هذا المشروع سيُعيد تعريف مفهوم حياة المدينة والتنمية الحضرية، وكيف سيكون شكل مدن المستقبل، ونموذجها الاقتصادي الذي ستعتمد عليه، وتفاعلاتها الحيوية.
إن القيم، التي اعتمد عليها مشروع “ذا لاين” ليقدم مفهومًا مختلفًا تمامًا عما سبقه من المدن، تعرض الشارع بطريقة غير مسبوقة، فتجعل من الفراغات العامة في المدينة أماكن تقدم أكثر مما هو متوقع منها. فهي فراغات لا تلتزم بالجاذبية، بل تتشكل وتتكون في أبعاد ومحاور مختلفة عما هي عليه في المدن الحالية، لتتيح إمكانات جديدة لمستخدمي هذه الفراغات. كما أن أنظمة النقل المختلفة التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالشارع قد تَغيّر مفهومها وتكوينها في “ذا لاين” وأصبحت هناك أنظمة فعالة لا تعتمد على السيارة كليًّا كنظام تنقل.
إن “ذا لاين” كمشروع، هو في طريقه إلى إتاحة المجال أمام ابتكارات نقل حديثة، كما حصل حينما تطورت المصاعد لتوفر إمكانات جديدة لناطحات السحاب. وبذلك، فإن شكل الشارع ووظيفته في “ذا لاين” سيُحدث ثورة غير مسبوقة قد تعيد صياغة تفاعلاتنا الاجتماعية أيضًا.
والنمو السريع الذي نشاهده اليوم في المدن له تأثير هائل على العلاقة بين المستخدمين الحضريين والمساحات الاجتماعية. لذا، قد تختلف احتياجات المستخدمين وتصوراتهم في “ذا لاين” عن مستخدمي الشوارع الآخرين في المشاريع الموجودة اليوم. وقد لا يقتصر تأثير هذا المشروع على شكل التكوين الحضري للمدينة، بل يمتد إلى إعادة صياغة متطلبات المستخدمين لإنجاح تفاعلاتهم الاجتماعية فيها، وإعادة تعريف المقياس الإنساني الذي ندعو له.
نموذج آخر عن مفهوم مختلف للشارع
وثمة مشروع آخر حضر في معرض “سيتي سكيب” وقدم مفهومًا جديدًا للشارع واستخداماته على مستوى المدينة، وهو مشروع “المسار الرياضي”، الذي يُعد أحد المشاريع الكبرى لمدينة الرياض.
يسعى هذا المشروع إلى تعزيز مكانة الرياض في التصنيف العالمي، لتصبح إحدى أفضل المدن ملاءمة للعيش في العالم، من خلال تعزيز الصحّة البدنية والنفسية والاجتماعية، وبناء مجتمع ينعم أفراده بحياة كريمة ونمط حياة صحّي في بيئة إيجابية جاذبة لسكان المدينة وزائريها.
يمتد مشروع المسار الرياضي بطول يتجاوز 135 كيلومترًا على طريق الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ويربط بين وادي حنيفة في غرب المدينة ووادي السلي في شرقها، ويتضمن أكثر من 4.4 ملايين متر مربع من المساحات الخضراء المفتوحة، وأكثر من 50 موقعًا للرياضات المتنوعة، ومعالم فنية مميزة؛ بالإضافة إلى عدة مواقع ومناطق استثمارية تبلغ مساحتها الإجمالية أكثر من 2.3 مليون متر مربع.
يتكامل هذا المشروع مع المفهوم المتطور للشارع في المدينة، بتعزيز الاستخدامات والأنشطة الرياضية والثقافية والاجتماعية وتجميل المدينة ككل. ومن ثَمَّ، فإن هناك ارتباطًا وثيقًا بين وجود مجموعة متنوعة من الأشخاص والأنشطة في الشارع وتأثيرها على قابلية العيش في المدينة. فتصميم الفضاءات الحضرية بشكل جيد يأتي هنا لتلبية الاحتياجات والتفضيلات الفعلية لمستخدمي المناطق الحضرية. وهذه المساحات الحضرية ستصبح مع مرور الوقت “أماكن” من خلال هذه الأنشطة البشرية، والفضاء الحضري الذي هو بطبيعته عبارة عن “إحساس” بالنسبة إلى مستخدميه، وستزداد انتماءات المستخدم لهذا الفضاء.
إن المدن الجيدة اليوم هي أماكن للقاء الاجتماعي. إذ تشمل صفات المدن الجيدة صفات البيئة المادية، والأنشطة والاستخدامات الوظيفية، والصفات الاجتماعية للمساحات الحضرية. وسيزيد هذا المسار من فعالية المدينة، وما سيقدمه لها هذا المشروع لا يقتصر على مستوى الأنشطة والاستخدامات، بل سيكون رافدًا للبنى التحتية للمدينة وممرًا لشبكات الخدمات. كما سيحتضن أماكن للفنون والفعاليات والمتنزهات بوجود منشآت داعمة لها في أجزاء من هذا المسار.
ومن دون شك، فإن هذا المسار في تكوينه المادي سيكون رائعًا بسبب التنوع الموجود فيه. فهناك المسطحات المائية، ومنطقة الوادي، ومنطقة السينما، ومنطقة أخرى مخصصة للدراجين، وحدائق ومتنزهات على امتداد هذا المسار رُبطت بشبكة النقل العام لتخلق بيئة مميزة ممتدة على أرجاء المدينة، وتربط سكانها بمفهوم جديد يقدم نموذجًا مبتكرًا حول المعيشة والرياضة والترفيه والتنقل في المدينة.
معايير التصميم وإرشادات التخطيط الحضري
من جانب آخر، برزت في “سيتي سكيب” مذكرة تفاهم تسعى إلى تعزيز إرشادات التخطيط الحضري ومعايير التصميم في المملكة وقعتها وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان وشركة وسط المدينة السعودية، وذلك لتطوير معايير التصميم المعماري في 12 مدينة. وتدعو هذه المذكرة إلى التعاون في وضع متطلبات التخطيط وقواعد التخطيط العمراني والخطط المحددة للمشاريع في الشركة التابعة المملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة. كما تهدف إلى تحسين معايير التخطيط والتصميم للمكوّنات الحضرية مثل: الحدائق والساحات العامة ومواقف السيارات وجميع جوانب الحياة الحضرية. وهذا الاهتمام بالفراغات العامة والساحات المدنية يعد أمرًا رائعًا، إذ سيسهم في تكوين مراكز حضرية صديقة للبيئة في مدن مثل: المدينة المنورة والأحساء والخبر وبريدة والطائف وعرعر من خلال هذه الشراكة. كذلك سيمتد تأثير هذه الشراكة إلى تحسين المشهد المعماري والعمراني في حائل والباحة وجيزان ونجران ودومة الجندل وتبوك.
إلى جانب ذلك، تعاونت الوزارة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية لتحسين التخطيط المكاني والمناظر الطبيعية الحضرية في المدن السعودية، بالاستفادة من الخبرات العالمية، والعمل على حزمة من المبادرات الهادفة إلى تعزيز الاستدامة وتحسين نوعية حياة السكان ورفع مستويات المعيشة. ويُعتقد أن مخرجات مذكرة التفاهم هذه سوف تسهم في صناعة المكان من خلال دعم حركة المشاة ووسائط النقل الأخرى جنبًا إلى جنب مع السيارات. وكذلك ستجعل أواسط المدن مناطق قابلة للمشي بحيث تكون هذه الأماكن مساحة للتواصل والتفاعل الاجتماعي، وتسهم في خلق أسلوب حياة صحي. كما سيكون هناك، بلا شك، تبنٍّ لصناعة المكان من خلال أسلوب فعّال من حيث التكلفة والنموذج الاقتصادي الذي سيسهم في تنشيط الحركة الاقتصادية في أواسط المدن.
ختامًا، إن الاحتياجات الفعلية للمستخدمين الحضريين هي أهم الأبعاد التي يجب إعطاؤها المزيد من الاهتمام من أجل إعادة تقييم جودة الفضاء وتصميمه مع مرور الوقت. كما تساهم جودة المكان ونسيج المدينة في تحديد هوية المكان وفي نهاية المطاف تعزيز الصحة والشعور بالانتماء إلى المجتمع المحلي والمكان؛ وهذا ما يمنح المستخدمين إحساسًا بالشخصية المميّزة، ويرضي الاحتياجات الوظيفية المهمة، ويثير العواطف أو المشاعر، ويصنع ذاكرة المكان.
اترك تعليقاً